مصطفى الحاج حسين - مذكرات ما قبل الولادة... مقتطف من رواية:

جدّتي (صبريّة) من أقوى النّساء، إلّا أنّها تنصاع، لرغبات وأوامر جدّي.. فهي تخافه، وتحبّه، من لحظة ما تعرّفت عليه، يوم الحصاد، أشفقت عليه، ساعدته، وعلّمته، وأعجبت به، بل فتنت بجماله وأحبّته.. وجدّي (سامي) لا يغيّر من طبعه، فهو ابن (الأغا)، الذي يفرض إرادته، على كلّ النّاس.

في بداية شبابها، تزوّجت من ابن عمّتها، في بلدها (حماة)، التي هرب منها والدُها، بعد أن ارتكب، جريمة قتل، ولجأ إلى قريتهم (أبو طلطل)، البعيدة ، بعد أن تنكّر، وغيّر اسمه، لكي لا يعرفه أحد، ولأجل ألّا يقع، بيد (الدرك)، الذين يبحثون عنه، في كلّ البلاد السّوريّة.
والدها (قدري).. اشتغل عند جدّها، والد أمّها (ليلى)، مزارع في أرضه، الشّديدة الخصوبة، والعظيمة العطاء، بعد أن صارحه، بحقيقة أمره،ووضعه الحقيقيّ.. فهو مجرم، عند (الدرك).. لكنّه أمام الله، هو بريء، وشهم، وقبضاي، ورجل شريف.. وحر، فَقَدْ أجبر على ارتكاب جريمته، بدافع المروءة، والنّخوة، والشّهامة، وكان ذلك في الزّمنِ (العثماني).. كان (قدري) والد جدّتي، أيّام صباه، له أصدقاء، وأصحاب، يلتقي بهم، ويمضي وقته بصحبتهم، لكنّهم كانوا يعانون من ضيق الحال، فلا عمل عندهم، ولا (مصاري)، يشترون بها ما يحتاجونه، وخاصة التبغ، الذي أدمنوا عليه.. فقال واحد من أصحابه:
- ما رأيكم أن نتسلْل في عتمةِ الليل، ونسطو على، مسكن رئيس (الكركون)، فهو مليء بالذّهب، و(بالمصاري).
أعجبوا بالفكرة، وراحوا يراقبون مسكن رئيس (الكركون)، حين يغادره ليلاً، يداهمونه، وهم خمسة شبّان، مسلّحين بالخناجر.
وحين حانت الفرصة، وتأكّدوا أنّ رئيس (الكركون)، ليس في مسكنه، تسلّلوا ملثّمين، في العتمة، وبأياديهم الخناجر.
توزّعوا على الغرف، لتفتيشها، والبحث عن الذّهب، و (المصاري) ، ودخل والد جدّتي، وصديقه المقرّب له أكثر من الجميع، (فارس)، إلى غرفة النّوم.. أوقد (فارس)، شمعة كانت معه، وضع الشّمعة المضيئة، على طرف النْافذة، كانت هناك امرأة، تغط في نومها، على السْرير الواسع، ويرقد إلى جانبها، طفلها الرّضيع، اقترب والد جدّتي من السّرير، وراح (فارس) صديقه يبحث في الخزن، والأدراج.. وصحت المرأة على الأصوات، الخافتة التي صدرت عن فتح الأدراج، ولمحت (قدري) والد جدّتي الملثّم، والقابض على خنحره، فوق رأسها، فصدرت عنها، صرخة رعب، فأسرع والد جدّتي لإسكاتها، واضعاً يده على فمها، ودمدم بصوت مرتعش:
- أخرسي.. واحذري أن تصدري، أيّ صوت، وإلْا قتلتك، وقتلت ابنك.. نحن لن نؤذيك، إن أعطيتنا الذّهب، و (المصاري) التي هي عندكم.
انكمشت.. شدّت نحوها اللحاف لتستر صدرها المكشوف.. وقالت، ودقّات قلبها، تسبق صوتها الخائف:
- أرجوك لا تقتلني، ولا تقتل ابني.. وسأعطيكم ما تريدون.
- اطمئنّي.. ولا تخافي.. لن نؤذيك، لا أنت، ولا ابنك.. لكن أعطينا، وبسرعة ما عندك.
توقّف (فارس) عن البحث، وترك الخزن والأدراج، واقترب من السّرير.. في حين هرع، رفاقهما الثّلاثة لعندهم، وفي هذه الأثناء، صحا الطّفل، وفغر باكياً.. فخاطبته أمّه:
- اصمت يا بنيّ.. واصبر.. حتّى أعطي أخوالك الذّهب و (المصاري).. ثمّ أرضعك.
حين سمع (قدري)، والد جدّتي هذه المرأة، تقول لابنها عنه، وعن رفاقه (أخوالك).. خجل من نفسه، وصحا على أمره، وتراجع عن السّرقة.. قال:
- يا شباب.. بما أنّ هذه المستورة، تقول عنّا لابنها، بأنّنا أخواله.. فقد تحرّم عليّ سرقتها، ولن أسمح لأحد، أن يسرقها، فهي بعهد الله، صارت أختي، وأمانة في رقبتي، هي وابنها، منذ هذه اللحظة.
صرخَ (فارس)، وكأنّه مجنون، فقد صدمه، ما سمع من صاحبه، (قدري):
- ماذا تقول؟!.. أبَعدَ أن نجحت خطتُنا، تريد التّراجع؟!، لأنّها قالت عنّا أخواتها.. فلتّحمد ربها، أنّنا لم نغتصبها، أو نؤذي ابنها.
صاح والد جدّتي (قدري) محتداً:
- اصمت يا (فارس).. وارجع من هنا.
فأماط (فارس) الّثمام، عن وجهه، ليلعو صوته:
- هل صرت شريفاً الآن، يا (قدري)؟!
.. من أين جاءك، هذا الشّرف فجأة
؟!.. إن كانت أعجبتك، اغتصبها، و ارتوِ منها، ونحن ننتظرك خارج الغرفة.
زعق (قدري)، والد جدّتي.. وكان الغضب قد تملّك منه:
- اخرس.. يا حقير.. أنا نعل رجلي، أشرف منك، ومن عائلتك.
وكانت المرأة مرعوبة، ومنكبّة على نفسها، لتستر نفسها.. بينما ولدها غارق في بكائه.. وأخذ رفاقهم الثّلاثة، يتدخلون، ويحاولون تهدئة الوضع.
وهجم (فارس) على السّرير، ونقضّ على الطّفل الصّغير، من جوار أمّه، الجزعة، والباكية، والمنهارة.. تضاعف بكاء الصّغير، أحسّ بيد، متوحّشة، شرسة، خلعت قلبه، وأطبقت على أضلعه، بعنف:
- أعطِني الذّهب.. قبل أن أذبحه لك.
وجأرت المرأة، من شدّةِ خوفها:
- أرجوك.. أترك ابني.. وأنا أعطيك كلّ ما تريده.
َوانبعث صوت رفيقهم الثّالث:
- توقّف يا (فارس).. دعنا نتفاهم مع (قدري).
صاح (قدري) وكان في قمّة غيظه:
- قلت لكم.. هيّا بنا نذهب، قبل أن يعود زوجها.
لكنّ (فارس)، صاح موجهاً كلامه، إلى المرأة العاجزة، عن فعل أيّ شيء، اخلعي ذهبك، وأعطيني إيّاه، بسرعة.
وبدأت الأمْ، تنزع الأساور من يديها، بينما كان (قدري)، ينبّهه، ويحذّره، ويهدّده.
و(فارس) مصر، على أخذ ما عندها، من ذهب و (مصاري).. حاول(قدري)
الاقتراب من صديقه، المتأهْب لخطف روح الطّفل، دون أيّ تردّد.. صاح (فارس) بغيظ شديد:
- ارجع يا (قدري).. ابتعد عنّي.. وإلّا..
وهنا.. كان الخنجر، قد انغرز في قلب (فارس)، و (قدري)، لا يدري كيف؟!، استطاع أن يقتربَ، من (فارس) وطعنه؟!.
سقط الطّفل، من بين أيدي (فارس)، وتمكّن.. وبسرعة فائقة، (قدري) من التقاط الطّفل، لم يتركه، يسقط على الأرض.. وانبعث أنين صادر، عن ألم هائل، وتدفّق دم غزير، من صدر (فارس)، ترنْح، وتحرّك نحو الباب، قبل أن يرتمي على الأرض، وتعالى صياح المرأة، وصرخات الرْجال، المندهشة مّما حدث، بهذه السْرعة الخاطفة:
- ماذا فعلت يا (قدري)؟!.. لقد قتلت (فارس)، صديق عمرك، وأخوك!!.
وخرجوا من الغرفة، هاربين.
لكن (قدري) التفت إلى المرأة.. وطلب منها أن تهدأ، وتقوم بإرضاع ابنها، الذي فرط قلبه من كثرة البكاء
.. ثم قال لها:
- سامحيني يا أختي، عليّ أن أهرب، قبل مجيء زوجك.
وقبل أن يخرج.. صاحت من خلفه:
- توقّف يا أخي (قدري).. أرجوك.
استدار إليها، وعيناه تلمعان، من كثافة الدّمع.. قالت:
- ألا تتعرّف الأخت، على وجه أخيها
؟!.. [ونزع اللثام لأرى وجهك، وأحفظ ملامحه، وتقاسيمه، إلى آخر لحظة من حياتي.
نزع (قدري) لثامه.. وعاد نحو المرأة خطوتين، وردْد:
- سامحيني.. أنا لست حرامي.. لكنْ الشّيطان، والظروف الصّعبة، كانتا السْبب.
مدّت يدها إلى طرف السّرير، أخرجت كيساً فيه (مصاري)، ناولته (لقدري).. الذي انتفض، ورفض، وقال:
- لا.. أنا قتلت رفيقي، لأجل أن لا يسرقك أحد.. فكيف آخذ منك الآن؟!.. هذا مستحيل.
- إلى أين ستذهب الآن؟.
- سأهربّ.. إلى بلد بعيد.
- لهذا أعطيتك (المصاري)، ستحتاجها، خذها أرجوك.. أنت ابن حلال، وشهم.. سأطلب من زوجي أن يسامحك.. وأن لا يبحث عنك.. ألم تقل إنّي أختك؟!.. وهل الأخ، يرفض عطاء أخته؟!.
أخذ (قدري)، (المصاري)، وتسلّل.. وهرب.

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى