ناجي ظاهر - هكذا يكون التخييل الادبي

يغلب على الظن أن الكاتب الشاب، وحتى مَن قطع شوطًا بعيدًا في مساحة الكتابة الأدبية، عادةً ما يطرح السؤال التالي: كيف يكون التخييل؟.. كيف أكتب قصة أو رواية أو سرديةً ذات قيمة وحضور.. ولعلّ ما يُوقع هذا الكاتب في مثل هكذا إشكالية، هو ما مرّ به خلال فتراته الدراسية، عندما كان مُعلّم اللغة يطلب منه أن يكتب موضوع إنشاء يُضمّنه شيئًا من قُدراته اللغوية التعبيرية، وهو ما يدفعه بالتالي إلى العلوق في دائرة التعبير الادبي أولًا ودائرة الذاتية المُفرطة ثانيًا. مِن تجارب كثيرة عبر التجوّل في حدائق التخييل الادبي، قراءةً وكتابةً، بإمكاني أن أدلي بدلوي في الإجابة على هذا السؤال المُحيّر.
*الابتعاد عن الذات: ضمن مُحاولتنا اقتحام عالم التخييل الادبي، يُطلبُ منّا أن نبتعد عن ذاتنا.. كيف يُمكن لنا أن نقوم بمثل هكذا فعل، ومعرف في الآن ذاته، أن الكتابة التخييلية، السردية بصورة خاصة، ما هي إلا وُجهة نظر يُدلي بها صاحبُها مُنطلقًا أو مُقلعًا في عالم التخييل؟.. في الإجابة على هذا السؤال، يُمكننا القول إن الكاتب مهما ابتعد عن ذاته إنما يقترب منها.. كيف يكون هذا؟... إنه يكون بانطلاقه التلقائي في عوالم متخيّلة، تُقرّبُه مِن ذاته وتُبعدُه عنها في نفس الوقت. مِن هكذا مُنطلق نقول إذا أردت أن تبتني عالمًا مِنَ التخييل الادبي، ابتعد عن ذاتك وابحر في مسارب هذا العالم.. عندها سيتم لك بناء عالم مِن التخييل. دون أن تنسى نفسك، بل بتأكيدك لها ولوجودها. ما أقوله يذكر بما قالته الكاتبة الامريكية نانسي كريس في كتابها عن فن كتابة الرواية وهو: إنس نفسك وابدأ كتابة كتابة روايتك.
*بناء عالم من التخييل: كيف يمكن لك أن تبتني عالمًا مِنَ التخييل الادبي؟.. كيف تبدأ كتابة نصّك القصصي أو الروائي؟.. في الاجابة البسيطة المتواضعة يُمكننا القول: ابدأ الكتابة مُنطلقًا مِن رؤية أو إحساس ما. إبحث عن الكلمة الأولى أو الجملة الأولى وانطلق، كما كان ماركيز يفعل، فالكلمة الأولى في الرواية هي الكلمة الأهم، وعندما تجدها كما يقول/ ماركيز، يُمكنك الانطلاق في عالم التخييل. لكاتبة أخرى هي ايزابيل اللندي رأي آخر في بدء الدخول إلى عالم التخييل، يقول هذا الرأي، الجُملة الأولى تفتح أبوابًا مُغلّقةً لعالمٍ فسيحٍ واسعٍ ومُترامي الأطراف.. هو عالم التخييل. أما الكاتبةُ الامريكية البارزة مارجريت اتوود، فإنها تُقدّم رأيًا آخر، تقول إنها عندما تشرع في التفكير بعالم التخييل، تشعر بأن عالمًا كاملًا مُتكاملًا ينهالُ بشخوصه ورؤاه على ذهنها. فتكون البداية. أما بيرسي لبوك صاحب الكتاب الاول وأكاد أقول الأخير في عالم الكتابة الروائية، فإنه لا يبتعد كثيرًا عمّا سبق وأردناه، وهو أن الكتابة التخييلية الروائية تبدأ مِن مَشهدٍ مُعبّر وبانورامي لما سيأتي بعده.. ثم تنفتح مغاليقُ عالمٍ كاملٍ مُتكامل.. وهذا يدفعُنا للانتقال إلى المحور الثالث مِن محاور التخييل الادبي.
*النمو الداخلي للنص السردي: بعد أن تتوفّر لدينا القُدرةُ على الابتعاد عن الذات، وبعد دخولنا أو ابتدئنا عالمًا مِنَ التخييل الادبي الروائي، نكون قد هيأنا الإمكانيات كلّها للشروع في الكتابة والاقلاع في عوالمها الفسيحة. لكن كيف يتمّ هذا؟.. تختلف إجابات الكُتاّب فيما يتعلّق بهذا المحور الهامّ مِن محاور الكتابة التخييلية، فمنهم مَن يرى أننا بإمكاننا أن نبتدئ الكتابة مُنطلقين مِن نُقطة النهاية- نجيب محفوظ وجنكيز ايتماتوف مثلا_، ومنهم مَن يرى غيرَ هذا، كأن نضع الصفات المُميّزة لكلّ من شخصيات ومرتكزات تخييلنا، وينطبق هذا أيضًا، على الكاتبين المذكورين آنفًا، غير أن جميع مَن مارسوا الكتابة التخييلية، أفادوا برأي ورؤية واحدة، تتمثّل في الآتي، وهو ان نواصل نسياننا لأنفسنا وندع العالم التخييلي ينمو ويتطوّر وفقَ مُعطياتهِ الخاصة به، ويتمّ هذا بالحَبكة السردية، بمعنى التسلسل المنطقي للأحداث، كما يرى فورستر في كتابه الهام جدًا عن فن كتابة القصة الموسوم بعنوان اركان القصة.
عالمُ التخييل الادبي بهذا، واسع جدًا، ومِن الصعب الإحاطةُ بمُختلف أبعاده وأطرافه، في عُجالةٍ سريعةٍ جدًا مثل هذه، غير أن الولوج اليه يعتمد، كما في كلّ عمل كبير، على القُدرة مُمثلةً في التدرب والمران، وعلى الشغف الذي لا بُدّ مِنهُ لإنجاز ما يستحق الاهتمام ويبقى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى