نهى الرميسي - قراءة فى رواية (التقفيصة)للكاتب محمود سلطان

العنوان التقفيصة ليس مجرد اسم لرواية وإنما هو وصف لحياة يُسجن فيها صاحبها طوعاً بسبب ما تأتى عليه نفسُه من ضلالات أو كُرهاً بفعل ما تفرضه عليه النشأة وبما يمر به الوطن من انتكاسات وانكسارات.
ولأن الإنسانَ نتاجُ مجتمعه وابناً لبيئته، تلك التى تتشكل بناء على مسارات التاريخ وحوادثه، وتضاريس الجغرافيا ضيقا وانفراجا، فإن المرحلة الزمنية للرواية فرضت على شخصياتها أن تعيش فى التقفيصة، تلك التى يجتمعون حولها ويقيمون احتفالاتهم خلفها وبجوارها إذن فكل أنشطتهم الحية تدور فى فلك التقفيصة، لندرك أن التقفيصة أيضا هو الاسم الذى يطلقونه على خزان المياه المغذى للقرية كلها، لينطرح السؤال فى ذهن القارئ، إذا سقيتَ الأرض قهرا فماذا ستجنى منها؟.

1731514557072.png

ومن التقفيصة أو الخزان فى قرية نفيشة تبدأ حكاية بطل الرواية ممدوح، فتصدر الأحداثُ المؤسِسة لتكوينه النفسى والبدنى من خلال تلك التقفيصة، بداية من المهد بين أحضان أم تافهة مهملة تتركه هملا بين يدى أخواته وجاراته وبين مجتمعٍ فسادُه أشدُّ من صلاحه وعهرُه تعدى على أخلاقه، وهو يذكرنا بالصورة التى رسمها لنا صلاح جاهين بالعامية المصرية حين قال: هو من امتى الولد بيخاف من أمه لما فى الضلمة تضمه .
يُصر الكاتب على صدم مشاعر القارئ وصك أذنيه بل فقء عينيه بتصوير مواقف مفزعة تنفر منها النفس السوية مثل تحلق الصبية حول طفل صغير بجوار التقفيصة فى محاولة بائسة للاعتداء عليه لولا خوفهم من اقتراب خطوات الجند ، أو مشهد فاضح بين المعلم والمعلمات فى المدرسة، تلك المدرسة التى كانت حلم الطفل ومهبط أحلامه.
ويستمر الكاتب فى رسم الصورة البائسة لنشأة الطفل بين أتراب متنمرين يسخرون منه ، وكبار فاسدين أخلاقيا مثل المحولجى والعطشجى وغيرهم، حتى من ادعى منهم الدروشة والزهد، أيضا يكتشف البطل فضائحَه الأخلاقية.
إذن البيئة مشوهة إلا قليلا جدا ممن تفلتوا منها بالتعليم فى الخارج، أو ممن هدتهم فطرتهم إلى الصواب، تلك البيئة التى تنبع من تقفيصة حديدية لخزان مياه يرتوون منها فينشأون على هذا النحو المتفسخ، بعيدا عن معنى الحرية التى تقابل الاستواء النفسى لدى الكاتب، وهى الهدف الأسمى خلف هذا العمل الإبداعى على حد تقديرى وفهمى له.
ويمضى الكاتب فى بناء شخصية ممدوح بطل الرواية على هذا النحو الذى يخلق منه شخصاً مريضاً نفسياً رغم تفوقه العلمى.
القصة تبدى مدى وعى الكاتب ورصده الدقيق للمجتمع منذ عام 1952،حتى ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضى بكل مراحله، وبكل أطيافه السياسية، فتجده يصف المجتمع فى مفتتح بعض فصول الرواية معبرا عنه بكلمة (البيوت) فتجده مثلا فى الفصل 12 حيث يصور 5 يونيو 67 فيقول:
(دلف الجميع إلى بيوتهم، ضبطوا مؤشر الراديو، انتظروا إعادة البلاغات العسكرية). ويقول فى الفصل 23كانت البيوت تتثائب بعد قيلولة هانئة)
وفى الفصل 25 حيث يقول:
(بعد صلاة الفجر استكانت البيوت للنوم اللذيذ).
وهكذا، نجد أسلوب الكاتب وأفكاره تتميز بالنضج الفنى الذى ينم عن ثقافة واسعة وخلفية تاريخية واعية.
استخدم الكاتب لغة فصحى متميزة حتى فى الحوارات وهو مايتوافق مع الأسلوب الخبرى التقريرى الذى طغى على أجزاء كبيرة من السرد،وقد أفصح الكاتب عن كثير من الآراء فى المجتمع وواقع الحال من خلال الحوار المباشر على لسان الشخصيات التى تتحاور ويندس البطل بينهم ليسمع مايدور من تنظير مباشر من الراوى العليم، جاء هذا فى أكثر من موضع فى الرواية ، الأمر الذى يخرج القارئ قليلا عن توالى الأحداث وتلاحقِها وهو ماينبغى أن تَركَن إليه الحبكة القصصية دائما.
الكاتب أشار إلى المواقف الجنسية فى الرواية باستعارات وكنايات، ورغم ذلك فمن وجهة نظرى المتواضعة، لم يكن هناك داعٍ لهذه المواقف، ولو تخففت منها الرواية فلم يكن ينقصها شىء ذو قيمة.
الرواية فى مجملها تقدم رؤية للأحداث التاريخية القريبة من وجهة نظر الكاتب، وإن طرق هذا الباب كثيرون إلا أن وجهات النظر المختلفة مطلوبة لمكتبتنا العربية فى ظل هيمنة كَتَبةِ التاريخ المتغلبين فى أنحاء العالم، قدمها الكاتب بلغة لطيفة وأسلوب متميز منذ الصفحات الأولى للرواية حين يجذبنا إليها جذبا بوصف تلك الصورة النشاذ لأم لاهية عن ولدها منشغلة عنه بما لا يشغل العقلاء وإن كانت شريفة السلوك، إلا أن الأمر لايخلو من رمزية شيقة،
تحية لهذا العمل القيم الذى يقدم الفكر والتاريخ فى قالب روائى بديع.

نهى الرميسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى