هناك فصل في المسيحية بين الدين والدولة، فهل في الإسلام هذا الفصل؟، يجرنا هذا التساؤل الكبير للحديث عن الدولة العلمانية، ولعل المقولة الشهيرة المنسوبة ليسوع ستدخل في التأسيس: “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّهِ لِلّهِ”، حديثنا في هذه السطور عن مجاهد فلسطيني صَرَفَ وقته وجهده وكل حياته للحفاظ على الأراضي الفلسطينية، فقد مزج بين الأحمر والأخضر بين الجهاد والفقه لهذا لقب “سيف الدين”، ألا وهو سماحة مفتي الديار الفلسطينية الحاج محمد أمين الحسيني المفتي العام للقدس (1895 – 4 يوليو 1974).
الولادة والبدايات:-
كانت ولادته في مدينة القدس، ولا شك أنّ لمسقط الرأس أثر في تشكيل المستقبل، على الرغم من العدد الكبير الذي تضمه أسرة الشيخ من أفراد -بلغت ثلاثة عشر- إلا أنّ أسرته كانت ميسورة الحال معظمهم عمل في مناصب سياسية وإدارية، فالشيخ كامل الحسيني -مثلًا- شقيق الشيخ محمد أمين كان هو مفتى القدس، تلقى محمد أمين العلوم الأساسية منذ البواكير، كعلوم القرآن واللغة والفقه، وقد حظى سماحته ببيئة متميزة شكلته لتسنم المناصب الرفيعة، فقد درس في جامعة الأزهر ولتحقق بكلية الآداب في جامعة مصر، بالإضافة للعديد من المؤسسات التعليمية كمدرسة “دار الدعوة والإرشاد” التي دشنها محمد رشيد رضا، وقد دفعه والده لتعلم الفرنسية لمدة عامين في “مدرسة الفرير”.
محطات من حياته:-
لم يستكمل سماحة الشيخ دراسته التعليمية حيث انتقل إلى الكلية العسكرية بمدينة إسطنبول التركية ليتخرج برتبة “ضابط صف” في الجيش العثماني، هذه المهنة لم يدم بها طويلًا فبعد 90 يومًا اعتلّت صحته فاعاد أدراجه لمدينة القدس مسقط رأسه، وفي عام 1913 ذهب مع والدته لتأدية مناسك الحج، ومن هذه الحجة حصل على لقبه الذائع الصيت “الحاج محمد أمين”، وكان في السنة السادسة عشر من عمره حين ذاك.
بعد عامين من حجة الإسلام تلك أسس سماحته أول منظمة سياسية في فلسطين تحت مسمى “النادي العربي”، الذي تبوء رآسته في عام 1915، وتكمن أهمية هذا النادي أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت منه، وبعد أشهر التحق بمهنة التدريس في “مدرسة روضة المعارف الوطنية”، وفي عام 1917 أي بعد أربع سنوات من حجته المباركة تمت السيطرة على مدينته القدس من قبل القوات البريطانية، فكان هو أحد أبرز المناضلين والملتحقين بقوات الثورة العربية، حيث كانت له مساهمات معروفة في تجنيد المتطوعين. وبعد أربع سنوات تلقى فاجعة أليمة برحيل شقيقه سماحة المفتي كمال الحسيني عام 1921 وكان هو الخلف لخير سلف، وفي عام 1922 رأس مجلس الشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية.
النضال والقضية الفلسطينية:-
كان سماحته رمزًا للثوّار ضد الاحتلال، حيث شارك عام 1941م في ثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق. بعدها أنشأ مكاتب متعددة لنصرة القضية الفلسطينية في عدة دول عالمية، ثم ترأس الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946م و بعد عامين ترأس المؤتمر الوطني الفلسطيني في عام 1948.
تم اعتقال الشيخ في عدة مرات وقد طاردته السلطات الأمريكية والبريطانية ورفضت فرنسا تسليم الشيخ وقبل إبرام صفقة تسليمه مقابل إعمار فرنسا بأموال أمريكية استطاع الشيخ الفرار من القبضة الفرنسية 1947م ليستقر في القاهرة، ظلّ متخفيًا حتى حصل على حماية دولية ثم بدأ جهاده في تنظيم المجاهدين والثوّار وأعلنت الحرب بعد إعلان الأمم المتحدة دولة إسرائيل وتقسيم الأراضي الفلسطينية، توالت الخيانات والمؤامرات بعد ذلك وانهزمت الجيوش العربية، مع ذلك أصرّ سماحته على إعلان استقلالية فلسطين.
ولم يقتصر على الحراك النضالي بل استمر في ذات الوقت على المناشط السياسية على مستوى العالم العربي والإسلامي لدعم الجهاد المسلح ضد المحتلين. وفي عام 1955م مثل سماحته فلسطين في تأسيس حركة عدم الإنحياز، وبعد ست سنوات انتقل سماحة المفتي إلى بيروت 1961م، ليستمر نضاله حتى تَمّ
القرار بإنشاء كيان فلسطيني عام من قبل جامعة الدول العربية 1963م، الذي أفرز عنه ولادة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964م، استمر جهاد الشيخ حتى بعد نكسة عام 1967م، مؤكدًا أنّه لا حلّ للقضية الفلسطينية إلا بالسلاح. وفي عام 1974م فاضت روحه الطاهرة ودفن في بيروت بعد حياة مليئة بالنضال.
________
المصدر: موقع التنويري
تقاطع الدين والسياسة؛ مفتي القدس نموذجًا
________
مجلة التنويري: مجلة فكرية إلكترونية وورقية، تقدم منظوراً وقاعدة فكرية حول التنوير الديني والتجديد الديني والقراءة التنويريَّة للدين في المنطقة، وتحاول تقديم مساهمة في إطار الجدالات الراهنة حول دور الدين في الحياة العامة، مع التركيز على الأطر التربوية والتعليمية. من الجدير بالذكر أن مجلة التنويري تصدر عن الرابطة العربية للتربويين التنويريين منذ 2017م في عمّان – الأردن، وهي امتداد لمجلة الراصد التنويري التي كانت تصدر منذ عام 1994م عن المنبر الدولي للحوار الإسلامي في لندن.
الولادة والبدايات:-
كانت ولادته في مدينة القدس، ولا شك أنّ لمسقط الرأس أثر في تشكيل المستقبل، على الرغم من العدد الكبير الذي تضمه أسرة الشيخ من أفراد -بلغت ثلاثة عشر- إلا أنّ أسرته كانت ميسورة الحال معظمهم عمل في مناصب سياسية وإدارية، فالشيخ كامل الحسيني -مثلًا- شقيق الشيخ محمد أمين كان هو مفتى القدس، تلقى محمد أمين العلوم الأساسية منذ البواكير، كعلوم القرآن واللغة والفقه، وقد حظى سماحته ببيئة متميزة شكلته لتسنم المناصب الرفيعة، فقد درس في جامعة الأزهر ولتحقق بكلية الآداب في جامعة مصر، بالإضافة للعديد من المؤسسات التعليمية كمدرسة “دار الدعوة والإرشاد” التي دشنها محمد رشيد رضا، وقد دفعه والده لتعلم الفرنسية لمدة عامين في “مدرسة الفرير”.
محطات من حياته:-
لم يستكمل سماحة الشيخ دراسته التعليمية حيث انتقل إلى الكلية العسكرية بمدينة إسطنبول التركية ليتخرج برتبة “ضابط صف” في الجيش العثماني، هذه المهنة لم يدم بها طويلًا فبعد 90 يومًا اعتلّت صحته فاعاد أدراجه لمدينة القدس مسقط رأسه، وفي عام 1913 ذهب مع والدته لتأدية مناسك الحج، ومن هذه الحجة حصل على لقبه الذائع الصيت “الحاج محمد أمين”، وكان في السنة السادسة عشر من عمره حين ذاك.
بعد عامين من حجة الإسلام تلك أسس سماحته أول منظمة سياسية في فلسطين تحت مسمى “النادي العربي”، الذي تبوء رآسته في عام 1915، وتكمن أهمية هذا النادي أنّ الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت منه، وبعد أشهر التحق بمهنة التدريس في “مدرسة روضة المعارف الوطنية”، وفي عام 1917 أي بعد أربع سنوات من حجته المباركة تمت السيطرة على مدينته القدس من قبل القوات البريطانية، فكان هو أحد أبرز المناضلين والملتحقين بقوات الثورة العربية، حيث كانت له مساهمات معروفة في تجنيد المتطوعين. وبعد أربع سنوات تلقى فاجعة أليمة برحيل شقيقه سماحة المفتي كمال الحسيني عام 1921 وكان هو الخلف لخير سلف، وفي عام 1922 رأس مجلس الشؤون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية.
النضال والقضية الفلسطينية:-
كان سماحته رمزًا للثوّار ضد الاحتلال، حيث شارك عام 1941م في ثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق. بعدها أنشأ مكاتب متعددة لنصرة القضية الفلسطينية في عدة دول عالمية، ثم ترأس الهيئة العربية العليا لفلسطين عام 1946م و بعد عامين ترأس المؤتمر الوطني الفلسطيني في عام 1948.
تم اعتقال الشيخ في عدة مرات وقد طاردته السلطات الأمريكية والبريطانية ورفضت فرنسا تسليم الشيخ وقبل إبرام صفقة تسليمه مقابل إعمار فرنسا بأموال أمريكية استطاع الشيخ الفرار من القبضة الفرنسية 1947م ليستقر في القاهرة، ظلّ متخفيًا حتى حصل على حماية دولية ثم بدأ جهاده في تنظيم المجاهدين والثوّار وأعلنت الحرب بعد إعلان الأمم المتحدة دولة إسرائيل وتقسيم الأراضي الفلسطينية، توالت الخيانات والمؤامرات بعد ذلك وانهزمت الجيوش العربية، مع ذلك أصرّ سماحته على إعلان استقلالية فلسطين.
ولم يقتصر على الحراك النضالي بل استمر في ذات الوقت على المناشط السياسية على مستوى العالم العربي والإسلامي لدعم الجهاد المسلح ضد المحتلين. وفي عام 1955م مثل سماحته فلسطين في تأسيس حركة عدم الإنحياز، وبعد ست سنوات انتقل سماحة المفتي إلى بيروت 1961م، ليستمر نضاله حتى تَمّ
القرار بإنشاء كيان فلسطيني عام من قبل جامعة الدول العربية 1963م، الذي أفرز عنه ولادة منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964م، استمر جهاد الشيخ حتى بعد نكسة عام 1967م، مؤكدًا أنّه لا حلّ للقضية الفلسطينية إلا بالسلاح. وفي عام 1974م فاضت روحه الطاهرة ودفن في بيروت بعد حياة مليئة بالنضال.
________
المصدر: موقع التنويري
تقاطع الدين والسياسة؛ مفتي القدس نموذجًا
________
مجلة التنويري: مجلة فكرية إلكترونية وورقية، تقدم منظوراً وقاعدة فكرية حول التنوير الديني والتجديد الديني والقراءة التنويريَّة للدين في المنطقة، وتحاول تقديم مساهمة في إطار الجدالات الراهنة حول دور الدين في الحياة العامة، مع التركيز على الأطر التربوية والتعليمية. من الجدير بالذكر أن مجلة التنويري تصدر عن الرابطة العربية للتربويين التنويريين منذ 2017م في عمّان – الأردن، وهي امتداد لمجلة الراصد التنويري التي كانت تصدر منذ عام 1994م عن المنبر الدولي للحوار الإسلامي في لندن.