الدكتور عبدالوهاب عزام - 3 - الصيد في الأدب العربي

3-

وفي ديوان أبي نواس سبع وعشرون أرجوزة في وصف الكلب، وهو تارة يصف خلقة الكلاب وطباعها، وتارة يصف سرعتها وعملها في الصيد. منها الأرجوزة:
أفعتُ كلباً جال في رباطه ... جَول مصاب فر من أسعاطه
عند طبيب خاف من سِياطه ... هجنا به وهاج من نشاطه
كالكوكب الدريّ في انخراطه ... عند تهاوي الشد وانبساطه
لما رأى العلهب في أقواطه ... سابحه ومرَّ في التباطه
كالبرق يذري المرو بالتقاطه ... مثل قليّ طار في أنفاطه الخ
فهو يشبه الكلب في نشاطه واضطرابه ومحاولة الإفلات من الرباط بمجنون يستعصي على طبيبه ويفر من دوائه ومن بطشه
ثم يشبهه في انقضاضه سريعاً بالكوكب ويقول إنه حين رأى التيس البري في قطعانه عدا فمرا معاً يسبحان عدوا، واستمر الكلب يضرب الأرض بيديه فيطير الحجارة الرقيقة كما تتطاير الفقاقيع عن السمن الذي يغلي على النار. وهو وصف عجيب دقيق
ولا يتسع المجال لإثبات الأرجوزة كلها والتمثيل بأبيات من الأراجيز الأخرى
ولأبي الطيب طرديات قليلة، منها أرجوزة يصف فيها كلباً يصطاد ولم يشهد الصيد ولكن أخبر به. وهو وصف إن فاته صدق المشاهدة فهو دليل على خبرة شعرائنا بالصيد وكلابه، ومعرفتهم بحركاته معرفة تيسر لهم الوصف بالغيب. قال واصفاً الكلب:
فحلَّ كلاّبي وثاق الأحبُل ... عن أشدق مسُوجَر مسَلسل
أقبَّ ساطٍ شرس شمردل ... مؤجْد الفِقرة رِخو المِفصَل
له إذا أدبر لحظُ الُمقبل ... كأنما ينظر من سَجَنجَل
يعدو إذا أحزن، عَدوَ المُسهل ... إذا تلا جاء المدى وقد تُلى
يُقر جلوس البدوي المصطلى ... بأربع مجدولة لم تُجدَل
يكاد في الوثب من التفتُّل ... يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل الخ فانظر كيف يصف خلقه الكلب وحركته، وتأمل الغلو في قوله له إذا أدبر الخ فقد ادعى أن الكلب في سرعة حركاته مقبل مدبر معاً فكأن الرائي يراه ويرى صورته في مرآة فيرى شكلين أحدهما مدبر والآخر مقبل
وقد افتن الشعراء في وصف حيوانات الصيد الأخرى كالفهد وجوارح الطير من البازي والباشق واليؤيؤ والعقاب الخ. ومن هذا وصف العقاب في شعر أبي الفرج الببغاء:
ما كل ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب
بمدرك في الجد والطلاب ... أيسرَ ما يدرك بالعُقاب
شريفة الصبغة والأنساب ... تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظل منها الجو في اغتراب ... مستوحشاً للطير كالمرتاب
ذكية تنظر من شهاب ... ذات جران واسع الجلباب
ومنكِب ضخم أثيث رابي ... ومَنسِر موثَّق النصاب
وراحتي ليث شرّي غلاَّب ... نيطت إلى براثن صلاب
مرهفة أمضى من الحراب ... وكل ما حلَّق في الضباب
لملكها خاضعة الرقاب
وأبو الفتح كشاجم من أكثر الشعراء ولعاً بالصيد، وله فيه كتاب. ومن شعره في وصف الباشق، وهو ضرب من البزاة:
يسمو فيخفي في الهواء وينكفي ... عجلاً فينقض انقضاض البارق
وكأن جؤجؤه وريش جناحه ... خضبا بنقش يد الفتاة العاتق
وكأنما سكن الهوى أعضاءه ... فأعادهن نحول جسم العاشق
ذا مقله ذهبية في هامة ... محفوفة من ريشها بحدائق
ومخالب مثل الأهلَّة طالما ... أدْمين كف البازيارِ الحاذق
وإذا انبرى نحو الطريدة خلته ... كالريح في الأسماع أو كالبارق
وإذا دعاه البازيار رأيته ... أدنى وأطوع من محب وامق
وإذا القطاة تخلفت من خوفه ... لم يعد أَن يهوى بها من حالق وللأرجاني قصيدة وصف فيها من حيوان الصيد الطير والفهود والكلاب. مطلعها:
ولما نضا الأفق برد الظلام ... ساروا إلى خيلهِم باللجم
وهي قصيدة ممتعة
وللشعراء أساليب في وصف آلات الصيد والحيوانات التي تصاد لا يتسع المقال للتمثيل لها
وأبرع شعر الصيد ما وصف أفعال الصيد من الإحاطة بمواضيع الصيد وحشر الوحش إلى المضايق، ثم تسليط الحيوان والآلات عليها، والعلاقة بين الصائد والمصيد، وظفر الصائد بطلبته، ونحو هذا. وفي شعرنا من هذا الضرب صور عجيبة رائعة نعرض فيما يلي صوراً منها.


(للكلام بقية)
عبدالوهاب عزام



مجلة الرسالة - العدد 529
بتاريخ: 23 - 08 - 1943
[HR][/HR]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى