خالد جهاد - وجه آخر للعزلة

لم أعتد يوماً الحديث عن نفسي في مقالٍ ما إلا بما يمكنه أن يضفي المصداقية على فكرةٍ تشغلني أو يخدم الهدف المرجو من طرحها، فالإنسان يميل عموماً إلى تصديق ما يشعر به بشكلٍ مباشر دون حواجز أو أقنعة أكثر من ما يتم الحديث عنه في المطلق، وإن كان القارىء يرى بعض ملامحي المبعثرة بالنسبة إليه بين نصٍ هنا ومقالٍ هناك..

وبرغم حبي العميق لوطني إلا أنني لم أنجرف مرةً خلف صوتٍ متعصب من أي اتجاه ولم تعمني الأحداث المتوالية عن الواقع الذي أعيشه ويعيشه الكثير من أبنائه، فظل أمام عيني.. يرافقني في كل لحظة حيثما ذهبت لأنه ودون تخطيطٍ مني أصبح جزءاً أصيلاً من حكايتي الخاصة.. تلعب دوراً هاماً يؤثر على مختلف تفاصيلها فيحرك مجريات أحداثها مهما كانت بسيطة.. هي بشكلٍ أو بآخر قضية العمر وليست مجرد أزمةٍ قد يتفق حولها البعض أو يختلف، فعايشت كيف ظلت فلسطين وظل الفلسطينيون مثار تساؤلٍ وتأويلات على مر السنين رغم وضوح الصورة (لمن أراد أن يراها) ومهما اختلفت الزاوية التي يراها منها.. حيث يحكي الجميع عنهم لكن قلما أن يستمع أحدهم بصدق إلى حقيقة ما يشعرونه ويمرون به سواءاً كان ذلك داخل الوطن أو خارجه دون حكمٍ مسبق أو صورةٍ نمطية تتفاوت في موضوعيتها بحسب رؤية الأشخاص وأهوائهم والخلفية الثقافية والإجتماعية التي ينتمون إليها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار..

كان كلٌ منا يدرك وضعه أياً كان محل إقامته، سواءاً كان يعيش ضيفاً خارج وطنه أو مقهوراً على أرضه دون أن يدري ما يحمله له الغد مع هذا المحتل المتوحش، وبرغم هذا الإدراك الذي يشكل أهميةً قصوى بالنسبة إلينا كونه يحمينا من خيبات الأمل أو بعض التعليقات الجارحة أو المواقف الموجعة إلا أن أغلبنا كان لديه شعورٌ فطري بالمحبة والإنتماء إلى المكان الذي نشأ فيه وإلى محيطه العربي عموماً، وكان يدفعه ذلك الشعور (في بعض الأحيان) إلى الإندفاع ونسيان الواقع والتعامل بعاطفةٍ جياشة (كأي مواطنٍ عادي) يتفاعل مع بيئته كما علمته ثقافته الأم التي تؤكد على هويته العربية وعلى أنه لا فرق بيننا، وهو ما قد أسيء فهمه مراراً بشكلٍ أفضى كثيراً إلى شرخٍ عميق لم يزل بمرور الوقت، فقد ينسى الكثيرون بعض المواقف العصيبة التي تواجههم لكن الإحساس المباغت بالغربة والإنفصال عن محيطٍ شعروا بالإنتماء إليه وكونوا ذكرياتهم وذاكرتهم وعواطفهم معه احساس بالغ القسوة والمرارة، يتحول على مر الزمان إلى صراعٍ مع الذات يشابه في تعقيده شعور الطفل اليتيم الذي يجب أن يظهر دائماً لمن حوله أنه بخير كي لا يصبح فريسة النظرات والكلمات التي لن تتوقف من جهة ولن ترتقي ذات يوم إلى مدى ألم الفقدان الذي يعيشه لحظةً بلحظة من جهةٍ أخرى، والتي ستحاول دوماً التقليل من مصابه أو السخرية منه أو إقحامه في حدثٍ ما لإنتزاع ردة فعل لن تغفر له أياً كانت، وهو ما يدفعه في كثير من الأحيان إلى العزلة كي لا يتألم من جديد، فهو عالقٌ بين مجموعةٍ من الأسئلة والمشاعر المتضاربة والمركبة التي لا يستطيع أن يعيش معها أو يعيش بدونها والتي تضعه أمام حياةٍ لا ألوان فيها سوى الأبيض والأسود ولا مكان فيها لصدمةٍ أو دهشة.. ولا لغة فيها تكافىء الغربة سوى العودة بصمت..

#خالد_جهاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى