مريم عادل - لماذا نرتبط بالبيت.. التعلق النفسي بالمكان عند غاستون باشلار

"البيت ركننا في العالم، إنه وكما قيل مرارا، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى"
(غاستون باشلار)


عندما نفكر في تجهيز بيتنا الخاص، فإننا نحلم بكل البيوت التي سكناها والتي حلمنا أن نسكنها، تجتمع تلك الصور في خيالنا وتحاول مرارا أن توجد نفسها مرة أخرى في البيت الجديد؛ في كتابه المدهش "جماليات المكان" يقدم غاستون باشلار الأسباب العميقة لارتباطنا بمكان ما خصوصا البيت، الذي هو رمز الألفة المحمية، فهو يرى أن البيت أكثر من منظر طبيعي، هو ظاهرة نفسية، حتى لو رأينا صورا خارجية له؛ فهو مكاننا الذي ينطق بالألفة والحماية، الوسيلة التي نرسي بها جذورنا يوما بعد يوم في هذا العالم.

وعلى عكس الفلسفات التي تعتبر العالم مكانا عدائيا، وأن الإنسان منذ لحظات وجوده الأولى "منفي في العالم"، متروك للوحدة والخذلان؛ فإن باشلار يرى أننا منذ وجدنا في العالم كان الوجود هنيئا في "بيت الطفولة"، كان الإنسان منخرطا في الهناءة، حين كانت الهناءة مرتبطة بالوجود؛ والهناءة هنا تشمل أوقات ضجرنا وبكائنا التي مارسناها في ركن منعزل من البيت؛ إن كل الصور الأليفة المرتبطة بالبيت في خيالنا وأحلامنا يربطها باشلار ببيت الطفولة، فهو جذر المكان الذي تشكل فيه خيالنا ومارسنا فيه أحلام اليقظة، فالحياة كما يرى باشلار تبدأ بداية جيدة، تبدأ مسيجة، محمية في صدر البيت. ولا يتعرض باشلار في كتابه للمكان المعادي، أماكن الحروب والكوارث، يقول: "إن المكان المعادي لا يكاد يكون مذكورا في هذه الصفحات، إن مكان الكراهية والصراع لا يمكن دراسته إلا في سياق الموضوعات الملتهبة انفعاليا والصور الكابوسية".

يقول باشلار إن "كل كتاب جيد يجب أن تعاد قراءته بمجرد الانتهاء منه، فبعد القراءة التخطيطية الأولى تأتي القراءة الخلاقة"، يبدو أن القراءة الأولى لا تكشف لنا إلا القليل، وكتابه هذا لا تكفيه قراءة واحدة؛ في البداية ينكشف عالم باشلار الغريب بحذر ولكن مع القراءات المتكررة ينفتح الكتاب ويمنحنا صورا فنية نبني بها روابط وعلاقات جديدة مع الأماكن التي لم نعد نشعر بها، يحكي باشلار أنه عندما انتقل لباريس كان منزعجا من صوت السيارات في المدينة كل صباح، لكنه عندما قرأ صورة وردت في قصيدة للشاعرة ايفون كاروتش، التى بدا لها فجر المدينة "همهمة قوقعة فارغة" أعانته هذه الصورة لأن يستيقظ برفق وبشكل طبيعي وكتب: "كل صورة جيدة، إذا عرفنا كيف نستخدمها" فمن المريح بالتأكيد تحييد الأصوات غير الأليفة لجعلها أقل عدائية؛ إن كل من سيقرأ "جماليات المكان" سيجد نفسه دون أن يشعر انتقل مع باشلار في حلم طويل بالبيوت، يستعيد للحاضر خلاله الصور التي شعر معها بالأنس والحميمية، وبالحب وحتى بالوحدة، تلك الأماكن التي حفرت في ذاكرتنا منذ زمن بعيد.

تجنب باشلار دائما أن يعطي نفسه اسم الناقد الأدبي لأنه لم يكن يهدف أبدا إلا لمتعة ولذة القراءة(1)، ومنها يطرح باشلار في هذا الكتاب فكرة "تعليق القراءة"، وهو يعني بتعليق القراءة أي أننا عندما نقرأ وصفا لحجرة فإننا نتوقف لنتذكر حجرتنا نحن، يقول: "إذا أردنا أن نقدم للقارئ "قيم الألفة" فعلينا أن ندفعه إلى حالة من تعليق القراءة، لأن القارئ لن يستطيع دخول حالة حلم اليقظة إلا عندما يتوقف عن قراءة ذكرياتي عن حجرتي، وعندما يكون الذي يسترجع ذكرياته شاعرا فإن روح القارئ تزدحم بالأصداء، وتعيش ذلك النوع من الذبذبات التي كما يقول منكوفسكي، "تمنح طاقة البدء للوجود"، وهذا يعني أن قراءة المكان في الأدب تجعل القارئ يتوقف ويضع الكتاب جانبا، يكتب: "إن قيم الألفة تمتلك جاذبية تجعل القارئ يتوقف عن قراءة حجرتك: إنه يرى حجرته مرة أخرى، إنه بعيد عنك الآن يصغي لذكرياته عن أب وجدة، عن أم أو خادم، باختصار عن الإنسان الذي يسيطر على أحب ذكرياته".(2)

يتكون الكتاب من عشرة فصول، تمكن باشلار من خلالها كتابة كل ما عايشناه في لا وعينا دون أن نفكر في أي وقت في كتابته، أو أننا لم نتوقع أصلا أن بإمكان أحلامنا التي عايشناها أن تسطر في كلمات، الفصول هي: البيت من القبو للعلية (دلالة الكوخ )، البيت والكون، الأدراج والصناديق وخزائن الملابس، الإعشاش، القواقع، الأركان، المتناهي في الصغر، ألفة المتناهي في الكبر، جدل الداخل والخارج، ظاهراتية الاستدار؛ من خلالها يتحدث باشلار عن التفاصيل الجمالية المحيطة بنا في البيت، مكان السكن، عن الأنس الذي نشعر به في مساحاتنا الحميمة وكيف عبر الشعراء والأدباء عن ذلك في الشعر والرواية والنثر؛ على مدار الكتاب يقتبس باشلار الشعر والنصوص الأدبية من فلاسفة وأدباء مثل بودلير وميلوز وريلكه، وايلوار، يقول ريلكه:

البيت، قطعة المرج، يا ضوء المساء
فجأة تكتسب وجها يكاد يكون إنسانيا
أنت قريب منا للغاية تعانقنا ونعانقك


ذكريات بيت طفولتنا
في حديثه عن بيت الطفولة، لا يفرق باشلار بين بيت غني وفقير، يقول: "إذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت جميلا، إن مؤلفي كتب البيوت المتواضعة كثيرا ما يذكرون هذا الملمح من جماليات المكان". ويكتب: "حين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي، هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي في داخله". فهو يرى رسم الصور المبالغ في جمالها للبيت تلغي ألفته، ويصدق هذا على الحياة لكنه يراه أصدق ما يكون في أحلام اليقظة، فهو يرى أن البيوت الحقيقية للذاكرة لا تمنح نفسها للوصف بسهولة.

يرى غالب هلسا مترجم الكتاب الذي أضاف كثيرا بمقدمته، أنه من خلال بيت الطفولة الذي ينطلق منه باشلار فإننا كلما ابتعدنا عنه نستعيد دائما ذكراه، "ونسقط على الكثير من مظاهر الحياة المادية ذلك الإحساس بالحماية والأمن، اللذين كانا يوفرهما لنا البيت". "وانطلاقا من تذكر بيت الطفولة تتخذ صفات وملامح المكان طابعا ذاتيا، وينتفي بعدها الهندسي"، فحسب باشلار فإن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يكون مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي لكن بكل ما في الخيال من تحيز.

إن بيت الذكريات يصبح معقدا سيكولوجيا، فهو يرتبط بتلك الأماكن التي مارسنا فيها العزلة، زوايا وأركان البيت التي توجد بها الشخصيات الرئيسية في حياتنا في ذلك الوقت، يقول باشلار: "إن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا، إنه يصبح مجموعة من العادات العضوية. بعد مرور عشرين عاما ورغم السلالم الكثيرة التي سرنا فوقها، فإننا نستعيد استجاباتنا للسلم الأول، فلن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء، إن الوجود الكلي للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا، سوف ندفع الباب الذي يصدر صريرا بنفس الحركة، كما نستطيع أن نجد طريقنا في الظلام إلى حجرة السطح البعيدة، إن ملمس أصغر ترباس يظل باقيا في يدينا".


بيوت المدن ليست بيوتا حقيقية
"في باريس لا يوجد بيوت، السكان يعيشون في صناديق مفروضة عليهم"
(غاستون باشلار)

يرى باشلار أن البيت يحفظ ذكرياتنا من الضياع "الكثير من ذكرياتنا محفوفة بفضل البيت"، خصوصا إذا كان "بيتا حقيقيا"، وليس مجرد شقة صغيرة من طابق واحد، فالبيت الحقيقي عند باشلار يجب أن يكون أكثر تعقيدا، أن يحتوي على "قبو وعلية" وبالتالي أركان منعزلة ودهاليز وأروقة، بهذا تكون أحلامنا أكثر تحديدا، يكتب: "إن كل أماكن عزلتنا الماضية والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة والتي استمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن تبقى كذلك. الإنسان يعلم غريزيا أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلاق، يحدث هذا حتى عندما تختفي هذه الأماكن من الحاضر وحين نعلم أن المستقبل لن يعيدها إلينا، وحين نعلم أنه لم يعد هناك علية، ولا حجرة سطح، وأننا مرة أحببنا العلية".

إن باشلار يعتبر البيوت التي لا تمتلك جذورا وناطحات السحاب التي لا تمتلك أقبية، أمر لا يساعد الأشخاص الحالمين بالبيوت، يكتب: "من الشارع حتى السقف تتكدس الحجرات واحدة فوق الأخرى، بينما غيمة السماء التى لا أفق لها تحتوي المدينة بكاملها، إن علو مباني المدينة هو منظر خارجي فقط، فالمصاعد تلغي بطولة صعود السلالم، فلم يعد هناك معنى للعيش عاليا بقرب السماء، لقد أصبح البيت مجرد امتداد أفقي.. فالبيوت في المدينة لا تقام وسط محيطها الطبيعي، تصبح العلاقة بين البيت والفراغ مصطنعة. كل ما يحيط بها يصبح ميكانيكيا، والحياة الأليفة تنقلت هاربة في كل اتجاه".

"البيوت تشبه الأنابيب التى تشفط البشر داخلها بواسطة تفريغ الهواء"
(ماكس بيكار)

ما تركه لنا باشلار لكي نتأمله في الكتب التي تركها وراءه(3) هو كيف يمكن أن يتحول الإنسان من عالم إلى شاعر. باشلار "أكثر الشعراء فلسفة والفيلسوف الأكثر شاعرية" هكذا يطلق عليه، فمسيرته كانت مختلفة وغير متوقعة، فقد ظل دائما خارج التصنيف، باشلار (1884 - 1962) الذي درس فلسفة العلوم وقدم أفكارا متميزة في هذا الحقل تحولت عناوين كتبه من "العقل العلمي الجديد، تكوين العقل العلمي، العقلانية والتطبيقية، المادية العقلانية" إلى "جماليات المكان وشاعرية أحلام اليقظة"، من المثير أن القليلين ممن يقرأون كتبه في فلسفة الجمال لا يعرفون شيئا عن الجزء الأول من حياة هذا الرجل الغريب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى