العلامة الدكتور السيد الجميلي - نفحات إيمانية... نهاية الدنيا .. (۱)

إن الدنيا مصيرها إلى الزوال والعدم والفناء .. هذه الحقيقة المقررة صرحت بها الأديان السماوية قاطبة، وعرفتها الأمم كافة حتى الوثنيين أنفسهم .. إذ كانوا مستيقنين من الموت والحياة بعد الموت من البعث والجزاء على فوارط الأعمال إن خيراً فخير وإن شرا فشر.
كيف يكون اعتقاد غير النهاية المحتومة وكل الدلائل والأمارات والأشراط العقلية والنقلية والحسية والمسموعة تؤكد هذا الإنتهاء .. والموت خير دليل على هذا، فلا يزايل البشر طرفة عين، بل إن كل برهة وجزيئة من جزئيات الزمن يعتورها ويملأ وجودها بناء وإحياء من جهة وهدم وتقويض من الجهة الأخرى وعلى الطرف المقابل.
مثلما يطل على الكون وليد جديد يحمل في أهابه وفي أطوائه وثناياه عناصر البناء والتشييد يكون ثمة محتضر في ناحية أخرى يلوح بكلتا يديه إلى الدنيا وقد أشاح بوجهه عنها واستدبرها وقد عافها وولاها قفاه، وصار إلى نهايته المقضي عليه بها.
وليس صواباً أن تكون النهاية العامة للدنيا مرادفاً لنهاية الكون على وجه التحديد، مثلما يوجد فرق جوهري بين قيامة أحاد الناس، ويوم القيامة الكبرى وهو يوم الفزع الأكبر يوم يقوم الناس لرب العالمين.
في الحديث المسند قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من مات فقد قامت قيامته».
وماذا يتبقى من الدنيا لمن مات؟
إن الموت يعتبر انفصالاً تاماً عن الحياة الدنيا، وانتقالاً إلى حياة أخرى لها قانون آخر مباين ومخالف لقانون الدنيا.
فالإنسان في حياته البرزخية إما أن يصير إلى نعيم أو إلى جحيم أعاذنا الله من عقابه وعذابه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القبر أما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
إن الموت وهو اللغز الأكبر عند الانسان، ولا يزال بل وسيبقى سر الأسرار المحجوبة التي حيل بيننا وبين حقيقتها وما يجرى فيها من أحداث رهيبة.
وإذا كانت الدنيا منتهية إلى هذه النهاية التي لا مفر منها، ولا محيص عنها، فكان خليقاً بالاإنسان أن يعطيها بقدر قيمتها وألا يتعلق بها التعلق التام الكامل الذي يطغى على أمره وحياته كلها.
إنه ليس بعاقل من يضحي بالباقية الأبدية ذات النعيم الأبدي والمتعة المتصلة اللانهائية لقاء دنيا ظاهرة الغرور، سريعة الإنحسار، معدومة الأمان ليس لها عهد ولم يؤنس منها قرار أو ثبات .. فكم غنيا موسراً يصير فقيراً معدماً معسراً، وكم من عزيز قوي كان الذل والوهن سريعين إليه، والصيرورة إلى الهوان بما لم يكن متوقعاً ولا مرقوبا بحال.
وبين ارتفاع وانخفاض تسير بارجة الحياة الدنيا، تناوشها وتتراوحها الأمواج العاتية والعواصف القواصف بين جزر ومد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأعقل الناس وأحصفهم وأزكنهم فهماً وعلماً، وأمضاهم بصيرة وأجلاهم بصرا وأنفذهم استبصاراً من يتعظون بالموت، ويجعلون منه مذكراً وواعظاً لا يبرح خوالجهم، ولا يزايل أخلادهم، ولا يند عن دائرة فكرهم من قريب أو بعيد .. هذا أبو ذر الصحابي الجليل عندما دفن ابنه وواراه التراب، وقف على قبره باكيا وهو يقول :
بكيتك يا بني بدمع عيني
ولن يغني بكائي عنك شيا
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيا
لابد إذن أن يقف العقل والفهم على حقيقة هذه الدنيا، ولا يفرق في حبها، ولا يسرف في التأميل فيها ولا التعويل عليها فإن متاعها زائل والمفتون بها مغرور يتعلق بسراب واهم لا ظل من الحقيقة له.
قيل : لما جعل الأسكندر في تابوت من ذهب، تقدم إليه أحد الحكماء
فقال : كان الملك يخبئ الذهب، فقد صار الآن الذهب يخبئه.
وتقدم إليه آخر الناس يبكون ويجزعون فقال : حركنا بسكونه.
وتقدم إليه آخر فقال : كان الملك يعظنا في حياته وهو اليوم أوعظ منه بالأمس.
وتقدم إليه آخر فقال : قد طاف الأراضين وتملكها ثم جُعِل منها في أربع أذرع.
ووقف عليه آخر فقال : أنظر إلى حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام وقد انجلي.
ووقف عليه آخر فقال : ما لك لا تقل عضوا من أعضائك، وقد كنت تستقل ملك العباد؟
وقال آخر : مالك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد؟
وقال آخر : أمات هذا الميت كثيراً من الناس، لئلا يموت وقد مات الآن.
وقال آخر ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس، مع شدة خضوعك اليوم؟
وقالت بنت دارا - زوجة الأسكندر - ما كنت أعلم (ما علمت) أن غالب أبي يُغلب.
وقال رئيس الطباخين : قد نضدت النضائد، وألقيت الوسائد ونصبت الموائد، ولست أرى عميد المجلس.
إن مسك الختام ما قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقيقة الدنيا وبيان حقارتها وهوانها وضعة شأنها في قوله صلى الله عليه وسلم : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وقوله : ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
والحمد لله رب العالمين .

* من كتاب "علامات القيامة وأشراطها" تأليف سماحة العالم الموسوعى الجليل الدكتور السيد الجميلي رحمه الله تعالى رحمة واسعة
🤲

اللهم تقبل من أبى صلاته، وصيامه لك، وسائر طاعاته، وصالح أعماله، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام، واجعله من الفائزين، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك محمد ﷺ .. يا رب العالمين
د. دينا الجميلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى