أ. د. حسام عقل - تدريس رواية (سيسامنيس) للأديب المصري أحمد عبدالله إسماعيل في كلية التربية جامعة عين شمس اعتباراً من العام الدراسي المقبل

وقف الأديب أحمد عبدالله إسماعيل أمام لوحة سيسامنيس، وربما تصفحها مصادفة، لكن تلك اللوحة العجيبة استدعت حدثًا مهما من عهد قمبيز الثاني والحضارة الفارسية؛ لأن هذا ما يفسر لنا سبب كتابته لهذه الرواية، فاللوحة التي رسمها الفنان الهولندي جيرار ديفيد، وعلّقت لسنوات طويلة في محاكم أوروبا، تُظهر قاضيا تلقى رشوة فعوقب بسلخ جلده حيّا، وتلخص تلك اللوحة الفكرة التي بُني عليها النص !

تقنيات السرد الروائي في سيسامنيس
تطور السرد الذي يقدمه الدكتور أحمد عبدالله إسماعيل كثيرًا، ووطد الكاتب رحلته في مجال السرد حتى وصل إلى هذه المحطة المميزة في تقديري، أشهد أنني استمتعت بقراءة هذه الرواية، ولكن أجدر أشكال الحفاوة بأي نص أن نضعه على طاولة النقاش والنقد.
وصل الأديب إلى مرحلة جديدة من تقدم وتطور حياته الأدبية، فقد ظهر هذا التطور بوضوح عند مطالعة هذا العمل الروائي الماراثوني المكتنز الدسم الجريء الذي يقع فيما يقارب ثلاثمائة صفحة " رواية سيسامنيس" .
والحقيقة أن الأديب ضفّر هذا العمل بمجموعة من التواريخ والأساطير والفلكلور الشعبي؛ حيث يبرز الحضور الواضح للمثل الشعبي والفكر التاريخيّ.

الحوار وقاموس الكاتب اللغوي
استند الأديب في سرد هذا العمل على تقنية الحوار ووظف هذه التقنية بذكاء شديد ونجاح غير مسبوق، وإن كان الأديب الكبير توفيق الحكيم هو أبرز من استخدموا هذه التقنية في الماضي فإن هذه الرواية سيسامنيس تستند ببراعة إلى هذه التقنية التي أجاد الكاتب توظيفها؛ فالأداء اللغوي للكاتب يتجاوز حدود النص العادي، نجده يتسم بالفحولة في استخدام المفردة بكفاءة عالية، ويتحلى بالنضج في تقديم لغة عصرية ساعدته على تحقيق الهدف المنشود من خلال تنويع أساليبه التي شهدت توظيف عدداً كبيرا من التقنيات مثل التمهيد والكوابيس والحوار والمونولوج والنبوءة وغيرها من التقنيات التي جعلت العمل عملاً حقيقياً مميزًا وممتعًا، وإن كان أهم ما يميز هذا الأديب عن غيره هو امتلاكه لقاموسه الأدبي الخاص فلا نجده يقلد أحدًا من الكتاب القدامى ولم يصب بمرض نجيب محفوظ، فكلما نقرأ عملا لكاتب أو روائي نجده يتأثر بقاموس نجيب محفوظ أو غيره حتى الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة سار في فلك نجيب محفوظ عندما كتب عنوان مسلسله "الشهد والدموع" والتقطها من قاموس نجيب محفوظ من مقدمة رواية ميرامار "الإسكندرية قطر الندي، نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع"، وهذا ما لم يحدث مع أحمد عبدالله إسماعيل؛ إذ امتلك قاموسه الروائي الخاص به ببراعة وتمكّن دون الاستناد إلى قاموس أي روائي آخر.
قدم الكاتب العديد من الجمل المفتاح التي يمكن أن تساعد القارئ على معرفة مسارات الأحداث؛ فمن الجملة الأولى التي استهلّ بها الرواية نجده يقول :
"يدور ماجد بعينيه في كل اتجاه " فبعد كل ما وصل إليه من ثراء ونفوذ ما زال يدور بعينيه في كل اتجاه ينشد شيئا ويبحث في كل اتجاه عنه!

رسم شخصيات رواية سيسامنيس
يُحمد للكاتب نضجه الفني والأدبي ويظهر اختماره في رسم شخوص الرواية؛ حيث طلّق طريقته القديمة في حصر الشخصيات بين صنفين إما الخير المطلق وإما الشر المطلق. نجد أن الكاتب هنا يرسم الشخوص بعناية فائقة تاركًا تغيرات النفس البشرية ونوازعها تأخذ شخوصه بين أقدامها.
شخصية ماجد زاهر أبو المجد تمثل باشَوات العصر الحديث وإن كان زمن الـباشَوات قد ولّى، فإن هذا العمل يرسم لنا صورة السوبر باشَوات؛ لأن هناك على مسرح الحياة من يمكنه إلحاق الأذى بغيره بمكالمة تليفون، من يتحكم في مصائر البشر، من يمنح ويمنع، من يصل به فكره إلى أن يظن أنه رب يحيي ويميت ويضر وينفع ويرفع ويضع؛ ومن أكثر الشخصيات التي نجح الأديب في رسمها هي شخصية ماجد زاهر أبو المجد الذي وصل إلى تلك الحالة التي يقول فيها: لا راد لأوامري ومن يخطئ منكم سوف أنزل به عذابي ويحل عليه غضبي ولا تلوموني بل لوموا أنفسكم، وكأنه إله!
شخصية مصطفى شحاتة الدايخ التي أبدع في رسمها الأديب أحمد عبدالله إسماعيل تجبرنا على وضع الرواية على طاولة مدرسة البنيوية عند لوسيان جولدمان؛ لأن مصطفى يمثل كل المهمشين في العالم، وبرز ذلك بوضوح عندما باع صاحب عمره من أجل المال، وكانت أروع لقطات الرواية حين استنطق الأديب قرين الشخصية وجعل شيطانه يتحدث إليه بل يدلل مصطفى باسم "درش" ليبتعد تماما عن صورة الشيطان النمطية التقليدية التي رسمتها السينما العربية قديما، وظهر ذلك بوضوح عندما نطق الشيطان بوساوسه وقال لقرينه مصطفى:
"ما هذا الهراء ؟! جاءت فرصتك "يا درش" لتشعر بأنك تعيش في بلدك، ألا تتوق نفسك إلى الاستمتاع بالمناظر الطبيعية الرائعة، وتملُّك وحدة سكنية مصممة على أعلى مستوى، في أرقى الأماكن، مثل هؤلاء الأثرياء، بأغلى الأثمان؟! ألا تحلم بحضور حفلة غنائية ساهرة من حفلات الصيف التي تصل قيمة تذكرتها إلى مائة ألف أو ربما أكثر؟!"
شخصية مصطفى تمثل كل مظلوم من الأوضاع الاجتماعية في كل بقعة من العالم، تمثلني وتمثل قطاعًا كبيرًا من الناس في كل مكان، ويظهر ذلك في النص حين يقول :
"لا أحد يشعر بمعاناتي أو يحس بوجودي، لا أحد يدرك أني على سطح هذا الكوكب؛ أنا شبح بلا روح، نعم، شبح يظهر بلا ملامح، يبدو من بعيد شخْصه غير واضح"
تأخرت بعض الشخصيات في الظهور على المسرح الروائي لكن الكاتب وبمجرد ظهور شخصياته استطاع أن يصعّد وتيرة الصراع الدرامي المحتشد بشكل محبوك ومتقن من اللحظة الأولى بطريقة مغايرة تماما للطريقة الميلودرامية التي اعتمدتها السينما المصرية القديمة التي كانت تجعل المشاهد يخمن النهايات؛ فلا يمكن أن تخمن نهاية أي شخصية في رواية سيسامنيس؛ إذ أعطى الأديب للقارىء مساحات واسعة من الإدهاش تجعلك للحظة الأخيرة لا تعلم مصير الشخصية ولا ما ستئول إليه نهايتها.
استفاد الكاتب من شخصيات الرواية بشكل براجماتي مقبول وعلى أعلى مستوى خصوصا الشخصيات التي تناولتها الأحداث الأساسية في العمل.

الغرائبية في رواية سيسامنيس
أعطى مشهد العرافة بعدًا غرائبيًا للنص؛ وتظهر أهمية المشهد في أن أول امرأة ظهرت على المسرح الروائي كانت ضاربة الودع ولم يبدأ بزوجته ولا ابنته ولا حتى أمه!
والمثقف المصري بل العربي يبدو في سمت المتنور لكنه في داخله مساحة على استعداد تام للاستجابة للنبوءات والسحر والشعوذة بل تصدقها وتسير حياتها على أساسها !

الأم في سيسامنيس
تلعب الأم عند أحمد عبدالله إسماعيل دورًا مركزيا؛ فكلما تأزمت الشخوص وضاق بهم الحال يعودون إلى الأم؛ فنرى أن السائق جابر عاد إلى أمه طالبًا المشورة حين غلبه الهم والغم بعدما طلب منه ماجد أن يقتل مرة ثانية، وحتى ماجد نفسه عاد إلى أمه حين شعر ببعض الضيق من تهديدات زينة، كأن رسالة الأديب التي أراد إيصالها إلى القارئ تكمن في أن التطهر من الأخطاء والأوحال يبدأ من عتبة الأم وحضنها، إذا أردت أن تتطهر عليك بالعودة إلى أمك، وربما يقصد بالأم هنا الأم الكبرى مصر؛ وهكذا نجد أن الأم ذات دور مركزي في الأخذ بنواصي الشخوص نحو التطهر.

الإعلام في رواية سيسامنيس
يرى الأديب أحمد عبدالله إسماعيل أن الإعلام بنوعيه الورقي والإلكتروني يلعب دورا هائلا في تشكيل الولاءات والقناعات والأنساق والأنماط والتيارات.
فإذا أردت أن تطهر المجتمع من الفساد فلابد أن تبدأ من الإعلام، نعم، يبدأ الإصلاح بعتبة الميديا والإعلام.
وفي متن الرواية نجد أن ماجدًا يقول :
"كأنك تخاطب الناس الذين تضحك عليهم بكلامك في البرنامج"
كلام ماجد لصهره الإعلامي الكبير يكشف الشيزوفرينيا التي يعاني منها بعض الإعلاميين؛ فمن الممكن أن تجد الإعلامي داعية كما حدث معي يُقسم إنه لا يتقاضى أجرًا نظير ظهوره في برنامج تليفزيوني وأنت تعلم أنه يتقاضى أجراً كبيرا وعند مواجهته يجيب : لقد أقسمت إني لا أتقاضى جنيهًا واحدًا لأنني أتقاضى مقابلا بالدولار!
فالكاتب يقول إن الإعلامي عندما يسرّب قيمة لجمهوره من المشاهدين وهو يفتقر إلى هذه القيمة فإن تلك الشيزوفرينيا تشق صف الشعوب.

الرمزية في رواية سيسامنيس
كلمة قصر تنتمي إلى أفق ماضوي، لكن الجيل الجديد الذي يعيش في المجمعات السكنية والمنتجعات لا يعرف هذه المفردة.
كرر الراوي كلمة قصر ثم أوضح تفاصيله وعدد غرفه وتكوينه الماموثيّ العملاق المرعب، فلماذا تم استدعاء مفردة القصر وهل تعمّد الأديب استخدامها؟
لأن استدعاء رمزية تاريخية معينة توقع في النفس ما لا يوقعه غيرها من الأنساق والإشارات، فمثلا لقب باشا الذي كان يشترى من القصر الملكي يوقع في نفس العامل أو السباك أو السائق ما لا يوقعه غيره عندما تقال تلك المفردة هذه الأيام.
تعمّد الأديب أحمد عبدالله إسماعيل استخدام كلمة القصر لما تحمله من إيحاءات وحمولات تاريخية؛ إذ توحي للقارئ بعظمة الأباطرة وبطشهم وقدرتهم على التلاعب بالمصائر.

نجح الكاتب بصورة كبيرة في تصوير تأثير الإنترنت الكارثي على حياتنا بإدخال الصفحة التي أنشئت ليركز بها على المعنى الفضائحي مما يذكرنا بمرحلة الأسطوانات التي مرت بها مصر، مرحلة يخشى فيها كل الناس من أن تظهر له أسطوانة تهدد سمعته ؛ فالصفحة تعني سيرتك كإنسان يحترمه الجميع أو على الأقل يسير في دروب الحياة يحيط به الستر، فعندما أغلقت الصفحة في نهاية الرواية رمز الكاتب بذلك إلى التوبة والأوبة والرجوع إلى الله.

الإطار الزمني في رواية سيسامنيس
يُحمد للكاتب تحديد التاريخ في منتصف أغسطس من عام ألفين وسبعة عشر على طريقة اليوميات؛ إذ يدل ذلك على إيمانه الشديد بما يفعل، ويدلنا على جسارته وجرأته في قيامه بدوره كمثقف عضوي لا يصمت على ما يعاني منه المجتمع من حالة فصام اجتماعي، بل يواجه ما يعاني منه المجتمع من عوار بجرأة وهو يحدّق في عين المخطئ.

الأغنية في رواية سيسامنيس
وظف الكاتب الأغنية في غير موضع من هذه الرواية، تصريحًا تارة وتلميحًا تارة أخرى؛ فنجده يذكر أغنية لمحمد عبد الوهاب وأخرى لأم كلثوم صراحة ويُلمح إلى أغنية لمحرم فؤاد بينما كانت أم عمرو تداعب ولدها بقولها : أجمل صباح عندي صباحك الوردي صباحك الفتان دون أن يصرح للقارئ بأنها كلمات من أغنية قديمة دفعته النوستالجيا إلى استدعائها.

مشاكسة نقدية
أعيب على الكاتب الفرحة الزائدة في نهاية النص؛ لأن التبشير بالنصر لا يقضي على كل مشكلاتنا، بل لا تزال أمامنا كثير من المشكلات الصعبة التي نواجهها في الوقت الراهن وإن كنت لا أخفي مدى سعادتي وإحساسي بالقناعة والرضا عندما قرأت نهاية العمل.

تمثيل رواية سيسامنيس في السينما
هذا العمل بما فيه من نضج لغوي وفني، وحبكة درامية متصاعدة، ورسم غير مسبوق للشخوص التي ظهرت على المسرح الروائي تجعلني أوجه أنظار صناع السينما والدراما نحو تمثيله؛ حيث إن هذا العمل يمثل شهادة في حق فترة من حياة وطننا، ولا يعوز هذا العمل الجرأة أو قوة التناول بل هو عمل مكتمل الأركان رُسمت شخصياته بحرفية متناهية، وعكس الواقع بصدق شديد، وتناول الكثير من اللقطات التي توثق لمرحلة مهمة من تاريخ وطننا في هذا الوقت المهم في حياتنا وحياة أمتنا العربية؛ لأننا بحاجة إلى من يمارس دوره العضوي بجسارة وجرأة؛ ليضع يده على مواطن العوار التي يبتعد كثير من الأدباء والمفكرين عنها ويؤثرون سلامتهم وراحة بالهم.

كنز سردي عن حياة السوبر باشوات
وفي ختام رؤيتي النقدية، أرى أن الأديب أحمد عبدالله إسماعيل احتجب عن المشهد الثقافي لسنوات متتالية، واحتشد بقراءات في مجالات عدة، أدبية ونفسية وقانونية واجتماعية وسياسية؛ ليخرج لنا هذا الكنز السردي، والذي أتوقع أن يعتلي به صدارة المشهد الثقافي العربي، وقد قررت تدريس هذا العمل لطلابي في الجامعة اعتبارا من العام الدراسي المقبل بمشيئة الله؛ لما فيه من فائدة قد يحققونها بدراسة مثل هذا العمل المليء بالإبداع وخصوصا أنه نجح في تناول هذا الموضوع الذي نأى عن مناقشته كثير من الكتاب الكبار؛ وأتاح لنا فرصة الاطلاع على حياة السوبر باشوات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى