د. أحمد الحطاب - الجُرأةُ السياسية المفقودةُ

عندما نقول: "فلانٌ له ما يكفي من الجرأة"، فالمقصود هو أن هذا الفلانَ يتوفَّر على جرعةٍ كافية من الشجاعة courage والإقدام hardiesse. وعندما نقول : "فلانٌ له ما يكفي من الجرأة السياسية لمواجهة الغير أو لمواجهة الأفكار"، فالمقصود هو أن هذا الفلانَ السياسي له ما يكفي من المعرفة والعلم لمواجهة الأفكار بالأفكار والحُجة بالحجة، وخصوصا، لإثارة مواضيع، وأخصُّ بالذكرِ المواضيع السياسية، التي لا يَجْرُأُُ كثيرٌ من السياسيين على إثارتِها، أو حتى الحديث فيها. والسياسيون الجِرِّيئون audacieux يجعلون من مثلِ هذه المواضيع هدفاً لنضالٍ militantisme طال به الزمان أم قصُرَ.

وهنا، سأُعطي مثالاً حيّاً للمواضيع التي لا يجرّأُ التَّحدُّثَ عنها إلا السياسيون المحنَّكون والذين، بالنسبة لهم، لا شيءَ يعلو على مصلحة الشعب والوطن. علما أن هذا النوعَ من السياسيين نادرٌ جدا، وإن وُجِدَ، كثيرا ما يتعرَّض للمُضايقات. والمثالُ الذي أريدُ ذكرَه، هو "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلادُ، بإنصافٍ، على جميع المواطنين". أو بعبارة أخرى، أن يستفيدَ من هذه الثروة التي تُنتِجها البلادُ جميع المواطنين، كلٌّ حسب ما يبدلُه من جُهد ينتفع به وينفع به الغيرَ.

وهنا، لا بدَّ من التَّذكير أن تناولَ مثل هذه المواضيع، لا يُعتَبَر خروجاً عن القانون. بل إنه مجرَّد تعبيرٍ عن رأيٍ أو عن تفكير تطرحُه السياسةُ المُتحضِّرة والمهمومة بمصلحة بلدانها. بل لا يجرُأُ على طرحِه إلا السياسيون الجِرِّيئون والمقاديم politiques audacieux et hardis، علماً أن دستورَ البلاد، في فصلِه الخامس والعشرين (25) ينصُّ على ما يلي : "حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها". وينصُّ، كذلك، على ما يلي : "حرية الإبداع والنشر والعرض في مجالات الأدب والفن والبحث العلمي والتقني مضمونة".

السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هو الآتي : "لماذا الأغلبية الساحقة من السياسيين لا يجرؤون على طرحِ مشكلِ "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين؟".

عدم طرحِ أغلبيةُ السياسيين لهذا السؤال له أسبابٌ كثيرة. أولاً، السياسيون يعتبرون أن طرحَ مثل هذه المواضيع للنقاش، سيفٌ ذو حدَّين. ثانياً، من بين هذه الأسباب، هناك ما من شأنه أن يضرَّ بمصالح السياسيين انفسهم، ومنها ما من شأنه أن يُجبِرَ السياسيين على التَّطرُّق لمشاكل اجتماعية واقتصادية يُفضِّلون السكوتَ عنها. لماذا؟

لأن السياسيين يعتبرون أن التَّطرُّقَ لمثل هذه المواضيع سيُوقِظ وعيَ الناس ويجعلهم يطالبون بحقوق يضمنها دستورُ البلاد. فما هي هذه الأسباب التي لا يتجرَّأُ مُعظمُ السياسيين للحديثَ عنها؟

قبل الجواب على هذا السؤال، لا بد من توضيحٍ لما أقصده ب"توزيع بإنصاف" وكذلك ما أقصده ب"الثروة".

أولاً، الإنصاف ليس هو المساواة. الإنصاف هو أن ينالَ شخصٌ ما ما يستحقُّه من حقوق. وما يستحقه هذا الشخصُ من حقوق يجب أن يتناسبَ مع الجُهد الذي يبدلُه في الحياة، أو إن شئنا، يجب أن يتناسبَ مع نوعية العمل الذي يقوم به. و هذا يعني أن الحقوقَ لا تُمطِرها السماء. بل لا بدَّ من بدل الجُهد لنيلها. وبعبارة أخرى، الحقوق مُقابلَ الجُهد. وهذا يعني أنه يجب أن يَنعَمَ جميع الناس، وبدون استثناء، بما يُسمَّى تكافؤ الفُرص égalité des chances لتمكينهم من الوصول إلى ما يستحقُّونه من حقوق. وإذا تكافأت الفُرص، فكل شخصٍ سينال، إن استطاعَ، ما يستحقُّه من حقوق. والإنصاف لا يعني أن مكافأة الجُهد أو العمل ستكون متساوية. بل ستكون مُنصِفة. وخير مثال يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو اختلافُ الأجور التي ينالها الناس مقابل عملهم.

أما الثروة التي تُنتِجها البلادُ، إلى حد الآن، تُحْتَسَبُ بالناتج الداخلي الخام Produit Intérieur Brut PIB. والناتج الداخلي الخام يُحتَسَب بما تنتِجه البلادُ من خيرات biens وما يترتَّب عن الخدمات من قيماتٍ مضافة. فعندما يكون الناتجُ الداخلي الخام مرتفعا بالنسبة للسنة الفارطة، فهذا يعني أن التنميةَ، بجميع تجلِّياتِها أتت أُكلَها، أي أن هناك نموا اقتصاديا يُعبَّرُ عنه بنسبةٍ مائوية معيَّنة. غير أن الثروةَ الحقيقية التي تُنتِجها البلادُ هي تلك التي تخلق القيمات المضافة، وبالأخص، تخلق مناصب الشغل وتمكِّن هذه البلاد من توفير العُملة الصعبة ليكونَ الميزان التجاري la balance commerciale متوازنا، أي أن الصادرات exportations تُغطي من حيث القيمة الاستيرادات importations. غير أن ناتِجَنا الداخلي الخام، رغم زيادتِه من سنةٍ إلى أخرى، فإن نسبةَ البطالة في تزايدٍ مستمر. فهل اقتِصادُنا يُنتِج الثروة أم لا؟

وكيفما كان الحالُ، فالمتعارفُ عليه هو أنه حينما تكون نسبة النمو إيجابية، فهذا معناه أن البلادَ أنتجت ثروةً. وهذه الثروة هي التي، من المفروض، أن يستفيدَ منها المواطنون. وكثيرٌ من السياسيين لا يريدون الخوضَ في موضوع "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين". لماذا؟

أولا، لأن كثيراً من السياسيين لهم مصالح اجتماعية واقتصادية لا يريدون، على إطلاق، ضياعَها. بل إن نسبةً لا يُستهان بها من السياسيين يُحسبون من الأغنياء، والأغنياء لا يفكِّرون إلا في الزيادة في غِناهُم وفي ثرواتهم. فكيف للأغنياء أن يفكِّروا في "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين، وهم أول مَن يستفيد منها"؟ بل إن كثيرا من السياسيين الأغنياء يحاولون الجمعَ بين السلطة والمال ليُشكِّلوا لوبياً قوياً، سياسياً واقتصدياً.

ثانيا، الخوض في موضوع "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين"، سيُحبِر السياسيين على إعادة النظر في كثير من القضايا، وخصوصا، القضايا الاقتصادية. وأهم قضية لا يريد الأغنياء إعادةَ النظر فيها، هي إعادة النظر في "الوعاء الضريبي" assiette fiscale. وبعبارة أوضح أن تُفرضَ ضريبة إضافية على الأغنياء لأنه لولا ما بدلَه ويبدلُه عامة الناس من جٌهدٍ لما تمكَّن الأغنياء من رَكْمِ الثروات الهائلة.

والدليل على عدم الخوض في موضوع "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين"، هو أن قانون الإضراب له ما يزيد عن عشرين سنة وهو مطروحٌ للنقاش في مجلسي البرلمان. والنتيجة أنه، إلى يومنا هذا لم يتمكَّن البرلمانيون من إخراجه إلى حيز الوجود. لماذا؟

لأنه، بكل بساطة، من بين السياسيين، يوجد رجال أعمال وأغنياء يريدون أن يحافظوا على مصالحهم، علما أن حقَّ الإضراب مكفولٌ دستورياً. وللتذكير، لولا غِنى عددٍ كبيرٍ من الأغنياء لَما استطاعوا أن يصلوا إلى قبة البرلمان ويُشكِّلوا، داخلَه، كما سبق الذكرُ، لوبيا قوياً. و وجودُهم في البرلمان هو الذي يحول دون مناقشة المواضيع السياسية الساخِنة مثل "توزيع الثروة التي تُنتِجها البلاد، بإنصافٍ، على جميع المواطنين".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى