تدور أحداث قصة "ذلك النداء" للقاص "أحمد رجب شلتوت" في إحدى القرى المصرية، وأبطالها الزوجة "وطفة بنت الكلاف" وزوجها "سعيد ابن هنية" وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة (فهو قعيد منذ الطفولة، معاق في أرجله منذ الطفولة)، وقد اشتهر بسعيد الطيار "أبو طيارة"، وأبوه وأمه "هنية"، و"محمود بن بهانة" ابن القرية المصاب، ودخل المستشفى بسبب إحدى طائرات سعيد.
وقد قسم الكاتب قصته إلى 4 مشاهد في متوالية قصصية، على غرار الرواية القصيرة، كأن الكاتب كتب رواية طويلة واختصرها إلى قصة قصيرة تقع في 1030 كلمة، وتحكي القصة جانبًا من يوميات الزوجين سعيد ووطفة وما يحدث بينهما من شد وجذب، وعلاقاتهما بالأهل والجيران وأهالي القرية.
يوصف الحب بأنه إحدى السمات البشرية، وهذه العاطفة متأصلة في الثقافات كافة، والحب مفهوم تجريدي يفهم معناه بالتجربة وليس من التفسير الشفهي، وطفة زوجة سعيد تحب الحناء وهو لا يحبها:
لم يحب رائحة الحناء أبدًا، هي تحبها وتلجأ إليها كثيرًا، تتحدث دائمًا عن فائدة الحناء لعلاج أوجاع الرأس كما أنها سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يرغب في إغاظتها.
- ليسا الصداع والسنة يا وطفة.
تقول ساخرة:
- أفتنا أفادك الله.
- الشعر الأبيض يا وطفة، تريدين إخفاء شيبك خلف لون الحناء.
فطالما أن شعر "وطفة" صار أبيض وتحتاج إلى تلوينه بالحناء، إذن فهي لم تعد صغيرة في السن، فهي متزوجة سعيد منذ عدة سنوات خلت، وليسا زوجين في مقتبل العمر، ولأن الحب سمة تجعل من الفرد إنسان بشريًّا، فيوجد حب العمل، وهنا "سعيد" قعيد (سعيد الكسيح لا عمل له، في طفولته أصابه المرض الذي أتلف ساقيه، لم يذهب إلى المدرسة، استعاض الأب بشيخ الكتاب).
حب الطبيعة
لكنه منذ صغره وقع في حب الطبيعة من زرع وسماء وطيور، فمن شدة حبه للطيور وخاصة الإوز العراقي المهاجر، كان يقلد أصوات الطيور، وينادي عليها وكأنه تعلم لغتها (فيه يرقد شاخصًا إلى طيور يراها في الحقل فمن أتى بها إلى هنا؟ ﻻ سيما تلك التي تسميها أمه (وز عراقي) تظل في طيرانها صامتة حتى تصبح فوق البيت، ترى سعيدًا فتناديه، يمد ذراعيه كما لو كانا جناحين، يحاول تقليد الصوت.
يعيد المحاولة، لكن الوز العراقي يواصل رحلته ولا يأبه لرد سعيد)، الحمامة دائمَا رمز السلام، والشخصية التي تنتمي إليها عادة ما تكون ودودة وهادئة وتفضل دائمًا العمل في فريق، والجميل أنها تتميز بالإخلاص والقدرة على بذل الجهد الكبير في العمل، ولكنها للأسف تتجنب الصراع والمواجهة، تفضل شخصية الحمامة أن تلعب في كل ما هو مضمون ولا تحب أخذ المخاطرة.
أما بالنسبة لاحتياجات شخصية الحمامة فهي عادة لا تكون حازمة في احتياجاتها، ولكنها تتركها مع مرور الوقت وتفضل دائمًا أن تكون عاطفية وليست منطقية.
ويعد "سعيد" بطل قصتنا "ذلك النداء" ممن ينتمي لتلك الشخصية، فهو ينادي الطيور الطائرة في السماء، فعينه وقلبه ومشاعره متعلقة بكل ما هو طائر بالسماء (يفكر في تقليص المسافة بينه والطيور، فيصعد إلى السطح، يحبو باتجاه السلم الخشبي، يمسك بأولى الدرجات محاولًا الاستناد عليها ليقوم، لكنه لا يستطيع، يظل يحاول ويعيد المحاولة دون كلل، ولا يصل أبدًا للدرجة التالية مهما حاول، يرمق السطح بأسى، ينادي الطيور التي لم تعد في سمائه، يحبو مبتعدًا عن السلم، يعود لرقاده فوق الحصير شاخصًا نحو السماء).
إعاقة ذهنية
الإعاقة الذهنية هي انخفاض كبير في مستوى الأداء الذهني للشخص منذ الولادة أو الطفولة المبكرة، ما يؤدي إلى محدودية في القدرة على أداء أنشطة الحياة اليومية الاعتيادية، وإذا كان الطفل يشكو من تأخر القدرة على الجلوس أو المشي (المهارات الحركية) أو تأخر القدرة على الإمساك بالأشياء (المهارات الحركية الدقيقة) فقد يكون لديه اضطراب عصبي لا صلة له بالإعاقة الذهنية.
وهنا "سعيد" يمكن اعتباره أنه لديه إعاقة حركية ذهنية، شيء ما بين عدم قدرته على المشي والسير الطبيعي على قدميه إضافة لضعف في القدرات العقلية، ما يدل على وجود رابط عصبي بين الأمرين (يسأله الأب ساخرًا عن عدد النجوم فيرد بتقليد صياح الوز العراقي، تندب الأم حظها فالابن الذي رجته من الدنيا ابتلاه الله بعد تلف ساقيه بفقدان عقله).
سواء ولدت في بيئة هانئة أو في بيئة شقية، بإمكانك أن تجذب الحظ بفهم سيكولوجية المحظوظين، فإذا أردت أن تمشي في المسار العلمي ليتحسن حظك، فعليك أن تقرأ وتستوعب مقترحات أستاذ علم النفس التجريبي "ريتشارد وايزمان"، إذ أجرى مقابلات وتجارب مع أكثر من 400 شخص، ووثقها في كتابه المشهور (The Luck Factor) الذي صدر عام 2004 .
وحدد من خلال هذه التجارب 4 مبادئ نفسية تزيد حظوظ الإنسان: (1-التجارب الجديدة، 2-الحدس، 3-التفاؤل، 4- الإيجابية)، في حين أن قصتنا "ذلك النداء" تتناول الأمور بالمعالجة من التراث الشعبي المصري، بأن ما جرى ويجري لـ"سعيد ببن هنية" ما هو إلا حسد وعين أصابته من الناس الحاقدة، وعلاجه يكمن في أن نرقيه ونبخره بالبخور لكي نبطل هذا الحسد وتأثير تلك العيون [تشير عليها جارة فتبخره وترقيه لكنه لا يكف، تهمس في أذنها الجارة باسم جارة أخرى لم يفلح ابنها في حفظ آية واحدة من القرآن.
تأتي الأم بقطعة كبيرة من شيء تدعوه (شبة) وتأتي بورقة ومقص، تقص الورقة على شكل عروسة، من صدر جلبابها تنزع إبرة وتثقب الورقة ثقوبًا بعدد الجارات اللاتي رأين سعيدًا ولم يصلين على النبي عليه الصلاة والسلام، تمتلئ الورقة بالثقوب، فتوقد الأم النار، تحرق الشبة، يتسلى سعيد بمتابعة تحولات وتشكلات الشبة المحترقة، تتخذ أشكالًا عدة، وترى الأم في كل شكل صورة لحاسدة محتملة.
تكمل الأم علاجها، فتحرق العروس الملأى بالثقوب ثم تمسك برمادها تعجنه مع بقايا الشبة المحترقة، وترسم بها على جبهة سعيد صلبانًا في حين شفتاها تتمتمان بـ(قل أعوذ برب الفلق)].
مشهد درامي يتكرر في أدبيات الموروثات الشعبية المصرية
بالطبع هذا المشهد الدرامي سنجده يتكرر في أدبيات الموروثات الشعبية المصرية، وهي خلطة ما بين عادات شعبية ليس لها علاقة بالدنيا مع ذكر النبي الكريم والصلاة والسلام عليه مع قراءة المعوذتين من القرآن الكريم، ولو اعتبرنا هذا المشهد نقطة، ومشهد صب سعيد الماء على رأس وطفة لكي تغسل شعرها من الحناء، وتعليلها بأن الحناء من السنة النبوية الضرورية، نقطة ثانية، وسحبنا بالقلم خطًّا بين النقطتين، فسنستنتج بأن سلوكيات شخوص القرى لها مرجعيتها التي تخلط ما بين العادات والتقاليد والتعاليم النبوية والقرآنية، بطريقة متناغمة جدًّا، فلا تستطيع أحيانًا التفرقة بين هذا وذاك.
عندما فكر الأب والأم في تزويج "سعيد" واختارت له أمه "وطفة" لكي تكون زوجة له، رفض سعيد مقترح الزواج بل وبكى بكاء شديدًا ورفض ترك الحقل والرجوع للبيت (رفض سعيد فكرة الزواج، بكى ورفض العودة من الحقل، سألته الأم عن السبب فلم يجب سوى بمزيد من البكاء، حاولت إغواءه بتلبية رغباته، فاجأها بأن طلب بيتًا هناك حيث الخلاء الوسيع، أصر سعيد وألحت هنية حتى رضخ الأب، بنى حجرة واحدة على رأس الحقل).
الشعور بالانجذاب للطبيعة، وحب الطبيعة، والمتعة في العيش وسط الطبيعة، ومشاهدة المناظر الطبيعية، والتماس لحظات من السعادة والاستمتاع بجو الطبيعة، ليس أمرًا عامًّا لكل البشر، فبعضهم يحب بدرجة أكبر الماديات الملموسة والمصنوعة من يد الإنسان ويفضلها عن الطبيعة، ويوجد من يرى أن فندقًا فخمًا أفضل من منظر الجبال المرتفعة، أو مشهدًا لناطحة سحاب أجمل من القمر في ليلة البدر.
لذا فالناس في أمر الطبيعة وحبها ليسوا سواء، ومحبو الطبيعة لهم شخصية مختلفة عن غيرهم، وسعيد بطل قصة "ذلك النداء" للقاص "أحمد رجب شلتوت" من الشخصيات العاشقة للطبيعة (الدرج الحجري يقود سعيدًا مباشرة إلى السطح، فلا يغادر إلا حينما تلهبه شمس الظهيرة بينما وطفة تعمل في الحقل أو ترعى دجاجاتها في البيت، ولا عمل لسعيد إلا مراقبة الطيور ومناداتها.
حتى تلك الطيور الورقية يناديها، أحبها وصاحب صناعها، علموه فصنع لنفسه واحدة، أعجبته فصنع غيرها، أتقن صنع طائرات الورق فاشتهر بها، أصبح سعيدًا الطيار، أشارت عليه وطفة:
- ما دمت قد أفلحت في شيء فلماذا لا تكسب منه؟).
ولأن "سعيد" محب للطبيعة يلون الحياة بألوان الطبيعة، يكره الروتين والملل، ويحب الهدوء، (يحبو سعيد صاعدًا الدرج، لم يزل الجو ساخنًا لكنه لا يهتم)، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله صامتًا طوال الوقت، بل على العكس هو يمتلئ بالحيوية، لكن لو توافر الهدوء فهو يستمتع به (يتعجب سعيد لأمرها، شجعته على صنع الطائرات بغرض بيعها وها هي تلومه الآن.
ما ذنبه هو لو مات محمود بن بهانة أو حتى لو ماتت بهانة نفسها)، يمكنه البقاء ساعات في حالة من السعادة أو الحزن فهو ليس متقلب المزاج، يحب الاطلاع، طموح، يعشق الألوان، يحب المرح والانطلاق (في الركن أدوات صناعته، تمامًا كما تركها بالأمس، يشرع على التو في صنع طائرة كبيرة، بطول البوصة كلها، يتخيل الشكل فيفرح، ستكون طائرة ليس كمثلها طائرة، سيفاجئ بها وطفة، سيمد الطائرة بكل ما لديه من خيط ويطيرها حتى مستشفى البندر، هناك يمكن أن تراها وطفة وبهانة ومحمود والجميع).
طبعًا يقصد بوصول خيط الطائرة لمستشفى البندر، المستشفى المحجوز فيها "محمود بن بهانة"، حيث تذهب "وطفة" لزيارته هناك، وقد دار بينها وبين "سعيد" وصلة من الحوار المملوء بالاستنكار والسخرية بين الزوجين، وهي تستعد للذهب للمستشفى:
- عقبال ما أشيل الطين عليك يا سعيد يا بن هنية.
تنطقها وهي تسدل الثوب الأسود، تغطي رأسها بشال أسود أيضًا، يسألها:
- إلى أين؟
- إلى المستشفى لأكون بجوار بهانة الغلبانة، ابنها الوحيد فوق 3 بنات سيموت بسببك، ليته ينجو وترحل أنت.
- وهل تحلو لك الحياة دوني؟
- لا تحلو إلا دونك.
- تكذبين.
- أتعرف يا سعيد لن ألبس الأسود عليك إلا ليومين فقط.
يضحك فيزداد غيظها.
- أيام العدة أكثر من ذلك.
مشاعر الزوجة تجاه زوجها
تحديد مشاعر الزوجة تجاه زوجها يحتاج إلى التركيز على كثيرٍ من الأمور، وملاحظة تصرفاتها، كما يحتاج إلى كثير من التفكير، إضافة إلى الانتباه إلى علامات كثيرة تصدر عن الزوجة (علامات كره الزوجة لزوجها)، إذ توجد علامات قد تشير إلى أنها لم تعد تحب زوجها كما في السابق، في الخلافات الزوجية، (- أتعرف يا ابن هنية بماذا تذكرني؟
أنت مثل الساقية التي لا تدور، أتذكر بتوع السيما حينما صوروا فيلمًا في أرضنا، لم يجدوا الساقية التي يريدونها فأرضنا الآن نرويها بالمكن، يومها صنعوا ساقية من الخشب والكرتون، ساقية كده وكده لا تدور ولا تجلب الماء، أنت يا سعيد تذكرني بهذه الساقية.
كالعادة تغلبه بلسانها فيلزم الصمت، ولما تنتهي تصفق الباب خلفها بشدة ويحبو سعيد صاعدًا إلى السطح).
أحيانًا يعد أحد الزوجين أن صمت الطرف الآخر تصرف مستفز حتى لو عده الطرف الصامت معادلًا للحكمة والرغبة، لامتصاص الغضب وتفادي تصاعد الخلاف.
وتقول الكاتبة "يسرى ناصر مهنا" في مقالها "الطيور والإنسان علاقة جدلية" المنشورة بصحيفة الشرق: (طالما راقب الإنسان الطيور وهي تحلق في السماء بدهشة وإعجاب متمنيًا في قرارة نفسه لو تمكن مثلها من التحليق نحو الأعلى برشاقة وخفة وحرية.. وبين الإنسان والطيور علاقة جدلية عمرها من عمر البشرية، فالإعجاب والدهشة وبقية المشاعر المتضاربة والمتناقضة والتي عكسها في علاقة صداقة وتعاون مع بعض الطيور، وعلاقة عداء ونفور مع بعضها الآخر تبعًا لتكوين الطائر الفسيولوجي ومظهره الخارجي وتكوينه النفسي، ومن الطيور ما اجتهد الإنسان طويلًا في تربيتها وتدريبها وتعليمها ليصطاد ويقنص بها طيورًا وحيوانات أخرى، ومنها ما أعطى لنفسه الحق بإعدامها وقتلها دون تردد، مثل تلك التي عدَّها ضارة به وبمحاصيله الزراعية ومنها الغربان).
وفعلًا هذا ما عبر عنه الكاتب "أحمد رجب شلتوت" في قصته "ذلك النداء" من خلال الشخصية الرئيسة للقصة وهو "سعيد" زوج "وطفة" وابن "هنية"، فهو سعيد الطيار يصنع الطائرات، ويجعلها تطير كالطيور التي يراقبها على مدار الساعة واليوم (الهواء يحمل الطائرة وسعيد يرخي لها الخيط، تعلو الطائرة وتبتعد، ينتشي سعيد ويصيح كالوز العراقي، تبعد الطائرة وتصغر، تبعد وتشد الخيط بقوة.
يرقب سعيد طائره ويتمنى لو كان هو الطائر)، فالطيور كانت جزءًا من الموروث الشعبي لكل شعوب وأمم الأرض دون استثناء، فسعيد (يصيح مقلدًا كل الطيور، يفرد الخيط كله في حين طائره يبتعد ويشده، يناديه، يحرك ذراعيه كما لوكانا جناحين، يحبو باتجاه حافة السطح، ويظل طائره يشده، يناديه، يناديه، ولا يملك سعيد إلا أن يلبي النداء).
الخلاصة
نستخلص: في الماضي كان دور القاص يقتصر على نقل التراث بصورته الأصلية التي قد تتغير، ولكن بقصة "ذلك النداء" استطاع القاص "أحمد رجب شلتوت" استثمار معانيها في التعبير عن التجربة المعاصرة، فهو تمكن من التوظيف الفني لارتباط المعطى التراثي بأصله واحتفاظه بدلالته القديمة، وتفعيله لأداء دور رمزي إيحائي.
في إعادة كتابة الموروث الشعبي، في إشارة لاطلاع القاص الواسع وثقافته الجيدة، والتي وردت على لسان الشخصيات فأضافت بعدًا جديدً، وأحدثت تفاعلًا مع النص المعاصر، ذلك أن التوظيف السردي هو استطاعة القاص إخراج المعطى التراثي من معناه المتداول قديمًا إلى معنى وخلق جديدين، يقف أمامه المتلقي مندهشًا محاولًا الربط بين المعنيين التراثي والمعاصر.
وقد قسم الكاتب قصته إلى 4 مشاهد في متوالية قصصية، على غرار الرواية القصيرة، كأن الكاتب كتب رواية طويلة واختصرها إلى قصة قصيرة تقع في 1030 كلمة، وتحكي القصة جانبًا من يوميات الزوجين سعيد ووطفة وما يحدث بينهما من شد وجذب، وعلاقاتهما بالأهل والجيران وأهالي القرية.
يوصف الحب بأنه إحدى السمات البشرية، وهذه العاطفة متأصلة في الثقافات كافة، والحب مفهوم تجريدي يفهم معناه بالتجربة وليس من التفسير الشفهي، وطفة زوجة سعيد تحب الحناء وهو لا يحبها:
لم يحب رائحة الحناء أبدًا، هي تحبها وتلجأ إليها كثيرًا، تتحدث دائمًا عن فائدة الحناء لعلاج أوجاع الرأس كما أنها سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يرغب في إغاظتها.
- ليسا الصداع والسنة يا وطفة.
تقول ساخرة:
- أفتنا أفادك الله.
- الشعر الأبيض يا وطفة، تريدين إخفاء شيبك خلف لون الحناء.
فطالما أن شعر "وطفة" صار أبيض وتحتاج إلى تلوينه بالحناء، إذن فهي لم تعد صغيرة في السن، فهي متزوجة سعيد منذ عدة سنوات خلت، وليسا زوجين في مقتبل العمر، ولأن الحب سمة تجعل من الفرد إنسان بشريًّا، فيوجد حب العمل، وهنا "سعيد" قعيد (سعيد الكسيح لا عمل له، في طفولته أصابه المرض الذي أتلف ساقيه، لم يذهب إلى المدرسة، استعاض الأب بشيخ الكتاب).
حب الطبيعة
لكنه منذ صغره وقع في حب الطبيعة من زرع وسماء وطيور، فمن شدة حبه للطيور وخاصة الإوز العراقي المهاجر، كان يقلد أصوات الطيور، وينادي عليها وكأنه تعلم لغتها (فيه يرقد شاخصًا إلى طيور يراها في الحقل فمن أتى بها إلى هنا؟ ﻻ سيما تلك التي تسميها أمه (وز عراقي) تظل في طيرانها صامتة حتى تصبح فوق البيت، ترى سعيدًا فتناديه، يمد ذراعيه كما لو كانا جناحين، يحاول تقليد الصوت.
يعيد المحاولة، لكن الوز العراقي يواصل رحلته ولا يأبه لرد سعيد)، الحمامة دائمَا رمز السلام، والشخصية التي تنتمي إليها عادة ما تكون ودودة وهادئة وتفضل دائمًا العمل في فريق، والجميل أنها تتميز بالإخلاص والقدرة على بذل الجهد الكبير في العمل، ولكنها للأسف تتجنب الصراع والمواجهة، تفضل شخصية الحمامة أن تلعب في كل ما هو مضمون ولا تحب أخذ المخاطرة.
أما بالنسبة لاحتياجات شخصية الحمامة فهي عادة لا تكون حازمة في احتياجاتها، ولكنها تتركها مع مرور الوقت وتفضل دائمًا أن تكون عاطفية وليست منطقية.
ويعد "سعيد" بطل قصتنا "ذلك النداء" ممن ينتمي لتلك الشخصية، فهو ينادي الطيور الطائرة في السماء، فعينه وقلبه ومشاعره متعلقة بكل ما هو طائر بالسماء (يفكر في تقليص المسافة بينه والطيور، فيصعد إلى السطح، يحبو باتجاه السلم الخشبي، يمسك بأولى الدرجات محاولًا الاستناد عليها ليقوم، لكنه لا يستطيع، يظل يحاول ويعيد المحاولة دون كلل، ولا يصل أبدًا للدرجة التالية مهما حاول، يرمق السطح بأسى، ينادي الطيور التي لم تعد في سمائه، يحبو مبتعدًا عن السلم، يعود لرقاده فوق الحصير شاخصًا نحو السماء).
إعاقة ذهنية
الإعاقة الذهنية هي انخفاض كبير في مستوى الأداء الذهني للشخص منذ الولادة أو الطفولة المبكرة، ما يؤدي إلى محدودية في القدرة على أداء أنشطة الحياة اليومية الاعتيادية، وإذا كان الطفل يشكو من تأخر القدرة على الجلوس أو المشي (المهارات الحركية) أو تأخر القدرة على الإمساك بالأشياء (المهارات الحركية الدقيقة) فقد يكون لديه اضطراب عصبي لا صلة له بالإعاقة الذهنية.
وهنا "سعيد" يمكن اعتباره أنه لديه إعاقة حركية ذهنية، شيء ما بين عدم قدرته على المشي والسير الطبيعي على قدميه إضافة لضعف في القدرات العقلية، ما يدل على وجود رابط عصبي بين الأمرين (يسأله الأب ساخرًا عن عدد النجوم فيرد بتقليد صياح الوز العراقي، تندب الأم حظها فالابن الذي رجته من الدنيا ابتلاه الله بعد تلف ساقيه بفقدان عقله).
سواء ولدت في بيئة هانئة أو في بيئة شقية، بإمكانك أن تجذب الحظ بفهم سيكولوجية المحظوظين، فإذا أردت أن تمشي في المسار العلمي ليتحسن حظك، فعليك أن تقرأ وتستوعب مقترحات أستاذ علم النفس التجريبي "ريتشارد وايزمان"، إذ أجرى مقابلات وتجارب مع أكثر من 400 شخص، ووثقها في كتابه المشهور (The Luck Factor) الذي صدر عام 2004 .
وحدد من خلال هذه التجارب 4 مبادئ نفسية تزيد حظوظ الإنسان: (1-التجارب الجديدة، 2-الحدس، 3-التفاؤل، 4- الإيجابية)، في حين أن قصتنا "ذلك النداء" تتناول الأمور بالمعالجة من التراث الشعبي المصري، بأن ما جرى ويجري لـ"سعيد ببن هنية" ما هو إلا حسد وعين أصابته من الناس الحاقدة، وعلاجه يكمن في أن نرقيه ونبخره بالبخور لكي نبطل هذا الحسد وتأثير تلك العيون [تشير عليها جارة فتبخره وترقيه لكنه لا يكف، تهمس في أذنها الجارة باسم جارة أخرى لم يفلح ابنها في حفظ آية واحدة من القرآن.
تأتي الأم بقطعة كبيرة من شيء تدعوه (شبة) وتأتي بورقة ومقص، تقص الورقة على شكل عروسة، من صدر جلبابها تنزع إبرة وتثقب الورقة ثقوبًا بعدد الجارات اللاتي رأين سعيدًا ولم يصلين على النبي عليه الصلاة والسلام، تمتلئ الورقة بالثقوب، فتوقد الأم النار، تحرق الشبة، يتسلى سعيد بمتابعة تحولات وتشكلات الشبة المحترقة، تتخذ أشكالًا عدة، وترى الأم في كل شكل صورة لحاسدة محتملة.
تكمل الأم علاجها، فتحرق العروس الملأى بالثقوب ثم تمسك برمادها تعجنه مع بقايا الشبة المحترقة، وترسم بها على جبهة سعيد صلبانًا في حين شفتاها تتمتمان بـ(قل أعوذ برب الفلق)].
مشهد درامي يتكرر في أدبيات الموروثات الشعبية المصرية
بالطبع هذا المشهد الدرامي سنجده يتكرر في أدبيات الموروثات الشعبية المصرية، وهي خلطة ما بين عادات شعبية ليس لها علاقة بالدنيا مع ذكر النبي الكريم والصلاة والسلام عليه مع قراءة المعوذتين من القرآن الكريم، ولو اعتبرنا هذا المشهد نقطة، ومشهد صب سعيد الماء على رأس وطفة لكي تغسل شعرها من الحناء، وتعليلها بأن الحناء من السنة النبوية الضرورية، نقطة ثانية، وسحبنا بالقلم خطًّا بين النقطتين، فسنستنتج بأن سلوكيات شخوص القرى لها مرجعيتها التي تخلط ما بين العادات والتقاليد والتعاليم النبوية والقرآنية، بطريقة متناغمة جدًّا، فلا تستطيع أحيانًا التفرقة بين هذا وذاك.
عندما فكر الأب والأم في تزويج "سعيد" واختارت له أمه "وطفة" لكي تكون زوجة له، رفض سعيد مقترح الزواج بل وبكى بكاء شديدًا ورفض ترك الحقل والرجوع للبيت (رفض سعيد فكرة الزواج، بكى ورفض العودة من الحقل، سألته الأم عن السبب فلم يجب سوى بمزيد من البكاء، حاولت إغواءه بتلبية رغباته، فاجأها بأن طلب بيتًا هناك حيث الخلاء الوسيع، أصر سعيد وألحت هنية حتى رضخ الأب، بنى حجرة واحدة على رأس الحقل).
الشعور بالانجذاب للطبيعة، وحب الطبيعة، والمتعة في العيش وسط الطبيعة، ومشاهدة المناظر الطبيعية، والتماس لحظات من السعادة والاستمتاع بجو الطبيعة، ليس أمرًا عامًّا لكل البشر، فبعضهم يحب بدرجة أكبر الماديات الملموسة والمصنوعة من يد الإنسان ويفضلها عن الطبيعة، ويوجد من يرى أن فندقًا فخمًا أفضل من منظر الجبال المرتفعة، أو مشهدًا لناطحة سحاب أجمل من القمر في ليلة البدر.
لذا فالناس في أمر الطبيعة وحبها ليسوا سواء، ومحبو الطبيعة لهم شخصية مختلفة عن غيرهم، وسعيد بطل قصة "ذلك النداء" للقاص "أحمد رجب شلتوت" من الشخصيات العاشقة للطبيعة (الدرج الحجري يقود سعيدًا مباشرة إلى السطح، فلا يغادر إلا حينما تلهبه شمس الظهيرة بينما وطفة تعمل في الحقل أو ترعى دجاجاتها في البيت، ولا عمل لسعيد إلا مراقبة الطيور ومناداتها.
حتى تلك الطيور الورقية يناديها، أحبها وصاحب صناعها، علموه فصنع لنفسه واحدة، أعجبته فصنع غيرها، أتقن صنع طائرات الورق فاشتهر بها، أصبح سعيدًا الطيار، أشارت عليه وطفة:
- ما دمت قد أفلحت في شيء فلماذا لا تكسب منه؟).
ولأن "سعيد" محب للطبيعة يلون الحياة بألوان الطبيعة، يكره الروتين والملل، ويحب الهدوء، (يحبو سعيد صاعدًا الدرج، لم يزل الجو ساخنًا لكنه لا يهتم)، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله صامتًا طوال الوقت، بل على العكس هو يمتلئ بالحيوية، لكن لو توافر الهدوء فهو يستمتع به (يتعجب سعيد لأمرها، شجعته على صنع الطائرات بغرض بيعها وها هي تلومه الآن.
ما ذنبه هو لو مات محمود بن بهانة أو حتى لو ماتت بهانة نفسها)، يمكنه البقاء ساعات في حالة من السعادة أو الحزن فهو ليس متقلب المزاج، يحب الاطلاع، طموح، يعشق الألوان، يحب المرح والانطلاق (في الركن أدوات صناعته، تمامًا كما تركها بالأمس، يشرع على التو في صنع طائرة كبيرة، بطول البوصة كلها، يتخيل الشكل فيفرح، ستكون طائرة ليس كمثلها طائرة، سيفاجئ بها وطفة، سيمد الطائرة بكل ما لديه من خيط ويطيرها حتى مستشفى البندر، هناك يمكن أن تراها وطفة وبهانة ومحمود والجميع).
طبعًا يقصد بوصول خيط الطائرة لمستشفى البندر، المستشفى المحجوز فيها "محمود بن بهانة"، حيث تذهب "وطفة" لزيارته هناك، وقد دار بينها وبين "سعيد" وصلة من الحوار المملوء بالاستنكار والسخرية بين الزوجين، وهي تستعد للذهب للمستشفى:
- عقبال ما أشيل الطين عليك يا سعيد يا بن هنية.
تنطقها وهي تسدل الثوب الأسود، تغطي رأسها بشال أسود أيضًا، يسألها:
- إلى أين؟
- إلى المستشفى لأكون بجوار بهانة الغلبانة، ابنها الوحيد فوق 3 بنات سيموت بسببك، ليته ينجو وترحل أنت.
- وهل تحلو لك الحياة دوني؟
- لا تحلو إلا دونك.
- تكذبين.
- أتعرف يا سعيد لن ألبس الأسود عليك إلا ليومين فقط.
يضحك فيزداد غيظها.
- أيام العدة أكثر من ذلك.
مشاعر الزوجة تجاه زوجها
تحديد مشاعر الزوجة تجاه زوجها يحتاج إلى التركيز على كثيرٍ من الأمور، وملاحظة تصرفاتها، كما يحتاج إلى كثير من التفكير، إضافة إلى الانتباه إلى علامات كثيرة تصدر عن الزوجة (علامات كره الزوجة لزوجها)، إذ توجد علامات قد تشير إلى أنها لم تعد تحب زوجها كما في السابق، في الخلافات الزوجية، (- أتعرف يا ابن هنية بماذا تذكرني؟
أنت مثل الساقية التي لا تدور، أتذكر بتوع السيما حينما صوروا فيلمًا في أرضنا، لم يجدوا الساقية التي يريدونها فأرضنا الآن نرويها بالمكن، يومها صنعوا ساقية من الخشب والكرتون، ساقية كده وكده لا تدور ولا تجلب الماء، أنت يا سعيد تذكرني بهذه الساقية.
كالعادة تغلبه بلسانها فيلزم الصمت، ولما تنتهي تصفق الباب خلفها بشدة ويحبو سعيد صاعدًا إلى السطح).
أحيانًا يعد أحد الزوجين أن صمت الطرف الآخر تصرف مستفز حتى لو عده الطرف الصامت معادلًا للحكمة والرغبة، لامتصاص الغضب وتفادي تصاعد الخلاف.
وتقول الكاتبة "يسرى ناصر مهنا" في مقالها "الطيور والإنسان علاقة جدلية" المنشورة بصحيفة الشرق: (طالما راقب الإنسان الطيور وهي تحلق في السماء بدهشة وإعجاب متمنيًا في قرارة نفسه لو تمكن مثلها من التحليق نحو الأعلى برشاقة وخفة وحرية.. وبين الإنسان والطيور علاقة جدلية عمرها من عمر البشرية، فالإعجاب والدهشة وبقية المشاعر المتضاربة والمتناقضة والتي عكسها في علاقة صداقة وتعاون مع بعض الطيور، وعلاقة عداء ونفور مع بعضها الآخر تبعًا لتكوين الطائر الفسيولوجي ومظهره الخارجي وتكوينه النفسي، ومن الطيور ما اجتهد الإنسان طويلًا في تربيتها وتدريبها وتعليمها ليصطاد ويقنص بها طيورًا وحيوانات أخرى، ومنها ما أعطى لنفسه الحق بإعدامها وقتلها دون تردد، مثل تلك التي عدَّها ضارة به وبمحاصيله الزراعية ومنها الغربان).
وفعلًا هذا ما عبر عنه الكاتب "أحمد رجب شلتوت" في قصته "ذلك النداء" من خلال الشخصية الرئيسة للقصة وهو "سعيد" زوج "وطفة" وابن "هنية"، فهو سعيد الطيار يصنع الطائرات، ويجعلها تطير كالطيور التي يراقبها على مدار الساعة واليوم (الهواء يحمل الطائرة وسعيد يرخي لها الخيط، تعلو الطائرة وتبتعد، ينتشي سعيد ويصيح كالوز العراقي، تبعد الطائرة وتصغر، تبعد وتشد الخيط بقوة.
يرقب سعيد طائره ويتمنى لو كان هو الطائر)، فالطيور كانت جزءًا من الموروث الشعبي لكل شعوب وأمم الأرض دون استثناء، فسعيد (يصيح مقلدًا كل الطيور، يفرد الخيط كله في حين طائره يبتعد ويشده، يناديه، يحرك ذراعيه كما لوكانا جناحين، يحبو باتجاه حافة السطح، ويظل طائره يشده، يناديه، يناديه، ولا يملك سعيد إلا أن يلبي النداء).
الخلاصة
نستخلص: في الماضي كان دور القاص يقتصر على نقل التراث بصورته الأصلية التي قد تتغير، ولكن بقصة "ذلك النداء" استطاع القاص "أحمد رجب شلتوت" استثمار معانيها في التعبير عن التجربة المعاصرة، فهو تمكن من التوظيف الفني لارتباط المعطى التراثي بأصله واحتفاظه بدلالته القديمة، وتفعيله لأداء دور رمزي إيحائي.
في إعادة كتابة الموروث الشعبي، في إشارة لاطلاع القاص الواسع وثقافته الجيدة، والتي وردت على لسان الشخصيات فأضافت بعدًا جديدً، وأحدثت تفاعلًا مع النص المعاصر، ذلك أن التوظيف السردي هو استطاعة القاص إخراج المعطى التراثي من معناه المتداول قديمًا إلى معنى وخلق جديدين، يقف أمامه المتلقي مندهشًا محاولًا الربط بين المعنيين التراثي والمعاصر.
جوَّك | قراءة في قصة "ذلك النداء" للكاتب أحمد رجب شلتوت - بقلم محمود سلامه الهايشه
تدور أحداث قصة "ذلك النداء" للقاص "أحمد رجب شلتوت" المنشورة في المجلة العربية، السعودية، العدد (545)، فبراير 2022 م، رجب 1443هـ، في...
jawak.com