ثقافة شعبية حسن الرحيبي - اولاَد يَرني...

للمَغاربة مع أمّهم يَرني تاريخاً طويلاً من المآسي والكوَارث وتوَالي سَنَوَات المجَاعات والقحط .. وحكاية غرَام حكاية طويلة ، بدَايتها ذكرىٰ اللّيالي الجَميلة والقاسية الطويلة .. يشبه جذرها المتوغل بأعماق الأرض بَاطاطا القصبية ، لكنه أرقّ وبطعم مُرّ سامّ.. لكن أهَالينا كانوا يلجأون لحفرها لما يشتدّ الجُوع وصُرَاخ الرّبّوج المتعَالي وَسط الأكوَاخ والنّوَايل البَئيسة .. فلا تجد نساء الخيمة بدّاً من حمل الفؤوس والتّوجه للخلاء والشروع بالحفر ، من أجل الحصُول على بعض الجذور ، بعد عناء وتعب كبير ، وغسلها بالماء ثم تعريضها لأشعة الشّمس حتى تجفّ ، ودقها بالمهرَاز أو طحنها بالرحىٰ الحجرية حتى تصبح دقيقاً أبيضَ مثل دقيق الفورص ، لكن بطعم مُرّ ، وعجنه لاستخرَاج ݣُرصَة صَغيرة يتقاسمها الكبار مع العيّل لتهدئة الجُوع ، والبقاء على قيد الحيَاة juste le minimum de subsistance مبتكرين إلى جانبها أغنية جميلة وُلدت من رَحم الشدّة والمَأساة والمرَارة ، تجعل الرّبّوج ينَام قبل الحُصُول على شدݣ صَغير سامّ يؤدي لمرض التّيفوس le typhus كمرَض للأمعاء :

نينّي يَا مُومّو
تا يطيب عشَانا
والاَ مَا طاب عشَانا
يطيب عشَا جيرَانّنا ..
مع وَضع رأسه على ركبة الجدّة الطاعنة بالسّن ، وحك فروَة رأسه المتّسخة والطافحة صئباناً وهَيموش وأمهم الݣملة السّوداء المختبئة بين الزّغب الكثيف ..بأناملها القاسية الصّلبة .. وعندما يشتدّ الصّرَاخ تبعث فيه أملاً عَريضاً ، عاملة بالبيت الشعري الشهير للطغرائي .. مَا أضيق العيش لولاَ فُسحة الأمَل :
هَا الشّتا صَبّت والزّرع ناض وقريب يسبّل .. لكن تجيبها امّي حليمة مستهزئةً بسذاجتها وقصَر تفكيرها ونظرها :
اتّي آش تݣولي آبنت الحَمقا ؟
مَا عرفتيش مَا بين السّبولة والسّبولة ، يموت ولد المهبولة ؟
وباش عشت آ بلارج تا جا لبزيز ؟
في النّهاية مَات الطفل جوعاً ، وتوجّه به أبوه وحيداً لدفنه .. يحمله بين ذراعيه .. لكن أغرته حقول العشلوج والتّبش التي بدأت تنبت وتينع ، مع سقوط أولى الأمطار الشتوية .. فتحمّس من أجل إطفاء جوعه ، وَاضعاً الطفل الميّت في الحدّ وخاضَ في حصّة طويلة من القطف والتقشير والالتهام .. ليتوه وسط نباتات شوكة حمار والݣرنينة ، ونسي مكان وضع جثة الطفل ، فعاد يسأل أمه بالخيمة :
هاذاك الكَعلوس مَا جَاش ؟
سير اللّه يعطَك ضَربة اللّي مشاوا !
مآسي حقيقية يضطر خلالها أرستقراطيو الدوّار لطحن الطحين بعمق المطامير كي لا يسمع هديرها الجوعَىٰ فيهجمون !
أو يتظاهرُون بحفر جذور يَرني مع الفقراء لكن فضَحتهم كلابهم السّمينة وهي طّورَس وسط الحقول الجردَاء !
حكىٰ لي أحد النّاجين rescapés من معركة يَرني القاسية ، أوَاخر العشرينات ، أن جدهم كان يمنحهم كبالة واحدة كل يوم يفرّكوها ، ويݣليوها ويعميوا بها الجّوع !
كما حَكت لي امّي حليمة بأن امرأة من الدهَاهجة أدخلت جثة كلب ميّت تريد طبخه لأبنائها الجوعىٰ المسغبين ، زغب الحوَاصل مَا استطابوا يوماً خبز مللّة ، ولاَ عرَفوا للبُرّ مُذ خُلقوا طعما .. فنهرَها رجل من أغنياء الدوّار :
آهدَاي آبَنت الكافرَة آش غَادية دّيري ، فردّت عليه بدورها بقسوة وجرأة نادرَة :
آش بغيتي عدّي آسيدي ؟
مَانّي آش كنجيك ؟
بَنت عمّك ولاَ بَنت خَالك ؟
بينما كان أبناء الأغنياء يستغلون تجمع الأطفال الفقراء أمام الجّامع ، ليتسللّوا ببؤسهم ، ويرقصُوا على جراحهم الغائرة وغير المندملة وينكأوها بوقاحة وقلة حياء .. حين كانوا يلقون بدُغمة هناك ، ليترَادم عليها العيل على شكل عرّام تشيش التحتَاني ما يعيش ! ثم يغيّرون الاتجاه لتندلع الفوضَىٰ بمكان آخر كما يفعل الكلَاب ببعضهم البعض أثناء الفريسَة .. ولما دخلنا المدرسة كانوا يمنحون بعضَ الأطفال كسرة خبز أبيض جميل مقابل إركابهم حتى الدوّار على ظهورهم كما تفعل الأمهَات مع أبنائهن الصّغار .. فيجعلها الفقراء كشندويتش أو طاكوس دَاخل خبزهم المحراش الأسوَد الخشن ، المكون من الذرة صبيبة ، العفنة وبطعم مُرّ ، غير مُستساغ المذاق ، لأنها أصبحت تدخل في عدَاد الشّرشَم الذي أفسَدته مياه الأمطار المتسرّبة لعمق المطمورة ، ونخرته مناقير الخَرݣ الحادّة ، وأذبلته أدوية الحشَرات الكيماوية ، فأصبح غير صَالح حتى لإطعام أحط الحيوَانات وأوقحها !
بينما حَكت لي أمّي أنهم خلال نونبر من سنة 1942 حين كانوا يرعَون الموَاشي بجوَانب قصبة أيّير ، ويلعقون أحقاق المصَبّرات الأمريكية التي تركتها جيوشهم في معَسكرَات صَغيرة بعد خروجهم بمرفأ آسفي أثناء الحرب العالمية الثانية ، واشتباكهم مع فُلول الجيش الفرنسي ..وهي نفس العملية التي كنا نقوم بها ، أنا وعبد الرحيم ولد سي ادريس أثناء اغترابنا من أجل الدّراسة بنفس مَدينة آسفي المضيافة !
كما حَكىٰ لي أحد الأصدقاء بالمكتب ، أنه لما ساد الجوع خلال أحد فصُول شتاء بدَاية الستينات ، وأصبح بعض الشّبان يتضَوّرُون جوعاّ ، بينما تصعد وجبات لذيذة نحو دار الذراري ، ففكّروا في اختطاف المكبّ الشهير ولاذوا بالفرَار لالتهامه بالبديدزة(بالقاق) ، ليجدُوا دَجاجتين بلديتين مبعوجتين سمينتين موجّهتين لشخصين هرمين فقط ..وحينما كانت تأتي سيارات الوزراء للغذاء بالدوّار ، كانت رَائحة الأكل الشّهي تغزو فضَاء الدوّار بأكمله ، فيكاد أطفال الفقراء يجنّون عندما تتلمّظ شفاهم للأكل اللذيذ ، الذي تُلقىٰ بقاياه في غيَاهب المطامير العميقة المنتشرة حول الدوّار وبأرجائه الشّاسعة ، دون أن يستفيد منه أحد ، لكن إرَادة اللّه أقوىٰ ..فدوَام الحَال من المحَال .. ومَا يدُوم حَال آ وَلد يزّا ! كما كان يقول الهدّاوي للبَاشا الݣلاوي الشّهير ..الذي كان منكبّاً بحمَاس ، مُستعجلاً نهب خيرات البلاد وإرسَالها نحو بنُوك أوروبا ! بكل مهارَة وكفاءَة غير مَسبوقة …بل استثنائية !
حسَن الرّحيبي..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى