ثقافة شعبية حسَن الرّحيبي - من ثَقافتنا الدّكّالية الهلاَلية العَريقَة...

مَالك آعَمّي الفكرُون مَهمُوم ومَغمُوم وݣاعَد فوݣ حَجرة لعيُون ؟
أو أصل الكائنَات حسَب مخيَال مَامّا الخصب الثري قبل دَاروين بقرون .. أو مَا بين الببّوشة والبعبُولة من خلاَف واتّصَال؟
روايات جَميلة وحجّايات من خُبّير الزّمن الجَميل (قبل ظهور التلفزيون وتدجين وعي الأطفال بزمن طويل ! )
اعتقدتْ مَامّا عمّتي دائماً أن هناك خصَاماً طويلاً وكبيراً وعَداوة شَديدة ومترَسّخة .. ما بين البعبُولة والببّوشة أو الحلزونة نشأ منذ الأزل . ذلك لأن البعبولة كانت في الأصل هي صَاحبة الرّداء أو اللباس(القوقعة) . بينما كانت الببّوشة في البداية عارية أو عريانة . فتملكتها الغيرة من البعبولة الكاسية والمتباهية بلباسها الفاخر المزركش . وظلت تتربص بها الدّوائر حتى سنحت الفرصة لما نظم حلزون المنطقة عرساً حافلاً . فذهبت الحلزونة الماكرة عند البعبولة تتقرب منها وتتودّد راجيةً أن تمنحها رداءها الجميل كي تتباهى به في العرس أمام الأخريات . وتقضي ليلةً سعيدةً في الرقص والأكل . والاستمتاع بالحياة .. وعندما تعود سوف تعيده إليها كما هو بعد أن تنظفه وتغسله . لم تثق البعبولة منذ اللّحظة الأولى خوفاً من أن لا تعيدلها قوقعتها أو شقفتها الغالية . لكنها أقسمت لها بأغلظ الأيْمان وحلفت بسيد المشاوري وسيدي امحمّد لماني حتى تعيده لها ولن تنكرها في حقها . فصدقت البعبولة(البزّاقة) كلام الببّوشة المحتالة . فتخلت لها عن الشقفة العجيبة التي تحميها من جميع الأخطار . حين يداهمها شيء أو حشرة فتتمترس وتتقوقع داخلها في إحساس تام بالاطمئنان والدفء والأمان . لبست الببوشة ثياب البعبولة وانصرفت نحو مكان العرس مزهوة متفاخرة متهادية ومتثاقلة مثل امرأة أرستقراطية . رقصَت طول الليل واستمتعت بالمشروبات والمأكولاَت اللّذيذة والأطباق الفاخرة . وفي الصباح عادت لمنزلها وقد تركت كل همومها ومكبوتاتها النفسية في مكان العرس s'est défoulé . لكنها استحلت واستطابت دفء القوقعة الجميلة وفكرت في عدم إرجاعها لصَاحبتها مهما كلفها ذلك من ثمن . وجدت البعبولة تنتظرها مرتعدةً وقد اصطكّت أسنانها من شدة البرد هي التي تعودت الدفء والكساء والستر . ظنت أن صاحبتها الببوشة ستعيده إليها بسهولة وبدون تماطل أو تردد . لكنها امتنعت وانصرفت لجحرها مختبئة . طرقت عليها البعبولة الباب فلم تستجب . وانتظرتها حتى خرجت في الصّباح الموالي وقد انتشر الضّباب وعم الندى . فخرجت لترتشف رحيق الطلّ اللذيذ . حاولت البعبولة كشط ردائها فلم تفلح في مسعاها . ظلت تكرر نفس المحاولة لكن الببوشة تمسكت بالقوقعة وتشبثت بها إلى الأبد عاضّةً عليها بالنواجد . ليصبح الموقف الغريب مثلاً سائراً بين الناس : عنداك تدّير ليَ كما دارت الببوشة للبعبولة . تمسكنت حتى استحوذت على ردائها وتركتها عريانة إلى الأبد !
كما كان بلّارج أو اللّقلاق قاضياً شرعياً يسكن بقصر شامخ . يستقبل فيه المتقاضين من الناس . يحكم بينهم ويفصل في النوازل . لكن تعوّد أيضاً طلاء الدروج بالصابون البلدي ويجلس بشرفته منتظراً صعود أحد المختصمين فينزلق متدحرجاً نحو الأسفل مما يثير ضَحك القاضي الماكر وقهقهاته المتعالية والمتتابعة . فمسخه سيدي ربّي طائراً . لا زال لباسه الأبيض الزاهي على ظهره إلى اليوم . ودائرته أي هدّونه أو برنوسه الأسود الذي كان يغطي جلابيته الحريرية البيضاء إلى اليوم . كما لا زالت ضَحكاته تتعالى وهو يجول متبختراً في العلالي . تقول مامّا هذا وهي متيقنة من حقيقة هذه الحكايات الجميلة التي كنا نصدقها تماماً كتفسير للأصل الطبيعي للأشياء التي كنا نعايشها في وسطنا المباشر في البساتين والحقول .. وأيضا الحمار الذي كان "يدوي" عند تنقله من سوْر موسىٰ بن مشعل إلى مدينة الغربية حاملاً تراب بياضة وعندما يفرغ حمولته يعود بدون سائق في زمن بعيد جداً كان كلّ شيء عاقل شبيه بالإنسان إلى حين إثارته لغضب وسخط ربّه !
لكن لما درست فلسفة ديكارت وجدته يهاجم أول ما يهاجم بالشك المنهجي الحقائق التي اكتسبناها في الطفولة والتي تلقاهاالصغار من الكبار باعتبارها صحيحة بينما هي لا تعدو أن تكون مجرد أساطير وخرافات جماعية استعملها الناس لتفسير الواقع دون أن يكون لهم إلمام بمناهج ومفاهيم العلوم ..
وقد اعتقد العامة أيضاً أن الرّقع الظاهرة على ظهر الفكرون أو السلحفاة ناتجة عن كونه كان خيّاطاً لكنه لم يكن يحترم الأمانة أو يحفظ أثواب الناس وأشياءَهم فيسرق من كل ثوب رقعة من كل لون وشكل حتى تكتمل لديه جلّابية فيخيطها ويلبسها . فيأتي الزبناء للاحتجاج لما نال أثوابهم من اختلاس قلّص من حجمها وجعلها ݣرطيطة أو مقزّبة ليضيق سيدي ربّي ذرعاً بأفعاله الماكرة ونصبه على الناس فيمسخه على تلك الحال والمرقّعات لا زالت مرتسمةً على ظهره شاهدة على صانع حرَفي لم يكن أميناً في عمله . وبهذا تلعب هذه القصص دورها في تربية النشء بنفس طريقة الدين : الترهيب والترغيب .
تزوج الفكرون في رواية أخرى الجّرانة أو الضّفدعة الجميلة المزركشة . لكن ذات يوم حدث خلاف بينهما رغم الحبّ الجارف الذي كان يجمعهما . فغضبت ورجعت لبيت أهلها وتركته وحيداً متحسّراً ونادماً . جالساً على حجرة بجانب الواد مهموماً يضع يده على خدّه . إلى أن مرّ الديك الجميل المتهادي . فلفت نظره الفكرون حزيناً هو الذي لم يشاهد أبداً بهذا بهذه الكآبة حين كان لا يشاهد إلّا سعيداً مبتهجاً سابحاً بالنهر . فسأله : مالك آعمّي الفكرون ݣاعد مهموم فوݣ حجرات لعيون ؟ حُݣّلني ما نكون مغموم ومهموم وغزالي مشى عليّ . واللّي مشى لو غزالو آش بقى لو ؟
تأثر الفرّوج الحساس والعاطفي لحال الفكرون الشقي فسأله عن محل سكناها ؟ ليدله عليه قرب الواد . بدأ يطرق الباب عليها بعنف . لترد بدلال وتغنج من داخل المنزل : شكون دقّ الدار على بنات لحضَار بلا شوار يقطع ييده ؟
عمّك الفروج اللّي يعرف لوقوتات !
آه عمي الفرّوج اللّي يعرف لوقوتات ويبات في لبزوقات ؟
تأثر الفرّوج للإهانة والاحتقار الذي تعرضَ له فرجع خائباً منكسراً .
ليأتي دور الفرس الجميل المعتد بنفسه أيضاً . وقد انسدل شعره الحريري الغزير على كتفيه . وسرجه المذهب يعلو ظهره بأبهة وزهو . وصفائح حوَافره الفضّية تثير النقع بعد أن ترتسم على الأرض مطقطقة .. فيرى الفكرون على نفس الحال وبنفس الوضع ويسأله عن سبب حزنه : مالك آعمي الفكرون مهموم ومغموم وݣاعد فوݣ حجرات العيون ؟ ليجيبه : حݣّلني (يحقّ لي) ما نكون مهموم ومغموم وغزالي مشى عليّ . واللّي مشى له غزاله آش بقى له ؟
رقّ لحال الغيلم الحزين والمسكين فذهب لبيتها مسرعاً . طرق الباب عليها بعنف أكثر من طرق الفروج . لتخرج مذعورة وهي تتساءل :
شكون دقّ الدار على بنات لحضار (الحضَر) بلا شوَار يݣطع ييده ؟
ليردّ عليها الفرس بحزم :
عمك العاود اللي لجامه حديد وركابه حديد وصفايحه حديد والا ما زدتيش ݣدامي نصيّر لك راسك دݣيݣ !
ذهلت لكلام الفرس فلانت بسرعة وهي تقول :
اتسناني نسوّك سنيناتي ونعكّر خديداتي ونحنّي يدياتي وانا تابعاك!
لم يعد دون سوْق الضّفدعة أمامه صاغرةً ذليلة ومطأطئة أمام الغيلم الجريح !
وكذلك أسطورة البغلة التي أصبحت عاقرةً لا تقوى على الإنجاب حين دعت عليها بنت السّلطان لأنها رفضَت إركابها وأسقطتها أرضاً .. وحكاية فراشات اللّيل التي تصرّ على إحراق أجنحتها على لهيب الشّمعة لأن بنت السّلطان طلبت منها إحضَار الضّوء فلم تتردّد لحظةً واحدة للإلقاء بنفسها في أتون لظىٰ نار مستعرة حَارقة ..
قيل نهاية حزينة للفكرون وسعيدة بالنسبة للجّرانة ، لأن عُلجوماً ضَخماً وقويَاً بصَوته الرّهيب الذي يمزق سكون الحقول في اللّيَالي الظّلمَاء .. أي برّرّكرَك استطاع اختطافها من بين حوَافر العاود المصَفّحة اللّمّاعَة ، ليفوز بقلبها وحبّها .. في النّهايَة ..

حسَن الرّحيبي..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى