شهادات خاصة موسى حوامدة - أحمد أبو سليم حارس المدينة المقدسة...

[HEADING=2]- كنت أحرس الموتى ....يا ....سيدي[/HEADING]
- ماذا ؟
- أحرس الموتى.
ضحك الضابط فضحك جميع من في المخفر
- الموتى؟
- نعم
- حارس مقبرة؟
- لا ..
- أعنى الموتى وليس القبور
- هل انت مجنون؟
- لا يا سيدي
- أظن أن عليك أن تعترف بالسوط أيها الكلب بأنك جاسوس .
ضربوه طويلاً وعذبوه قبل أن يتهموه بالجنون ويحكم عليه الضابط بعقوبة "التجريس".
علقوا رأسين من القرنبيط على صدره، كتبوا على جبينه بالفحم "حرامي" وقادوه أثناء صلاة الجمعة في الأقصى، وراح المنادي ينادي ويقرع الجرس ويصيح أن المذكور حرامي يتسلل ليسرق الملفوف.
المذكور هو الجد ياسين ياسين والذي فقد بيته عام 1948 الكائن في المنطقة المحاذية لحي الثوري في القدس والمطلة على وادي ياصور بعد هزيمة ستة جيوش عربية، فظل يعاني من الأرق ولا يعرف النوم رغم كل الوصفات الطبية، حتى تسلل زحفاً ذات ليلة عبر خطوط التماس، وصل الى البيت، بكى، تفقده غرفة غرفة، ثم طاب له النوم فنام. وحين عاد تم إلقاء القبض عليه، وظنوه متسللاً يتخطى حدود الهدنة لكي يسرق اليهود.
صار الجد يجلس على كرسيه في الحوش المقابل لأرضه صامتاً واجماً لا ينام، يحدق في السفح المقابل، يبكي، وظل يرفض تناول الطعام، حتى سقطت عكازه من يده، ومات.
في تلك الليلة المشؤومة ولد مؤمن (م.م.)، حفيد ياسين ياسين والذي ظل أبوه يعتبره ولداً مشؤوماً، لكن الأب يتحول إلى بطل شعبي من أبطال القدس يدعى روبن هود، حيث كان يتسلل إلى أرض فلسطين المحتلة، ويقوم بما ينبغي القيام به تجاه احتلال بلاده. حتى صار بطلاً شعبيا دون علم ابنه حتى، الذي لم يعرف ان أباه هو روبن هود إلا بعد مقتله.
م. م. الحفيد هو إحدى شخصيات رواية "كوانتوم" فهو الذي يقول عنه الروائي أحمد أبو سليم: أحمل مأساتي وحيداً، ولا أعرف إن كان علي ان أفرح لأن أبي هو روبن هود الذي كانت تتغنى البلاد ببطولته، أم أحزن لأنه مات.
وتبدأ مأساة م. م. منذ مقتل والده، لقد اقتادوه معصوب العينين، إلى المعتقل، كان الجلاد أكثر خوفاً من الضحية، ولكن بعد أن تمت تعريته من ملابسه، وبعد حفلات التعذيب، يتم اغتصابه بطريقة وحشية.
ثلاثة أجيال تدفع ثمن الهزيمة والنكبة والاحتلال، وهذه واحدة من شخصيات "كوانتوم"، المحطمة والمشوهة، صحيح أنه يأخذ ثأره بيده ويطلق النار على من اغتصبه فيما بعد، لكن الألم الذي يلازمه حتى بعد خروجه من البلاد يظل كبيراً كبيراً.
ثمة كوانتوم بشري نتوارثه جيلاً بعد جيل، كوانتوم الانبياء الذين نغلفهم بغلالة من المعجزات كوانتوم ابراهيم حين القي في النار وكوانتوم المسيح حين صلب وكوانتوم محمد حين أسري به وعرج الى السماء، نحن أحد احتمالات المدينة المرعبة وهم يعرفون ذلك حتى قبل بدء الاحتلال، فراحوا يمسحون الذاكرة.
في البلدة القديمة خلف السور بشر يحملون المدينة على أكتافهم، أجسادهم خضراء من أثر الطحالب، هذا ما يقوله م. م. خلال زيارته إلى القدس بعد معاهدات السلام ولقائه بأمه التي صارت عجوزاً وبأهله، عذاب المنفى يتواصل، ويعود مجدداً إلى المنفى، على أمل قبول طلب لم الشم الذي لن يتم بسهولة.
ثلاثة أجيال تدفع الثمن، ثمن النكبة والاحتلال والمنفى، أي عذاب هذا الذي يتناسل في هذه السلالة، وأي لعنة حطت على هذا الشعب الذي لا زال يدفع ثمن خيانة الأرض والتاريخ والأديان له.
ليست هذه هي الرواية فقط، هذا جزء يسير ويسير جداً من هذا الكم السردي الهائل الذي أبدعه أحمد أبو سليم في هذه الرواية وهي الثالثة في سلسلة أعماله الروائية، مستفيداً من معرفته الكاملة بتاريخ بلده، ودقته في فرز الأحداث، ونظرته الثاقبة في جمع كل خيط اللعبة بيده.
كل شخصية في العمل محفورة بطريقة فنية مذهلة، لنأخذ مثلاً الأستاذ حكمت الغربال أستاذ الفيزياء الذي فصل من عمله بعد خمسة عشر عاماً من التدريس، فالتحق بحركة القوميين العرب وصار يعمل في الجناح العسكري للحركة، مؤمنا بضرورة تحرير فلسطين والأستاذ حكمت لم تكن نكبته فقط في احتلال فلسطين ولكن في النزاع مع شقيقه الطماع، وفي ابنته هند التي كانت فتاة غير طبيعية فهي تمتلك قدرات خارقة في تعرية الناس وكشفهم، ورؤية المستقبل، وكانت أول من بشر بالهزيمة، قبل وقوعها.
بعد احتلال القدس تختفي هند، وتسري شائعات تقول إن هنداً كانت سبب شهرة روبن هود، فقد كانت تقود خطواته وتكشف له ولرفاقه الطرق والمواقع وأماكن الالغام وتجمع الجنود.
ثمانية أعوام بعد الحرب والاستاذ حكمت يبحث عن الحقيقة، عن ضياع هند، حتى تعاد شبه جثة هامدة، مسلوبة الإرادة، فمن وشى بهند لليهود حتى اختطفوها وتم اخضاعها لأبشع التجارب الإشعاعية.
كانت مراسلات حكمت مع صديقه العالم الجزائري بوظريف الذي درس معه في مصر، وكان عضواً في حركة القوميين العرب والذي أكمل تعليمه في السوربون قد كشفت لحكمت الكثير.
كان الأستاذ حكمت يطرح أسئلة حول الدين والحياة ولديه أبحاث في الفيزياء والعلوم وعن طريق صديقة بوظريف تنبه الى الكوانتوم وصار يقرأ ويقرأ، حتى وجد نفسه وجها لوجه أمام الكوانتوم، وكشف له صديقه بوظريف عن مبنى m الاسرائيلي الواقع في الجامعة العبرية في القدس، والذي كانت تجري فيه التجارب على الكوانتوم، والذي تعرضت فيه هند لأبشع انواع الاضطهاد والعبث.
فهل ثمة علاقة كوانتوم بين البشر؟ هل يكون ذلك الشيء شائعاً دون أن نراه؟ هل هو مزاوجة نعيشها دون أن نشعر بها؟ هل الكوانتوم أصل النقص في الانسان؟ هل هو النظير؟
التوازن هو الفوضى لا السكون، الكوانتوم هو الشرط الحقيقي للحياة ليس ثمة طاقة لانهائية للاشعاع.
لكل شخصية في هذا العمل الملحمي روايتها وحضورها وعذاباتها، حتى بنيامين كوهين اليهودي، الذي يأتي الى القدس باحثاً عن كنز ثمين مدفون فيها، والذي يقوم بعدة جرائم وينتهي به المطاف في السجن، وحارس العوري الذي توقع به امرأة يهودية وتنقل له عدوى الايدز لخدمة اسرائيل، ويعقوب جابي المسيحي العربي شريك روبن هود والذي قضى عدة سنوات في السجن، ورفض مقايضة حريته بالخروج من السجن.
يقول ميلان كونديرا: (الرواية هي التي تظهر الأشياء أكثر تعقيداً، مما نظن)، وبلا أدني مجاملة فقد كشف لنا أحمد أبو سليم أن الأشياء أكثر تعقيداً مما نظن ونعرف حتى، فرغم معرفتي ومتابعتي للوضع الفلسطيني، ومعايشتني وتجربتي الشخصية، وقراءتي للعديد من الروايات العربية والفلسطينة التي تناولت القضية الفلسطينية، فقد كشف لي أحمد أبو سليم على الأقل الكثير من القضايا والحقائق والأسئلة المعلقة على الصليب الفلسطيني.
ولم أكن أتخيل أن هناك روائياً فلسطينيا يعيش خارج فلسطين، يستطيع أن ينحت هذه الشخصيات الروائية التي رأيتها من لحم ودم وليس من حروف وكلمات، وفي ظني أنه منح القدس ما لم يمنحه روائي فلسطيني من قبل.
نعم أفاد أحمد أبو سليم من الهندسة وقدم لنا رواية مكان بامتياز، رواية مكان تكاد تشم رائحة حواريه وشوارعه، وطرح تاريخ المدينة وحفر عميقاً في شخصياتها وأناسها وبشرها، ورآى الكثير مما لا يراه العابرون. كنت وانا أقرأ أرى المدينة أمامي، أتلمس صخورها وأرواح سكانها وعشاقها.
أما اللغة التي كتب بها فهي لغة رصينة، لغة قادمة من الشعر، لغة واقعية قادرة على الوصف والتعبير، صادمة مترعة بالألم، لكنها مفتوحة على التأويل والرؤى المتعددة، فصنع عالماً روائياً مليئاً بالتاريخ والفلسفة والفيزياء والرياضيات والباراسيكولوجيا والميثالوجيا والسحر ، دون أن يسقط في فخ التلقين والسرد العلمي والنظري الممل.
والحق يقال أن ما قدمه أبو سليم في هذه الرواية منبع جم وثر لعدة روايات كان يمكن أن يسردها عن شخصياته المتقنة، لكنه آثر أن تكون شخصياته خصبة غنية بتاريخ الألم والمأساة، ولكن هناك وراء السطور ما يشي بالأمل، فمن يعرف تاريخ بلاده بهذا الشكل، ومن يقرأ عمق الصراع بهذا الشكل، ويعرف مكامن الخلل، وأسباب الهزيمة، قادر على أن يصنع نصره يوماً ما.
عمان 28-7-2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى