هل الفقر والغِنى قَدَرٌ محتوم؟

كثيرا ما نسمع في الأحاديث المتداولة بين الناس أن الفقرَ والغنى قدرٌ محتوم. بمعنى أنه إذا كان هناك، من بين الناس، فقراء وأغنياء، فلأن اللهَ، سبحانه وتعالى، هو الذي أراد أن يكونوا فقراء وأغنياء.

والآن، دعونا نُفكِّر بالعقل والمنطق بطرحِ السؤال التالي : "هل يُعقَلُ أن اللهَ، سبحانه وتعالى، عندما نقرأ قرآنَه الكريم، من أول سورة منه إلى آخِرِ سورة، بتمعُّنٍ وتبصُّرٍ وتدبُّرٍ، نلاحظ أنه، عزَّ وجلَّ، يريد الخيرَ لعباده أجمعين، في الدنيا قبل الآخِرة.

فكيف لِله الذي خلق بني آدم وكرِّمهم وفضلهم على كثيرٍ من مخلوقاته، بما فيهم الملائكة، وأراد أن يُسعِدهم في الدنيا قبل الآخرة، أن يظلمَ البعضَ من عباده ويكتب لهم الفقرَ بينما عبادٌ آخرون أراد لهم الغنى؟

أولا، الله، الذي من بين أسمائه الحسنى الرحمان، الرحيم، اللطيف، الغفار، الغفور، الوهاب، الرَّزَّاق، الفتَّاح…، لا يظلم أحداً من عبادِه، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ" (آل عمران، 108). بل إنه، سبحانه وتعالى، في كثيرٍ من آياته، يبين لعباده أنه، عزَّ وجلَّ، رؤوفٌ بهم (يعطِف عليهم)، مصداقا لقولِه : "... أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا ... لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (البقرة، 143).

بل الناسُ، بعد أن بيَّن لهم، سبحانه وتعالى، طريقَ الهُدى، هم مَن يظلمون أنفسَهم، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس، 44)، أي أن الناسَ بخروجهم عن طريف الهُدى، هم مَن يظلمون أنفسَهم.

ثم الله، سبحانه وتعالى، تكفَّلَ ليس فقط بأرزأق العباد، بل تكفَّل بأرزاق جميع المخلوقات الحيَّة، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (هود، 6). والدابة هي كل كائن حيٍّ يدبُّ (يمشي، يسير، يتنقَّل يزحف، يركض) على سطح الأرض، بما في ذلك الإنسان.

وما يجب توضيحُه في هذه الآية هو أن الرزق، بالنسبة للكائنات الحية الحيوانية، هو الأكل والشرب. أما بالنسبة للناس، الرزق لا يمكن حصره، فقط، في المال كما يعتقد كثيرٌ من الناس. صحيحٌ أن المالَ رزقٌ، لكن ما يجب أن يُدركَه الناسُ، هو أن كلَّ ما يهَبُه الله، سبحانه وتعالى، لعباده رزق. الجمال رزقٌ، وفرة العلم رزق، الحِكمة رزق والموهبة، بشتى أنواعها، رزق والمنصِب رزق… بل الصفات الإنسانية الحميدة التي يتوفَّر عليها الناسُ رزق.

ثانيا، صحيح أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خلق الفقرَ والغنى، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ…" (النحل، 71). لكنه، جلَّ جلالُه، خلق الزكاة وجعلها وسيلةً من وسائل التَّضامن والتَّكافل بين الناس. ولهذا، قال، سبحانه وتعالى، في العديد من آيات القرآن الكريم، أنفقوا مما رزقكم الله، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (البقرة، 3).

لكنه، عزَّ وجل، لم يجعل الرزقَ ثابتاً ومحدودا إلى الأبد. بل وهب الله، سبحانه وتعالى، عقولا للناس ليستعينوا بها ويُشغِّلونها لتوسيع أرزاقهم بالعمل والجِدِّ والاجتهاد. وذلك، سواءً كانت هذه الأرزاق مالاً أو موهبةً أو صفة من الصفات الحميدة…، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (النساء، 32).

في هذه الآية الكريمة، يقول، سبحانه وتعالى "وَلَا تَتَمَنَّوْا"، أي لا تحسدوا الناسَ فيما أتاهم الله، جلت قدرتُه، من فضله. وبعيارةٍ أخرى، ارضَوا بما فضل اللهُ بعضكم على بعض. لكنه، سبحانه وتعالى، يوصي بالعمل والاجتهاد في هذا العمل. لماذا؟

لأنه، حسب هذه الآية الكريمة، العملُ والكَدُّ والاجتهادُ والمثابرةُ في هذا العمل، هم مَن يضمن الزيادةَ في الرزق. بمعنى أنه كلما اجتهد الناسُ في أعمالهم وأخلصوا فيها، كلما اتَّسعت أرزاقُهم. وهذا هو ما نلاحظه في الحياة العامة للناس. أي أن الناسَ يُجْزَوْنَ حسب مردوديتهم في العمل، سواءً كان هذا العملُ وظيفةً عموميةً أو وظيفةً خاصةً أو تجارةً أو فلاحةً أو إنتاجا صناعبا، علميا، تكنولوجياً… ولقد صدق مَن قال : "مَن جدَّ وجد ومَن زرع حصد".

ما أختم به هذه المقالة هو أن الفقرَ والغنى ليسا، على الإطلاق، قدرا محتوما، كما يعتقد كثيرٌ من الناس. لماذا؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، فعلاً، خلق الفقرَ والغنى، لكنه ربط الزيادةَ في الرزق بالاجتهاد والإخلاص في العمل.. والدليل على ذلك، كثيرون هم الناس الذين كانوا فقراء وأصبحوا أغنياء، وكم هم كثيرون الناس الذين كانوا أغنياء وأصبحوا فقراء.

وما لا يجب إغفالُه، في هذا الصدد، هو أن كثيرا من الأغنياء، غالبا ما يُصَاحَبُ غِنَاهم بالعَجرَفَة والتَّغطرس والكبرياء… وما دامت طبيعة الإنسان تتأرجح بين الميول إلى الخير والميول إلى الشر، فالله، سبحانه وتعالى، خلق الفقرَ وخلق الغِنى وخلق معهما الزكاةَ ليكون هناك توازنٌ بين الفقر والغنى، وكي لا يصبحَ كل الناس مُتعَجرفين ومُتغطرسين ومتكبِّرين، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" (الشورى، 27).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى