كتب مظفر النواب قصيدته الأولى "الريل وحمد" بين عامي 1956-1958، وما تزال هذه القصيدة تشكل محطة أساسية في تاريخ الشعر الشعبي او العامي في العراق والبلدان العربية.
ومنذ ذلك التاريخ ولحد الآن تنتقل قصائد النواب بين الناس بوسائل مختلفة، اذ ان أغلبها ليس مطبوعاً في ديوان. وفي العراق يتداول الناس اليوم قصائده مثل منشور سري، اذ ان شعره ممنوع هناك. لكن صوته يصل إليهم عبر أشرطة الكاسيت المسجلة، ويزور النواب لندن الآن لاحياء عدد من الأماسي الشعرية، كانت أولاها الأمسية التي أقامها يوم السبت الماضي في قاعة "بلومزبري" وحضرها عدد كبير من عرب المهجر في بريطانيا ، وخصص الشاعر القسم الأول من أمسيته التي استمرت حوالي ساعتين ونصف الساعة للقصائد الفصيحة ، والقسم الثاني للشعر الشعبي. وعلى هامش الأمسية كان هذا اللقاء معه:
> هل ما يزال الشعر ديوان العرب وشاغلهم، ام ان القصة والرواية باعتبارهما فناً مدينياً احتلا الساحة الأوسع؟
- اذا كان هناك ما يقلص انتشار الشعر وسطوته بين الناس فهو ليس بسبب الرواية او القصة او الفنون الادبية الأخرى، وانما طغيان الحاجة المادية والفقر الذي احتل مساحته بين الناس وهموم الوطن العربي بسبب المجاعة والقمع وانعدام الحرية والديمقراطية، اضافة الى دور الفضائيات المخرب، وهنا أتحدث بشكل عام، فتخريب اذن ورؤية المتلقي هو العامل الذي يؤثر سلباً على انتشار الشعر وتغلغله بين الناس.
اما كون الرواية ابنة المدينة والشعر وليد الريف او البادية فهذا غير صحيح اطلاقاً، فالشعر العربي كان في الحواضر العربية، في بغداد ودمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة، والشعراء العرب المهتمون كانوا في الأساس أبناء مدن وتطورهم الهائل ارتبط بتطور المدينة. ويضرب المثل عن الشاعر ابن الجهم، ان صحت الرواية، عندما دخل على الخليفة وهو قادم من الريف وقال له: أنت كالكلب في حفاظك للود / وكالتيس في قراع الخطوب. وأدهش الجمهور الذي كان جالساً، فقال الخليفة -اعتقد انه أبو جعفر المنصور- أتركوه، ومنحه بيتاً مترفاً على نهر دجله وخدماً هناك، فرقت حياته وترفت مفرداته وقال: عيون المها بين الرصافة والجسر / جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري، وقد تكون الرواية غير صحيحة لكنها تضرب كمثل في تاريخ الأدب على أن المدينة والترف يؤثران في مفردات وصور الشاعر. فإذا كانت القصة او الرواية تستوعب تعقيدات الحياة في المدينة فالشعر ايضاً يستوعب ذلك -للشعر منحاه وللرواية منحاها كبقية الفنون الأخرى من رسم ونحت وموسيقى- وعندما يكون للشاعر صوته وتجربته الشعرية التي تسند ما يطرحه في القصيدة، وأن يكون فناناً، فالشاعر فنان ، وملّون جيد قادراً على بناء قصيدته باحكام، فالناس تنصت له وبالتالي تصل قصيدته. أنا أجد في أغلب الأماسي الشعرية ان القصيدة تصل الى الناس رغم قلة دواويني وأدهش أحياناً لكيفية وصول القصيدة الى الناس في بعض الأقطار العربية. اذاً لا يزال للشعر نفوذه وسطوته.
الشعر والنجومية
> هل تؤثر ظاهرة نجومية الشاعر، او الشاعر النجم، على الناس على حضور الأماسي الشعرية؟
- عندما تعرف الناس ان هذا الشاعر تسنده تجربته وانه شاعر حقيقي لا يتلاعب بالألفاظ او (الشعوذات) كما أسميها انا، فالناس تحب سماع شعره وهذا لا علاقة له بنجومية الشاعر بل بعمق ما يطرحه الشاعر، عمق تجربته وفهمه للغة وتطويعها. أما النجومية فتظهر في فترة معينة ثم تنطفىء. النجومية لا تكفي على الأطلاق وبإمكان الناس ان تميز وتكتشف الشاعر الحقيقي عن سواه.
> أنت تكتب الشعر العامي (الشعر الشعبي العراقي) والشعر بالعربية الفصحى، فأين تجد نفسك بين الاثنين؟
- للشعر العامي مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح ايضاً مزاياه وعالمه. ان ذلك يشبه الشغل على مادتين مختلفتين تماماً، فعندما تنحت على الصخر غير ان تشكل تكوينات بواسطة الطين.
> أيهما الطين، وايهما الصخر؟
- الطين، القصيدة العامية، كون العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والإرث البلاغي الذي يشد شاعر الفصحى بأبعاد معينة، ثم ان اشتقاقات العامية وتراكيبها تمنح الشاعر سعة وحرية في اشتقاق أية مفردة ربما غير موجودة أساساً وتؤدي معناها. في الفصحى لا يمكن ذلك، فالإشتقاقات لها قوانينها النحوية، وهذا لا يقلل من شأن الفصحى على الإطلاق، فلها طبيعتها النحوية وهو ما أسميه النحت بالصخر. فهناك نحو وقوانين لغوية وقواعد بلاغية وهيمنة تراثية. لهذا عندما يحاول شاعر الفصحى ان يكتب قصيدة حديثة يتحرر فيها من كلاسيكية اللغة تكون له معاناته -هناك من يتحدث عن تفجير اللغة، لا يوجد مثل هذا المصطلح، هذا ضحك على الذقون، هناك تطوير للغة وتعامل معها بمحبة وود لتكون قريبة وصديقة.
أما العامية فهي مثل الطين المختمر. في أول زيارة لي لأهوار جنوب العراق شعرت بذلك، الهور مائي وطيني وطبيعته إنسيابية والماء فيه يتشكل، كذلك الطين، بأشكال عدة وأيضاً يجب التعامل مع العامية بمحبة حتى يتشكل هذا الطين مثلما نريد.
> هناك حملات دائمة واتهامات مستمرة للشعر العامي، في عموم البلدان العربية، كونه مضاداً للثقافة العربية ومن عوامل تشتيت الإنجاز العربي الإبداعي ، ولكونه أيضاً محدوداً داخل البلد او المنطقة الواحدة؟
الفصحى والعامية
- الإتهامات ضد العامية فيها تجن كبير. العامية لهجة لها ارتباط كبير وواضح باللغة العربية الأم، هناك اتهام على أساس ان العامية هي لغة شعوبية وهذا خطأ كبير، فاللهجة العراقية يفهمها كل العراقيين، صحيح ان هناك بعض الاختلافات في المفردات بين الشمال والجنوب او الغرب والشرق، ولكن من الممكن كتابة قصيدة عامية يفهمها كل الناس. ثمة مفردات اذا كانت غير مفهومة فالمتلقي يبحث عن معناها ويفهمها -قصيدة "الريل وحمد" يقرأها ابن الموصل مثل ابن العمارة او البصرة بل حتى من خارج العراق، وفي الخليج العربي وليبيا والجزائر. لقد تفاجأت ان هناك في الجزائر من يحفظ قصيدة "الريل وحمد" ويستوعب صورها. وكون اللهجات العامية تؤذي الوحدة العربية، فهذا أمر مضحك، العامية قادرة على الإثارة والتحريك أكثر من الفصحى. عندما تكتب قصيدة بالعامية حول أوضاع معينة يعيشها الناس، فإنها تحركهم أكثر اذ يتداولونها ويحفظونها، ونادراً ما نجد الآن من يحفظ قصيدة فصحى حديثة، او أن تبقى بعض أبياتها بين الناس. اذاً القصيدة العامية ليست شعوبية، وهي أيضاً ليست معادية لوحدة الأمة العربية، بل هي إغناء للشعر، وفيها مادة لا تستحملها قصيدة الفصحى وفي الوقت نفسه من غير الممكن، مثلاً، ان تتناول موضوعاً فلسفياً بالعامية.
> ولك لن هذا موجود في قصائدك فأنت تتطرق لمواضيع فكرية في قصائدك العامية.
- في اطار عدم تحميلها اكثر من طاقتها، القصيدة، حتى الفصحى، عندما تحملها مادة فكرية اكثر من طاقتها لن تكون شعراً بل فلسفة بحتة.
> أنت شاعر عامية ام فصحى؟
- الاثنين. في القصيدة العامية أتحدث عن اوضاع العراقيين، قضايا الفلاحين مثلا. العامية أكثر ايصالاً، أكثر شجناً. في القصيدة الفصحى أتناول قضية عربية أكثر شمولاً، فقصيدة "آر.بي.جي" التي كتبتها بالفصحى عن الفلسطينيين وسلاحهم، او القصيدة التي كتبتها عن الشاب خالد الفلسطيني الذي هبط لطائرة شراعية وسط معسكر اسرائيلي، حققتا تواصلاً كبيراً مع جمهور الشعر، وتطلبان مني في الأماسي التي القي فيها قصائدي. إذاً للقصيدة الفصحى أبعادها وخصوصياتها.
> تححدثت عن قصيدة "الريل وحمد" التي كتبتها عام 1956، فما يزال الناس في العراق يحفظون ويغنون هذه القصيدة التي ارتبطت بوجدانهم، وكلما ذكر مظفر النواب ذكرت هذه القصيدة، فما هو سر "الريل وحمد"؟
- الريل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني اني سأطبعها في يوم ما، او انها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لانني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناء وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام. كتبت هذه القصيدة عام 1956 وأكملتها عام 1958، وأخذها علي الشوك من دفتري ثم نشرها دون علمي، وكتب عنها الشاعر سعدي يوسف وقال ما معناه ان شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وأعتقد ان سعدي يوسف لخص قضية أساسية هي ان طبيعة هذه القصيدة لها هويتها، وهي ليست هوية الشعر العالمي او القصائد المكتوبة بالفصحى او القصيدة العامية التي كتبت في السابق، واعتبرها نقلة من القصيدة العامية التقليدية الى مناخ جديد. لقد فتحت "الريل وحمد" بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية. ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى -كان والدي يعزف على العود، ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية. كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في "الريل وحمد" عن غيره في القصائد العامية الأخرى.
موسقة اللغة
> لكن بعد قصيدة "الريل وحمد" بسنوات بدأت القصيدة العامية لديك تأخذ منحى آخر، وذات صور أكثر تعقيداً ولغة أكثر صعوبة؟
- لا أبداً، حتى عندما كتبت "الريل وحمد" هناك من قال انه من غير الممكن ان يتحدث فلاح بهذه اللغة. أنا لست فلاحاً، أنا شاعر ولي عالمي وأبعادي، والشاعر ينقل عالمه، والشاعر الذي لا ينقل عالمه الخاص فهنالك كما أعتقد نقص في تجربته الشعرية.
> هل تجد هناك م نيفهم قصيدتك العامية من الجمهور العربي. اعني غير العراقيين؟
- بالطبع، هناك الكثير من قصائدي العامية تطلب في أماسي شعرية من قبل ليبيين او جزائريين، مثلاً. ففي أمسية شعرية في ليبيا كنت أقرأ قصائدي المكتوبة بالفصحى وفوجئت بأحدهم يطلبي مني قصيدة عامية (مو حزن لكن حزين). وفي أمسية شعريةلي أخيراً ببرلين جاءت سيدة عربية وليست عراقية وقالت انها لم تفهم أغلب المفردات لكنها ستبحث عن معنى هذه المفردات لأنها تفاعلت مع أجواء القصيدة. وكنت قد أقمت الأمسية في دار الثقافات العالمية ببرلين. وهذا الإنتشار ليس خطأ، العامية المصرية، او اللبنانية منتشرة في كل مكان، العامية تفتح آفاقاً جديدة حتى أمام الفصحى.
> هل تخضع القصيدة العامية لأوزان وبحور مثلما الفصحى؟
- لا، أنا بطبيعتي لا أدقق مع قصائدي، وعندما كنت طالبا في الجامعة كنت أهرب من دروس العروض في الشعر، وفي القصيدة الفصحى عندما أجد أي خلل أعود الى ذهني لأبحث عما تبقى من دروس العروض التي كنت أهرب منها في الجامعة. في العامية تسيطر علي مشاعر وصور مستمدة من داخلي، من جماليات وصور وموسيقى. أذكر مرة انني كنت في سفرة للأهوار في جنوب العراق ومرت قربنا زوارق (مشاحيف) فيها نساء. وسألنا عن اتجاه المنطقة التي كنا نبحث عنها فأجبن بلهجة فيها موسيقى، هذه الموسيقى هي شعر، والعامية التي أنا على احتكاك معها، وهي لهجة أهل العمارة جنوب العراق، فيها موسيقى خاصة، حتى في الأسماء عندما تصغر عندهم تكون (صويحب) و(جويسم) وهي صاحب وجاسم، نجد موسيقى وسهولة في النطق وهذا أثر بي بشدة.
المصدر:
جريدة الشرق الأوسط - لندن
يوم الجمعة 29 أكتوبر 1999م
العدد رقم 7640
ومنذ ذلك التاريخ ولحد الآن تنتقل قصائد النواب بين الناس بوسائل مختلفة، اذ ان أغلبها ليس مطبوعاً في ديوان. وفي العراق يتداول الناس اليوم قصائده مثل منشور سري، اذ ان شعره ممنوع هناك. لكن صوته يصل إليهم عبر أشرطة الكاسيت المسجلة، ويزور النواب لندن الآن لاحياء عدد من الأماسي الشعرية، كانت أولاها الأمسية التي أقامها يوم السبت الماضي في قاعة "بلومزبري" وحضرها عدد كبير من عرب المهجر في بريطانيا ، وخصص الشاعر القسم الأول من أمسيته التي استمرت حوالي ساعتين ونصف الساعة للقصائد الفصيحة ، والقسم الثاني للشعر الشعبي. وعلى هامش الأمسية كان هذا اللقاء معه:
> هل ما يزال الشعر ديوان العرب وشاغلهم، ام ان القصة والرواية باعتبارهما فناً مدينياً احتلا الساحة الأوسع؟
- اذا كان هناك ما يقلص انتشار الشعر وسطوته بين الناس فهو ليس بسبب الرواية او القصة او الفنون الادبية الأخرى، وانما طغيان الحاجة المادية والفقر الذي احتل مساحته بين الناس وهموم الوطن العربي بسبب المجاعة والقمع وانعدام الحرية والديمقراطية، اضافة الى دور الفضائيات المخرب، وهنا أتحدث بشكل عام، فتخريب اذن ورؤية المتلقي هو العامل الذي يؤثر سلباً على انتشار الشعر وتغلغله بين الناس.
اما كون الرواية ابنة المدينة والشعر وليد الريف او البادية فهذا غير صحيح اطلاقاً، فالشعر العربي كان في الحواضر العربية، في بغداد ودمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة، والشعراء العرب المهتمون كانوا في الأساس أبناء مدن وتطورهم الهائل ارتبط بتطور المدينة. ويضرب المثل عن الشاعر ابن الجهم، ان صحت الرواية، عندما دخل على الخليفة وهو قادم من الريف وقال له: أنت كالكلب في حفاظك للود / وكالتيس في قراع الخطوب. وأدهش الجمهور الذي كان جالساً، فقال الخليفة -اعتقد انه أبو جعفر المنصور- أتركوه، ومنحه بيتاً مترفاً على نهر دجله وخدماً هناك، فرقت حياته وترفت مفرداته وقال: عيون المها بين الرصافة والجسر / جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري، وقد تكون الرواية غير صحيحة لكنها تضرب كمثل في تاريخ الأدب على أن المدينة والترف يؤثران في مفردات وصور الشاعر. فإذا كانت القصة او الرواية تستوعب تعقيدات الحياة في المدينة فالشعر ايضاً يستوعب ذلك -للشعر منحاه وللرواية منحاها كبقية الفنون الأخرى من رسم ونحت وموسيقى- وعندما يكون للشاعر صوته وتجربته الشعرية التي تسند ما يطرحه في القصيدة، وأن يكون فناناً، فالشاعر فنان ، وملّون جيد قادراً على بناء قصيدته باحكام، فالناس تنصت له وبالتالي تصل قصيدته. أنا أجد في أغلب الأماسي الشعرية ان القصيدة تصل الى الناس رغم قلة دواويني وأدهش أحياناً لكيفية وصول القصيدة الى الناس في بعض الأقطار العربية. اذاً لا يزال للشعر نفوذه وسطوته.
الشعر والنجومية
> هل تؤثر ظاهرة نجومية الشاعر، او الشاعر النجم، على الناس على حضور الأماسي الشعرية؟
- عندما تعرف الناس ان هذا الشاعر تسنده تجربته وانه شاعر حقيقي لا يتلاعب بالألفاظ او (الشعوذات) كما أسميها انا، فالناس تحب سماع شعره وهذا لا علاقة له بنجومية الشاعر بل بعمق ما يطرحه الشاعر، عمق تجربته وفهمه للغة وتطويعها. أما النجومية فتظهر في فترة معينة ثم تنطفىء. النجومية لا تكفي على الأطلاق وبإمكان الناس ان تميز وتكتشف الشاعر الحقيقي عن سواه.
> أنت تكتب الشعر العامي (الشعر الشعبي العراقي) والشعر بالعربية الفصحى، فأين تجد نفسك بين الاثنين؟
- للشعر العامي مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح ايضاً مزاياه وعالمه. ان ذلك يشبه الشغل على مادتين مختلفتين تماماً، فعندما تنحت على الصخر غير ان تشكل تكوينات بواسطة الطين.
> أيهما الطين، وايهما الصخر؟
- الطين، القصيدة العامية، كون العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والإرث البلاغي الذي يشد شاعر الفصحى بأبعاد معينة، ثم ان اشتقاقات العامية وتراكيبها تمنح الشاعر سعة وحرية في اشتقاق أية مفردة ربما غير موجودة أساساً وتؤدي معناها. في الفصحى لا يمكن ذلك، فالإشتقاقات لها قوانينها النحوية، وهذا لا يقلل من شأن الفصحى على الإطلاق، فلها طبيعتها النحوية وهو ما أسميه النحت بالصخر. فهناك نحو وقوانين لغوية وقواعد بلاغية وهيمنة تراثية. لهذا عندما يحاول شاعر الفصحى ان يكتب قصيدة حديثة يتحرر فيها من كلاسيكية اللغة تكون له معاناته -هناك من يتحدث عن تفجير اللغة، لا يوجد مثل هذا المصطلح، هذا ضحك على الذقون، هناك تطوير للغة وتعامل معها بمحبة وود لتكون قريبة وصديقة.
أما العامية فهي مثل الطين المختمر. في أول زيارة لي لأهوار جنوب العراق شعرت بذلك، الهور مائي وطيني وطبيعته إنسيابية والماء فيه يتشكل، كذلك الطين، بأشكال عدة وأيضاً يجب التعامل مع العامية بمحبة حتى يتشكل هذا الطين مثلما نريد.
> هناك حملات دائمة واتهامات مستمرة للشعر العامي، في عموم البلدان العربية، كونه مضاداً للثقافة العربية ومن عوامل تشتيت الإنجاز العربي الإبداعي ، ولكونه أيضاً محدوداً داخل البلد او المنطقة الواحدة؟
الفصحى والعامية
- الإتهامات ضد العامية فيها تجن كبير. العامية لهجة لها ارتباط كبير وواضح باللغة العربية الأم، هناك اتهام على أساس ان العامية هي لغة شعوبية وهذا خطأ كبير، فاللهجة العراقية يفهمها كل العراقيين، صحيح ان هناك بعض الاختلافات في المفردات بين الشمال والجنوب او الغرب والشرق، ولكن من الممكن كتابة قصيدة عامية يفهمها كل الناس. ثمة مفردات اذا كانت غير مفهومة فالمتلقي يبحث عن معناها ويفهمها -قصيدة "الريل وحمد" يقرأها ابن الموصل مثل ابن العمارة او البصرة بل حتى من خارج العراق، وفي الخليج العربي وليبيا والجزائر. لقد تفاجأت ان هناك في الجزائر من يحفظ قصيدة "الريل وحمد" ويستوعب صورها. وكون اللهجات العامية تؤذي الوحدة العربية، فهذا أمر مضحك، العامية قادرة على الإثارة والتحريك أكثر من الفصحى. عندما تكتب قصيدة بالعامية حول أوضاع معينة يعيشها الناس، فإنها تحركهم أكثر اذ يتداولونها ويحفظونها، ونادراً ما نجد الآن من يحفظ قصيدة فصحى حديثة، او أن تبقى بعض أبياتها بين الناس. اذاً القصيدة العامية ليست شعوبية، وهي أيضاً ليست معادية لوحدة الأمة العربية، بل هي إغناء للشعر، وفيها مادة لا تستحملها قصيدة الفصحى وفي الوقت نفسه من غير الممكن، مثلاً، ان تتناول موضوعاً فلسفياً بالعامية.
> ولك لن هذا موجود في قصائدك فأنت تتطرق لمواضيع فكرية في قصائدك العامية.
- في اطار عدم تحميلها اكثر من طاقتها، القصيدة، حتى الفصحى، عندما تحملها مادة فكرية اكثر من طاقتها لن تكون شعراً بل فلسفة بحتة.
> أنت شاعر عامية ام فصحى؟
- الاثنين. في القصيدة العامية أتحدث عن اوضاع العراقيين، قضايا الفلاحين مثلا. العامية أكثر ايصالاً، أكثر شجناً. في القصيدة الفصحى أتناول قضية عربية أكثر شمولاً، فقصيدة "آر.بي.جي" التي كتبتها بالفصحى عن الفلسطينيين وسلاحهم، او القصيدة التي كتبتها عن الشاب خالد الفلسطيني الذي هبط لطائرة شراعية وسط معسكر اسرائيلي، حققتا تواصلاً كبيراً مع جمهور الشعر، وتطلبان مني في الأماسي التي القي فيها قصائدي. إذاً للقصيدة الفصحى أبعادها وخصوصياتها.
> تححدثت عن قصيدة "الريل وحمد" التي كتبتها عام 1956، فما يزال الناس في العراق يحفظون ويغنون هذه القصيدة التي ارتبطت بوجدانهم، وكلما ذكر مظفر النواب ذكرت هذه القصيدة، فما هو سر "الريل وحمد"؟
- الريل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني اني سأطبعها في يوم ما، او انها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لانني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناء وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام. كتبت هذه القصيدة عام 1956 وأكملتها عام 1958، وأخذها علي الشوك من دفتري ثم نشرها دون علمي، وكتب عنها الشاعر سعدي يوسف وقال ما معناه ان شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وأعتقد ان سعدي يوسف لخص قضية أساسية هي ان طبيعة هذه القصيدة لها هويتها، وهي ليست هوية الشعر العالمي او القصائد المكتوبة بالفصحى او القصيدة العامية التي كتبت في السابق، واعتبرها نقلة من القصيدة العامية التقليدية الى مناخ جديد. لقد فتحت "الريل وحمد" بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية. ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى -كان والدي يعزف على العود، ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية. كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في "الريل وحمد" عن غيره في القصائد العامية الأخرى.
موسقة اللغة
> لكن بعد قصيدة "الريل وحمد" بسنوات بدأت القصيدة العامية لديك تأخذ منحى آخر، وذات صور أكثر تعقيداً ولغة أكثر صعوبة؟
- لا أبداً، حتى عندما كتبت "الريل وحمد" هناك من قال انه من غير الممكن ان يتحدث فلاح بهذه اللغة. أنا لست فلاحاً، أنا شاعر ولي عالمي وأبعادي، والشاعر ينقل عالمه، والشاعر الذي لا ينقل عالمه الخاص فهنالك كما أعتقد نقص في تجربته الشعرية.
> هل تجد هناك م نيفهم قصيدتك العامية من الجمهور العربي. اعني غير العراقيين؟
- بالطبع، هناك الكثير من قصائدي العامية تطلب في أماسي شعرية من قبل ليبيين او جزائريين، مثلاً. ففي أمسية شعرية في ليبيا كنت أقرأ قصائدي المكتوبة بالفصحى وفوجئت بأحدهم يطلبي مني قصيدة عامية (مو حزن لكن حزين). وفي أمسية شعريةلي أخيراً ببرلين جاءت سيدة عربية وليست عراقية وقالت انها لم تفهم أغلب المفردات لكنها ستبحث عن معنى هذه المفردات لأنها تفاعلت مع أجواء القصيدة. وكنت قد أقمت الأمسية في دار الثقافات العالمية ببرلين. وهذا الإنتشار ليس خطأ، العامية المصرية، او اللبنانية منتشرة في كل مكان، العامية تفتح آفاقاً جديدة حتى أمام الفصحى.
> هل تخضع القصيدة العامية لأوزان وبحور مثلما الفصحى؟
- لا، أنا بطبيعتي لا أدقق مع قصائدي، وعندما كنت طالبا في الجامعة كنت أهرب من دروس العروض في الشعر، وفي القصيدة الفصحى عندما أجد أي خلل أعود الى ذهني لأبحث عما تبقى من دروس العروض التي كنت أهرب منها في الجامعة. في العامية تسيطر علي مشاعر وصور مستمدة من داخلي، من جماليات وصور وموسيقى. أذكر مرة انني كنت في سفرة للأهوار في جنوب العراق ومرت قربنا زوارق (مشاحيف) فيها نساء. وسألنا عن اتجاه المنطقة التي كنا نبحث عنها فأجبن بلهجة فيها موسيقى، هذه الموسيقى هي شعر، والعامية التي أنا على احتكاك معها، وهي لهجة أهل العمارة جنوب العراق، فيها موسيقى خاصة، حتى في الأسماء عندما تصغر عندهم تكون (صويحب) و(جويسم) وهي صاحب وجاسم، نجد موسيقى وسهولة في النطق وهذا أثر بي بشدة.
المصدر:
جريدة الشرق الأوسط - لندن
يوم الجمعة 29 أكتوبر 1999م
العدد رقم 7640