د. محمد عبدالله الخولي - سرديات (اللامرئي) بين الواقع والمتخيل في القصة القصيرة قراءة نقدية في " عالم يطن في أذني" للكاتبة مروة مجدي

في البداية يجب التنويه أنّ مفهوم الرواية والقصة أضيق بكثير من مفهوم السرد؛ إذ الحياة سردية كبرى تندرج تحتها سرديات متنوعة ومختلفة، إذ يشتبك الإنسان بمختلف أحواله مع السرد شفاهيًّا وكتابيًّا، بل يخترق السرد جميع قطاعات الحياة ومستوياتها المختلفة، بداية من مستويات التعامل الحياتية إلى المستوى الأدبي، ومن هنا نستطيع القول: أنَّ الرواية والقصة القصيرة بوصفيهما نوعين من الأجناس الأدبية يندرجان بخصائصهما الفنية تحت سقف السرد في صورته الشمولية.
ليس شرطا أنّ كل قصة تحتوي سردا، وليس كل سرد تفيض عنه قصة، فالأخيرة عندما تتبنى الحكاية وحدها، وترتكز عليها بالكلية دون العبث بها وفق سردية معينة، وأسلوبية خاصة بالقاص، فهي الحكاية وحدها. إذن هناك فرق واضح بين مصطلحي: القصة والسرد، فالقصة هي الحكاية، والسرد هو الطريقة التي تُحكى بها الحكاية، إذن السرد القصصي هو فعل الحكي الذي يستند على مرتكزين: المحتوى الذي يضم الأحداث والشخوص، والطريقة التي تحكى بها القصة، فالسرد يعني الطريقة، أو الكيفية التي تحكى بها القصة عن طريق السارد للمتلقي، ويعني كذلك عملية التمثيل اللغوي للواقع الذي ينقل بطرائق لغوية مختلفة بعد العبث به إلى القارئ، فالسرد يعمل على زحزحة الواقع من عالمه الوجودي إلى عالم اللغة بطرائق مخصوصة تقبع خلفها رؤى القاص.
إذن لا يهتم القارئ النموذجي بالحكاية قدر اهتمامه بالطريقة السردية التي انطمرت فيها الحكاية بأحداثها وشخوصها، فخلف هذه البنية السردية للقصة يقبع ما يسمى نقديا بـ " الميتا -فكشن" ونعني به السردية المتخافية خلف البنية السطحية للنص، حيث تصبح السردية الحكائية دالا على سردية أخرى لا تظهر على سطح البنية، وتكون هذه السردية المتخافية هي المدلول الذي يبحث عنه القارئ النموذجي "هكذا تكون القصة القصيرة تشكيلا فنيا وليس عملا اعتباطيا، إنها جهد بنائي واع لمبدع يدرك حساسية المكونات وفعاليتها. وهي بذلك وزيادة عليه، ذات رؤية تحاول صهرها في المكونات الفنية، هذه الرؤية ليست خطابا مباشرا، بل رسالة رمزية شديدة الإحياء لطيفة الأثر". فالقاص الذي يعتمد المباشرة، وينقل الواقع بحرفيته إلى النص القصصي يفقد فنَّ القصة القصيرة مضمونه وغايته، فلم تعد القصة القصيرة كسابق عهدها الأول، نكتفي منها بالحكاية والأحداث، فقد تخطّت القصة القصيرة هذا الأمر منذ أمد بعيد" فالقصة الحديثة نهضت أساسا على مبدأ تنظيم هيكل الحكاية، وتكوين عالم ذي مستويات متعددة، لا تؤلف الحكاية فيه إلا عنصرا إذ تنافسه عناصر أخرى عديدة، يتمرأى كل منها على مرآة الحكاية، وقد يتماهى فيها" ولن يستطيع القاص أن يفعل هذا الأمر، إلا إذا أدخل الحكاية أو القصة في بنية سردية متمايزة يتم التواصل من خلالها بين القاص والقارئ.
إنّ الواقع الإنساني الذي نعيشه الآن، وما ينتابه من صراعات وأفكار ورؤى وتناقضات، وقوى سلطوية عالمية تحاول تهشيم المركزية الفكرية للإنسان، وتعمل على تشتيت الهوية الإنسانية، كل هذه الأسباب جعلت كل الفنون الأدبية – ومنها بالضرورة القصة القصيرة- تغير مسارها في عملية التعبير عن الداخل الإنساني، لتحدث مواءمة بين الخارج الواقعي وجوانية الذات الإنسانية، وعبر هذه الفنون يحاول الإنسان تهشيم هذا الواقع والخروج على سلطته القاهرة لتتجلى (أنا) الإنسان الذي يحاول جاهدا الخروج إلى عوالم أخرى تنوجد فيها إنسانيته، ولذا " تطورت القصة في العصر الحديث، وأصبحت تؤدي دورا خطيرا في حياة الإنسان والمجتمع الحديث، إذ سميت ملحمة العصر الحديث لأنها أخذت تعكس كل ما يدور في المجتمعات الحديثة من مشكلات وأفكار وصراعات ووقائع لها دلالات خطيرة. بعد ذلك انتقلت القصة القصيرة إلى مرحلة جديدة فصارت تجسّد قضايا الإنسان الميتافيزيقية مثل معنى الحياة والموت والخير والشر والقبح والجمال... الخ من المشكلات الفلسفية الكبرى التي تشغل ذهن الإنسان." فلم يعد القارئ بحاجة إلى قصص تصدر لنا الواقع أو تكتفي بالحكاية دون أن تستند على رؤى ذاتية، ومرجعيات فكرية من خلالها ينكشف الجانب النفسي للإنسان.
وهذا ما نراه جليًّا في المجموعة القصصية (عالم يطن في أذني) لـ (مروة مجدي) والتي تمثل في كليتها مجموعة من الرغبات والمخاوف الحبيسة في اللاشعور والتي تظهر في صورة أحلام أو خيالات وتأخذ بعد ذلك شكلاً حكائيا من خلاله تبرز لنا الكاتبة الجانب النفسي المتخافي، وكأنّ القصة وسيلة تتوسل بها الكاتبة من إجل إبراز هذه الجوانب النفسية لشخصيات هذه المجموعة، وهذا يؤكد ما ألمحت إليه سابقا: أنّ فن القصة القصيرة يتوسل بالحكاية كأداة من خلالها تتكشف العوالم الداخلية للإنسان، فليست القصة/ الحكاية مقصودة لذاتها، ولذا، "فإنّ الشكل الفني للقصة القصيرة ما هو إلا انعكاس للحالات النفسية لبني الإنسان. وفي اللحظة التي نتناول فيها قصة قصيرة بالقراءة تتجلى لنا بوضوح شديد الوظائف النفسية للطبيعة البشرية، وهذه الأخيرة تتجلى في كل قصة قصيرة بشكل خاص." وكأنّ انكشاف الجانب النفسي تيمة أصيلة في الفن القصصي؛ ومن هنا جاء عنوان هذه الدراسة: سرديات (اللامرئي) بين الواقع والمتخيل قراءة نقدية في المجموعة القصصية:عالم يطن في أذني لمروة مجدي.
تنتمي هذه المجموعة القصصية في مجملها إلى ما يسمى بـ "القصة النفسية التحليلية" حيث تجد الغالبية العظمى من قصص هذه المجموعة تسلط الضوء على مشهد حياتي من الواقع المعاش، وعبر عملية البناء تتجلى لنا عوالم الذات الجوانية، وما يختلج في النفس البشرية من أحاسيس ومشاعر، وما يعصف بها من الداخل، والقصة النفسية أو التحليلية تحتوي الكثير من عناصر التشويق والإمتاع، إلا أن متعتها، دون شك، تتوقف في الأكثر على ما فيها من اكتشافات رائعة للعقل الإنساني وأنماط تفكيره، وخفايا النفس البشرية ودوافعها وغرائزها، وفي تصرفات الإنسان ودوافعه واعية كانت أم غير واعية، وقارئ مثل هذه القصص، لا يجد متعة في تصرفات الشخصيات، بقدر ما يجدها في الأسباب التي دعتها إلى مثل هذه التصرفات". فالقارئ لا يلتفت إلى الشخصية قدر التفاته إلى الأسباب والدوافع التي شكلت هذه الشخصية، وكانت سببا مباشرا في درامية الحدث القصصي؛ فكل ما يهم كاتب القصة القصيرة هو التأثير على القراء من خلال الحدث نفسه أكثر من أبطاله، وقارئ القصة القصيرة مثله في ذلك مثل من يسمعها لا يريد كلاهما الوصف أو التعليق على ما يشعر به أو يفكر فيه البطل، إنهما يريدان إدراك ما حدث بشكل موجز". فمثل هذه النوعية من القصص لا ينشغل القارئ فيها بالبطل في صورته الواقعية، والسبب في ذلك أنّ الواقع نفسه محتشد بهذه الشخصيات ومكتظ بها، ولكن وجودها النوعي والمغاير في السرد القصصي يكشف عن أنماطها الفكرية وعوالمها الداخلية، وهذا ما يتغياه القارئ من هذه القصص التي تستند على الداخل الإنساني في عملية البناء. وبمعنى آخر، لا يسعى المتلقي إلى الشخصية بواقعها المرئي والمعاش، ولكن إلى ماهية هذه الشخصية، ولذا يكون البناء السردي هو الوميض الذي ينير الغرف المظلمة في النفس البشرية، ومن ثم تنجلي كوامنها على مرايا التلقي.
إذن، ومن خلال ما سبق، يتبين لنا، أنّ السرد -وطرائق بنائه- هو القادر على تفكيك الواقع، ومن خلاله وحده يستطيع القارئ الولوج إلى (الميتا – واقعية) فنحن أمام سرديتين: البنية السطحية التي يبني القاص من خلالها معماره الفني، وسردية أخرى لا تنكشف إلا بعد عملية تنقيب في البنية الأولى. ونحن أيضا أمام واقعين: الأول المعاش، والثاني المتخيل، وهذا الأخير، هو الواقع الجديد الذي ينتظره القارئ؛ إذن يتوجّب علينا الآن البحث عن نمطية السرد وآليات الكتابة في المجموعة القصصية: "عالم يطن في أذني" لــ (مروة مجدي) باحثين عن الأنساق اللغوية التي تشكلت منها البنية، ومن ثم الوصول إلى السردية المتخافية أو البنية العميقة في هذه المجموعة القصصية.
إنّ الشكل الفني المعماري للقصة القصيرة يحمل مضمونها، وكنا – قديما – نقول: أنّ الشكل الفني هو وعاء التجربة الإنسانية، ولكنه ليس كذلك، "فشكل القصة القصيرة هو مضمونها نفسه، وبتعبير(صلاح فضل) فإنّ الشكل الأدبي ليس وعاء للتجربة، ولكنه التجربة ذاتها وقد تشكلت بهذا النسق المعين. ومن هنا فإنّ الشكل نفسه رؤية وموقف ومضمون، ولا تجوز محاكمته من منطلق انفصاله عن الرؤية التي ينطوي عليها أو المضمون الذي يقدمه، أو العالم الذي يتشكل عبر عناصره وأدواته." فهذا الشكل أو النسق هو الذي مكّن القاص أن يتجاوز واقعه إلى واقع آخر انبنى وفق مخيلته ورؤيته، ومن ثم استطاع الكاتب أن يشيد واقعا موازيا أو مغايرا للواقع المادي "إذًا ماوراء الواقعية يتجاوز مفهوم الواقع بإنشاء بنى موازية، إن لم تكن بديلة عنه، كما يتجاوز الواقعية بإنشاء حيوات جديدة متقدمة عليها في الأسلوب والشكل والوعي الذاتي في الكتابة؛ إذن البنية السردية للعمل القصصي تحمل في طياتها أبعادا أخرى، ومدارات في فضاءات مختلفة، لا يحفل بها الواقع المادي ذاته، وهنا تكمن متعة القراءة حيث يستطيع القارئ أن يطلع على عوالم نفسانية، يصعب أن تتمظهر في الواقع المادي، وهذه المهمة تقع على عاتق القاص.
أولا: بنية العنوان وحداثة التركيب
أول ما يتجلى من المجموعة القصصية: "عالم يطن في أذني" عنوانها، والذي يشير إلى خصوصية الرؤية لدى الكاتب، حيث يبتدئ العنوان بمفردة "عالم" وهي نكرة، والأخيرة تشير إلى عالم مجهول ليس محددا بماهيات معينة، وخصائص نتعرف عليها من خلاله، فالنكرة تحيل دلالتها إلى العمومية لا التخصيص، فهو عالم مجهول لا ندري عن كنهه شيئا. ثم ينسرب الفعل "يطنُ" إلى العنوان؛ فيزيد من مجهولية وعمومية مفردة "عالم" التي تصدرت العنوان؛ فالطنين صوت مشوّش لا يبين عن جملة واضحة أو تراكيب لغوية، ولا يحيل على مصدر بعينه، فيزداد عالم الكاتبة غموضا، ولا يظهر منه إلا هذا الطنين، الذي أتى في صورة الفعل المضارع ليدل على حركيّة مستمرة، وطنين لا ينقطع، يقع أثره على أذن الكاتبة وحدها، وهذا يدل على أنّ هذا العالم اللامرئي يخص الذات وحدها، والأخيرة لا تعي هي الأخرى كنه هذا العالم، الذي لا يتجلّى لها إلا في صورة صوتيّة مشوّشة، وربما هي تعي كنهه هذا العالم وتشعر به، ولكنه لم يزل غائما ضبابيا، فتعجز الذات عن وصفه، فنحن أمام عالم مجهول غامض يطنُّ بشكل مستمر في أذن الكاتبة، ويحيل العنوان بكليته إلى عالم غير مرئي، وكأنّ الكاتبة منذ البداية توجّه القارئ، أن المجموعة القصصية تحيل كلها إلى عوالم غير مرئية، كما سيتضح لاحقا؛ " فالعنوان يشف عن الزاوية التي اختارها المؤلف... أي الزاوية التي يريد أن ينطلق منها المؤلف أو يرتكز عليها، ومن ثم يوجه المؤلف نظر القارئ إلى النقطة التي يستند عليها السرد، ويكون العنون بمثابة وميض يمر بغرفة مظلمة كاشفا بعض ما فيها. ويمتاز العنوان الذي اختارته (مروة مجدي) بميزتين: الأولى، أنّ العنوان حداثي مبتكر، يناسب طبيعة القصة القصيرة الحديثة، فليس مكرورا أو مبتذلا. والثانية: أنّ مثل هذه العناوين تفتح باب التأويل للعمل القصصي أمام القارئ، إذ نصادف بعض العناوين تحمل أنماطا كتابية، وتراكيب لغوية تغلق باب التأويل، لأنها تحمل مضمونية العمل القصصي بشكل واضح وصريح، بل وتوجه القارئ إلى مركزية العمل القصصي، فيصل إليه المتلقي بسهولة دون تعب أو مجهود، وهذا قتل عمد للعمل الفني منذ مطالعة عنوانه، وهذا الخطأ لم تقع فيه (مروة مجدي). حيث وجه العنوان القارئ إلى نوعية العمل القصصي، أو التيمة النفسية التي يحملها، دون أن يكشف عن بؤرة ارتكاز المجموعة القصصية، ومضامينها؛ "فيمكن للمتلقي أن يجد في العنوان إشارة وامضة لما وراء المحسوس، والمدرك عقليا، وهذا يعني انفتاح الخطاب السردي القصصي لمثل هذه الأعمال التي تعنون بمثل هذه العناوين.
ثانيا: آليات الكتابة السردية

الحلم وتمظهراته في المجموعة القصصية:
اتفقنا منذ البداية، أن هذه المجموعة القصصية تميل إلى عملية التحليل النفسي، وإظهار العوالم الجوانية للذات الإنسانية، ولذا كان من الطبيعي أن تتوسل الكاتبة (مروة مجدي) بآليات كتابية تستطيع من خلالها الغوص في عوالم الذات؛ وأقرب هذه الآليات – التي نعبر من خلالها إلى العالم الباطني- هي الأحلام حيث ارتكزت المجموعة القصصية في أكثر من قصة على تقنية (الحلم) لتنفذ من خلالها إلى مناطق محتجبة متخافية في النفس الإنسانية. في قصة: (أندروفوبيا) تقول مروة مجدي: "وثبت من كابوسها اليومي، لتأتي بصرخة طويلة، تشق بها حلق السكون، تفقدت غرفتها، كل شيء كما هو، لكن ما عادت تلك الفتاة التي كانت بالماضي". ومن ثم تبدأ (مروة مجدي) بسرد الأحداث التي كانت سببا مباشرا لهذا الكابوس اليومي، ولم تكن هذه الأسباب سوى التحرش والعنف الجسدي الذي تتعرض له الفتيات/ النساء، والذي يترك أثرا بالغا يحطم ذات الأنثى -خاصة- عندما تفتقد النصير والعون، ويتخلّى المجتمع بأسره عنها، فتنطوي على نفسها، وتعاني مرارة الأمر وحدها، فتتحول حياتها إلى كابوس، والأخير رمز سردي يحمل في طياته مدى الانكسار الذي تشعر به الأنثى حيال هذا الأمر، ومن خلال رمزية الكابوس تنفتح أمامنا البؤرة النفسية العميقة التي تشف عن خيبات الأنثى وانكساراتها.
وفي قصتها: (على الناصية) تستند (مروة مجدي) على أيقونة الحلم أيضا، فتقول: "كثيرا ما رأى سيدة تأتيه في المنام كملاك رقيق أبيض، تحتضنه فيختبئ بين ضلوعها حتى الاختفاء، حلم رائع حقا، لكنه سئم مشاهدته، لإفاقته منه على ضرب مبرح من المعلم، أو على معركة ضارية ومطاردة في الشوارع حيث الفقر واللامأوى والقهر". يحمل هذا الحلم في طياته الجانب النفسي، وما ينطوي عليه من عذابات لهذا الطفل المشرد، الذي اختطف من أحضان أهله، ولم يجد له مأوى سوى الضياع والفقر والذل والإهانة، اختصرت (مروة مجدي) بحرفية فنية كل هذه الأحساسيس التي تفجرت من خلال (الحلم) الذي يراه هذا الطفل مرارا وتكرارا؛ فيتحول (الحلم) في هذه القصة أيضا إلى رمزية مكثفة تحمل المكنون النفسي والعذابات التي يعانيها هذا الطفل المشرد؛ بل انفتحت السردية القصصية من خلال تقنية الحلم لتكشف لنا عن الجانب الإنساني للسيدة التي حاولت احتواء هذا الطفل؛ وإن كان انسراب الحلم في هذه القصة أفقدها واقعيتها، وجعلها تميل إلى واقع مغاير تجلى للقارئ من خلال البنية السردية.
لم تتوقف أيقونة (الحلم) عند هذا الحد، ولكنها افترشت مساحة كبيرة من أرضية المجموعة القصصية، حيث انوجدت آليه (الحلم) في قصص أخرى تخللت هذه المجموعة مثل: [ الغريب- سفر- وارث] ومن هنا أستطيع القول: أن أيقونة الأحلام - في المجموعة القصصية: "عالم يطن في أذني" شكلت نسقا بنيويا ارتكزت عليه المجموعة القصصية في معماريتها السردية.

انصهار العالمين: الواقعي والمتخيل في البنية السردية:
تسمح مروة مجدي – في مجموعتها القصصية – بخروج الداخل النفسي وانصهاره مع الواقع في آن واحد، ومن ثم تحدث عملية تشويش للشخصية/ البطل حيث من الصعوبة التقاء العالمين: الخارج/ الداخل في إطار واحد، وهذا يؤدي إلى نوع من الفوضى الدرامية المقصودة لذاتها؛ فتقد القصة آنذاك منطقية الحبكة الدرامية، ومن ثم تنفتح مسارات التأويل أمام القارئ. تقول في قصتها (الملاعين): " باغتني ذلك الصوت الغليظ،، فضربت بعيني في أركان الغرفة، لم أجد أحدا... وقبل أن تبتلعني الدهشة من جديد جاءني صوت آخر لكنه رقيق هذه المرة... سرعان ما همس صوت ثالث لا هو غليظ ولا هو رقيق، لكن ذراته التحمت معهما فاتحدوا وأضحوا ثلاثة عليَّ". هنا تستدعي مروة مجدي الداخل النفسي ليتجلى – عبر تقنية الصوت – الذي تحوَّل من مونولوج داخلي إلى ديالوج خارجي حيث تقاطع النفسي الباطني مع الواقع المحسوس، وهنا فقدت القصة واقعيتها ومنطقيتها؛ وليس التقيد بالواقع شرطا في القصة القصيرة الحديثة، ولكن مهمة القاص أن يحاول التعبير عن الرؤى الداخلية له – حتى وإن خرجت عن نطاق المعقول- بشكل أكثر حرفية من ذلك، حتى لا تفقد القصة منطقيتها. وإن أخفقت (مروة مجدي) في هذا النموذج، فقد وفّقت بشكل أكثر حرفيّة في مواطن كثيرة استدعت فيها الداخل النفسي إلى العالم الواقعي، دون أن تفقد الحبكة الدرامية منطقيتها، ففي قصتها:[ ويستمر اللقاء- عالم يطن في أذني] استدخلت (مروة مجدي) الداخل النفسي، وتجلت تمظهراته في العالم الواقعي، ولكن بشكل أكثر حرفية من قصة (الملاعين)؛ فتقول في قصتها (عالم يطنُّ في أذني): " أنا أرى بعيني اليمنى الناس بمناظرهم الطبيعية، بينما العين اليسرى المصابة تراهم على هيئة مهرجين ولصوص وعراة وقتلة. ما هذا الهراء؟! أيعقل أن تحققت أمنيتي، واستجاب الله لي أن يريني دواخل البشر؟! ليته ما استجاب لي، لم أكن أتخيّل أنّ الكل فاسد بهذا القدر". استطاعت مروة مجدي أن تستدعي العالم الداخلي ملتحما بالواقع، ولكنها هذه المرة حافظت على منطقية الحدث؛ ليجد قبولا عند المتلقي.
استدعاء الأسطورة والرمز في البنية السردية:
من التقنيات السردية التي ارتكزت عليها مروة مجدي في مجموعتها القصصية، تقنيتي: الأسطورة والرمز. فقد استدعت الكاتبة الأسطورة في قصتها: "نصف إنسان"، كما استدعت الرمز في قصتيها: " فأر التجارب" و "السباحة في الشوربة" وكان مثول الأسطورة نوعا من الهروب، والتلهي بالخرافة تخفيفا من وطأة الألم النفسي الذي يعانيه هذا الطفل المشوه، والذي كان يمنّي نفسه بحقيقة أسطورة "حورية البحر". أما الرمز في قصتي: "فأر التجارب" و "السباحة في الشوربة" يحمل دلالات نفسية وسياسية واقتصادية وعقائدية، لم تتجل في البنية السطحية مطلقا؛ إذ وظفت مروة مجدي "الرمز" بصورة فنية، استطاعت من خلالها أن تخفي تلك الدلالات في العالم الرمزي، وتركت مساحات بيضاء فارغة من خلالها يستطيع القارئ أن يعيد بناء النص مرة أخرى لتنكشف أمامه هذه الدلالات التي اختبأت في الرمز بطريقة فنية مكثّفة.


القطع المشهدي وهامشية الحدث:
من معاني القص في المعاجم العربية القطع، وهذا ما يفعله القاص، حيث يقتطع مشهدا معينا من الواقع، وربما يكون هذا المشهد هامشيا غير محتشد بأحداث هامة، ولا يمثل موضوعا عظيما، ولكنّ القاص بحرفيته يستطيع أن يحول هذا المشهد الهامشي العابر إلى نقطة ارتكاز مهمة يستجلي منهما معاني إنسانية، ويتعرف من خلالها القارئ على الجانب النفسي للشخصية "ويمكن القول إن التقاط مثل هذه الأحداث الهامشية، العابرة يمثل فلسفة وطبيعة القصة القصيرة، ولذا قلنا أنّ القاص يلتقط موقفا هامشيا في الحياة لا يكاد يلتفت إليه أحد لينفذ إلى معناه الداخلي العميق"، فالقاص وحده من يمتلك القدرة ليجعل من هذه المشاهد الهامشية بؤرة يطل من خلالها على أعمق نقطة في الذات، يقول الروائي توماس مان إنّ مهمة الروائي والقاص ليست أن يقص علينا أحداثا عظيمة بل أن يجعل الأحداث الصغيرة مثيرة للاهتمام، وربما يكون هذا المشهد الهامشي مجرد لحظات خاطفة ولكنه يترك أثرا في نفس الكاتب والقارئ على حد سواء" فالقصة القصيرة تجربة أدبيّة تعبر- بالنثر- عن لحظة في حياة إنسان، فهي إذن فن يقوم على التركيز والتكثيف في وصف لحظة، وهو يرى أن هذه اللحظة قد تمتد زمنيا لساعات أو أيام أو شهور دون أن يهتم الكاتب بالتفاصيل ولكنه يمضي قدما لتعميق هذه اللحظة. وهذه ما فعلته مروة مجدي في قصة: "الصالون" حيث ركّزت على مشهد غرفة الصالون تلك الغرفة التي امتلأت فجأة بالناس، واكتظّت بالحاضرين، بعد أن كانت هذه الغرفة شبه محرم عليه/ عليها الدخول فيها، ليكون هذا المشهد إعلانا عن وفاة جدها، وقد ارتكزت قصة "الصالون" على مشهد الغرفة والمقارنة بين زمنين: زمن كانت جدتها تغلق هذه الغرفة، وتعتني بها عناية خاصة، وفجأة تكتظ هذه الغرفة بالحاضرين.. وتسمع فجأة جملة العزاء: "البقاء لله" فتخر مغشيا عليها. فهذا المشهد مع بساطته وهامشيته ولكنه يحمل معاني الفراق والحزن، بل يتضمن فلسفة الموت والحياة المكتنزة في الجملة السردية الأهم في هذه القصة، والتي بدأت بها مروة مجدي قصة (الصالون): "لا شيء يستمر". وقد اعتمدت مروة مجدي في قصص أخرى داخل هذه المجموعة على المشاهد الهامشية العابرة مثل: "كالا بالا" و "كروان" و "غرفة تتسع لبحر".


شعرية اللغة والتكثيف الدلالي:
تعتمد القصة القصيرة على لغة تميل إلى الشعرية، وهذا ليس ترفا لغويا، أو فانتازيا تراكبية يتعمدها الكاتب/ القاص دون هدف أو غاية، إذ القصة القصيرة تستدعي اللغة الشعرية لضرورة تقتضيها طبيعة جنسها الأدبي؛ حيث ترتكز القصة القصيرة على أيقونة التكثيف الدلالي، والاقتصاد اللغوي، فالقصة القصيرة نظرا لمساحتها التي تختلف عن الرواية، تفرض على القاص قيودا لغوية تضطره أن يجنح بلغته إلى الشعرية، إذ اللغة الشعرية هي التي تسمح بعمليتي: التكثيف الدلالي، والاقتصاد اللغوي، فاللغة الشعرية تستطيع أن تغذي اللغة بشحونات دلالية، وتمنحها حركية دينامية تفيض عنها شعوريات وأحساسيس وانفعالات نفسية؛ والقصة القصيرة التي لا تتمتع بلغة شعرية تفقد كثيرا من قيمتها الفنية، إذ القصة القصيرة تهتم وتعتني بالجوانب النفسية للشخصيات، والجانب النفسي للشخصية لا يتجلّى للقارئ إلا من خلال لغة شعرية محتشدة بالدلالات، مكتنزة بالمعاني، تصل إلى أقصى حد من التكثيف، وهذا الأخير يمنحها قيمتها الفنية، وخصائصها الجنسانية. وقد انمازت المجموعة القصصية: "عالم يطنّ في أذني" لــ (مروة مجدي) بلغة شعرية مكثّفة تحمل في طياتها جوانية الذات، وباطنية النفس البشرية، فتقول: "البنت فاتنة، قوامها يلسع. تفاحة ناضجة على شجرة تنادي قاطفها، من سيقدر قيمة جسدها النفيس ليثقله ذهبا؟ احتشدت الفقرة السابقة بلغة شعرية تحمل في طياتها دلالات البلوغ واكتمال الجسد الأنثوي، ونظرة العيون الجائعة للفتاة عندما تبلغ هذا النضج الجسدي، وخوف أهلها عليها، وانجذاب الرجال لها، كل هذه المعاني استطاعت هذه الجمل الشعرية المتدفقة التعبير عنها بشكل مكثف تختفي خلفه كل هذه المعاني. وتقول في قصتها (شمل مبعثر): " عالم حليبي لا نهائي، لا حدود فيه أو سدود، لا حوائط لا أرجاء. أتلك سحب السماء البعيدة التي طمح جسدى في الصعود إليها؟ أيعقل أنّ حلمي غدا حقيقة أم أنني سقطت في حلم غرائبي؟ تنعكس أضواء مترامية على ذراعي الأسود فتتشكل عليه هالة كبيرة مكونة من سبعة ألوان منهم الأحمر والأخضر والأزرق". إنّ قصة (شمل مبعثر) دون غيرها من المجموعة القصصية تمايزت سرديتها بلغة شعرية، احتلت النص من أوله إلى آخره، كما استدخلت الألوان بدلالاتها الشعرية المكثفة، حيث ينفتح بعضها على الحياة ومعانيها، وينفتح بعضها الآخر على عوالم الموت والفقد، فشكلت الألوان منظومة سيميائية، شكلت نسقا شعريا متعاليا يفتح أبواب التأويل أمام القارئ، حيث قامت اللغة الشعرية بشحن بنية القصة بدلالات لا حصر لها، يتخير القارئ منها ما يشاء، نظرا، لمخزونه الثقافي.
مع حضور اللغة الشعرية المكثفة – والتي احتلت مساحات واسعة في المجموعة القصصية: (عالم يطن في أذني) ولعبت دورا مهما في كشف غرف النفس المظلمة، إلا أنّ اللغة عموما في هذه المجموعة لانت وضعفت في مواطن متفرقة، وعلى سبيل المثال: عندما تقول مروة مجدي: "أما اللون الأزرق فعند لمسي له" أظن من وجهة نظري الخاصة، أنّ هذا التركيب أصابه الوهن والضعف تحديدا في قولها: "لمسي له" إذ لو قالت: "عند ملامسته" لكان أليق. وأيضا عند قولها: " استيقظ ذات صباح ليجد نفسه يسأل نفس الأسئلة دون إجابة" بالطبع تريد القاصة توكيد المعنى، فتقول: "نفس الأسئلة" وهذا مجانب للصواب، إذ لا يجوز تقديم المؤكِّد على المؤكَّد، فيتوجب عليها أن تقول: "الأسئلة نفسها". وتتقدم مفردة نفس على الاسم إذا كانت بمعنى: "خالص الشيء وحقيقته" في هذه الحالة يجوز التقديم، كما أذعن بذلك شُرَّاح المُفَصّل، ومن قبلهم ذهب سيبويه إلى جواز التقديم في هذه الحالة. وأكتفي بهذين النموذجين على سبيل التمثيل لا الحصر.
وفي النهاية أستطيع أن أقول: أنّ مروة مجدي كانت موفقة إلى حد بعيد في إنشاء معمارية هذه البنية السردية لمجموعتها القصصية، وقد استخدمت تقنيات متعدة وآليات مختلفة، واستطاعت أن تستجلي كوامن النفس البشرية، وأن تستطنق الذات الإنسانية، وتسلط على غرفها المظلمة وميضا سرديا، تنكشف به تلك المناطق البعيدة والغائرة في النفس. أما لغتها السردية فكانت مشحونة بالدلالات، مكتنزة بالرمز، موجزة مكثّفة.

المراجع والمصادر
أمجد مجدوب رشيد: السرد الأنساق السيميائية والتخييل، مطبعة وراقة بلال، ط1، العراق، 2019.
عباس عبد جاسم: ما وراء السرد ما وراء الرواية، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، بغداد 2005.
هاشم ميرغني: بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة، مطابع السودان للعملة الموحدة، ط1، السودان، 2008.
فائق مصطفى: سحر السرد دراسات في القصة والرواية العربية، تموز للنشر والتوزيع، ط1، دمشق، 2015.
أمبرتو إيكو: 6 نزهات في غابة السرد، ت: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، ط1، المغرب، 2005.
محمد يوسف نجم: فن القصة، دار بيروت، ط1، بيروت، 1955.
جمال بوطيب: القصة القصيرة بالمغرب دراسات في المنجز النصي، مؤسسة التنوخي للنشر، ط1، المغرب، 2008.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى