يظل أسامة مهران واحدًا ممن أسسوا لقصيدة التفعيلة منذ السبعينيات، وهو أحد رواد جماعة إضاءة ٧٧ التي ساهمت في تثوير الشعر المصري والعربي المعاصر. ولقد حمل شاعرنا – مع مجايليه- أعباء المرحلة الحرجة في عمر الوطن، وفي وقت قاسٍ من عمر الأمة، والقومية العربية، وفي أوقات النضال الوطني بالكلمة والفكر والرفض، لكن مرار المرحلة أضفي بظلاله على كثيرين، وهاجر العصفور الحزين بعد أن أعطي، ولم يجن إلا ثمار الغربة والهجر والبعاد والحزن، وناله من الأهوال ما ناله، يوم أن كانت الحرية اسمًا غريبًا عن شعوبنا العربية.
ولقد لاقي ككثيرين أهوالاً وعواصف، لكنه ظل مناضلاً، يكتب القصيدة التي تشبه رصاصة، ويدبج الحروف الرافضة، التي ترفض الخنوع، والخضوع، وتستشرف شمس الحرية للعروبة الضالة، في منافي العالم والكون والحياة.
وفي ديوانه: “عالم افتراضي” نراه يحاول أن يزيح عن كاهله مكابداته، ويلحق بركب السعداء الذين رآهم -ليس في العالم الحقيقي- بل في العالم الإفتراضي، عبر الشبكة الكونية.
فجاءت قصائده تحمل ثيمات الأصالة، وعبق المعاصرة، وتتشوَّف لمعاصرة جديدة، ولو عبر المخيال، وعبر لغة القصيدة الستينية، والسبعينية السامقة، لهذا رأيناه يكتب مقدمة ديوانه بنفسه، كي لا يُجمل الآخرين عبء معانيه، أو ليجنبهم حرج الكتابة عن جراح الذات، واستشرافات الحزن، يقول: (من هنا ارتأيت أن أكتب مقدمة ديواني الرابع بقلمي، بما يفسر أولًا مغزى عنوان: عالم افتراضي، لماذا هو هكذا، عالمًا، ولماذا هو هكذا، افتراضيًا؟ لماذا لا يكون واقعيًا، مرئيًا، محسوسًا وملموسًا ومُعاشًا بحميمية جسدية، لا حميمية حسية أو خيالية؟ لماذا هي الشاشات مكان الملعب الكوني الكبير؟ ولماذا هو المجهر الذي يرى من دون عين مجردة، ما لا يمكن أن تراه العين المجردة؟
هل هي المغالاة أو المبالغة أو التهويل عندما نحاول أن نكتب جزءًا من تجربة، أو حين نضطر إلى الدخول في منطقة سحرية خلابة من دون النزول إلى عالم البشرية المتجسدة صوتًا وصورًا وحركة وحياة؟ قد يكون، لكنه الوعي واللاوعي منطقة ستظل افتراضية لكنها ستظل أيضًا محفوفة بالمخاطر، بالسطو الفكري المسلح، بالنقمة المدججة بالألغام والأحزمة الناسفة والقنابل الموقوتة غير المؤقتة، إنها كذلك حالة من الرعب المشفوع.. إنه الانضباط الذي يمر بالفوضى غير الخلاقة، أو بالكوارث حين تهب مع إعصار غير سابق للتجهيز، من هنا آثرت أن أغلق صندوقي على نفسي، لا أستعين بصديق قد يتحمل في نهاية المطاف وزر ما يمكن أن أقترفه داخل سياق، أو خطأ سأظل أحمله، ولو تحمله الآخرون.
ومن هنا ارتأيت أن النماذج الجاهزة، والقوالب المتكررة قد تعيد اكتشاف ما تم اكتشافه في سياقات أخرى وفي تجارب لا تتحمل الكتابة بالوكالة).
وشاعرنا أسامة مهران مُتَلبِّسٌ بالوطن حتى الثمالة، لا يشتم سوي نكهته، ولا يتعطر إلا برائحته، ولا يشتم سواه، فهو الحقيقة والحلم، والذات والمكاشفات، والوجع والمكابدات، وهو الدم في الشريان، والماء في العظام، يشكوه إليه ويتغيَّاه، ويهرب منه إليه، ويسكن فيه رغم كل الجراح، ومرار الأيام والغربة والبعاد، وقسوة الماضي والحرمان، وعطش الذات للوطن البعيد القريب، فهو يتهجاه مع الأبجدية، ويتغنى بحروف العروبة والقومية، ويظل يصوح في البلدان، ويراه في الصحارة والوديان، ويراه المحبوبة التي تخش داخله، وتعبره بكل خلاياها وجسدها الدافيء، ومع رحيله عن المكان، إلا أنه حاضر لديه وساكن بين أضلعه، في كل وقت ومكلن وزمان، يقول :
(لمْ آَخُذ الوَقْتَ مَعِي / لمْ أَحمِلَكْ/ فِيْ أضْلُعِي/ لكِنَّنِي اكتَفَيْتُ أنْ أَطِيرْ/ رَضِيتُ بالنِّدَاءِ/ حيثُ لحظةُ الغَدِيِرْ/ حيثُ قُبْلَةُ الوَدَاعِ/ وانْتِكَاسَةُ المصيرْ/ حيْثُ كانتِ الأيَّامُ/ في خُيَلائِهَا/ وفي دَمَاثَةِ الأجرامِ/ في رِيعَانِهَا/ كأنَّني اكتَفَيْتُ أنْ أطِيرْ
أنْ أُعانِقَ الطُّيورَ/ فيْ روضَاتِهَا/ وأربِطَ الأحزَانَ في خِيُوليَ/ وأقْطَعَ الأرْحَامَ في خَيَاليَ/ وأرتَضِي في الرِّحلةِ البَعيدة/بعصمةٍ وَحيِدة).
وفي قصيدته: “صاحب المعالي الوطن”، نراه يعاتب الوطن الذي أدار له ظهره، ككثيرين شردتهم العزلة، والمنافي، والغياب، فغدوا صرعى، أو شتاتا منفيين عن الدفء، بينما ينعم آخرون، غرباء، بخيرات الوطن، فلم يقدموا له، ما قدمه هو وغيره، من بطولات وتضحيات، ومع هذا فهو يعشق الوطن، رغم العتاب القاسي، ورغم المرار، يقول:
أنتَ أدرتَ الوجهَ إليْنَا/مَا بينَ سِفوُحٍ وتلُولْ/وأقمتَ الحّدَّ عليْنَا/وخطبتَ الوُدَّ السَّاجدَ/بينَ يديْنَا/لم نركعْ حولكَ مرفوعِي الأيدِي/معصوبِي العَينينْ
لمْ نَضرِبْ أخمَاسًا في أسدَاسٍ/ أو كفًا فِي كفَّينْ/ كمْ كُنَّا نشتَاقُكَ/ فنعودُ كمَا كنَّا/ أطفالًا تلهُو/ فيْ أحدَاقِكَ/ فلماذَا تأتِي اليومَ وحِيدًا/ وشريدا؟/ ولماذَا تغفلُ أيَّ سَلامٍ/ يتحصَّنُ فيهِ فِراقُكَ ؟/ ولمَاذَا لا تأتِي اليومَ وحيِدًا/ أو صِنْديِدًا/ لتطيح بمَنْ كانوُا سَندًا/ وبمنْ كانُوا مَدَدًا/ وبمنْ كانُوا تِريَاقَكَ؟/ ولماذَا تأتِي اليَومَ/ أو لا تَأتِي؟/ وعمومُ النَّاسِ المنكفئيِنَ علىَ أعتَابِكَ/ ينتظرونَ بَهَاءً مَلغِيَّا/ وهواءً منسِيَّا/ منْ أسبَاطِكَ/ اليومَ بعيدٌ عنْ يومٍ آخرَ/ عنْ قُدسِ الأقدَاسِ/ المطعونةِ برمَاحٍ/ منْ آفَاقِـي/ والمعبودَةِ برياحٍ
في آفَاقِكَ/ أنتَ الفَاعِلُ/ في كلِّ متَاهَاتِ حيَاتِي/ فيْ لحظةِ إفصَاحٍ مِثْلِي/ عنْ حُلوِ مرَارَاتي/ عن عزمٍ بازغْ/ منْ بينَ قُصَاصَاتِ الأورَاقِ/ الموبوءَةِ بالكلمَاتِ
وكأنَّكَ ظُلمةُ أيَّامِي/ يا فُرصَةَ عُمرٍ/ ضاعَتْ مِن أحلَامِي/ كيفَ أُلاقِيكَ وأنْتَ
الغافِلُ عنِّي/ والطَاعِنُ ظهرِيْ/ والقَاطِعُ أرْحَامِي؟/ كيفَ أُسَامحكَ؟).
ولنلحظ جماليات التراكب عبر المعاني والصور الحزينة، ومرار الغربة والأيام، فهو يسترق من الوقت الذكري، ويحاول أن يقف على عتبات العالم من جديد يطرح أحزانه وأفراحه معًا، ليعيد اكتشاف الحقيقة داخل ذاته الموجوعة، يقول:
حينَ أُنَصِّبُكِ فوقَ مِنَصَّةِ أرقَامِي/وأمامَ جُنُونِ الدَّمعِ/المتَجَمِّرِ في الوِجدَان
أستَشْفِى في نَفسِي/ وأحمِلُ مَا يتعثَّرُ مِنْ كلمَاتِي/ أوْ مَا يتلكَّأُ منْ خُطواتِي/ أو مَا يتمَادَى في شَطحَاتِي/ حينَ أعودُ إليْكِ/ بباقَةِ وردٍ/ أوْ قِطعَةِ حلوَىَ/ أوْ بالزَّمنِ العَائدِ/ منْ فرصَةِ عُمرٍ للتوبةِ/ بعدَ العصيَانْ/ لمْ أمْلُكْ في مِيلادِكِ/غيرَ الشَّوكِ الُمتَحشْرِجِ/ فيْ كفِّي/ غيرَ الذكرَىَ المهزوزَةِ/ فيْ ضعفِي/غيرَ الوَشْمِ المحفُورِ باسْمِكِ رغمًا عَنِّي/وعنكِ/رَغْمًا عنْ أنْفِي/أحببتُكِ).
إنه الوفاء للراحلة المقيمة، والغائبة الحاضرة، التي يخاطبها عبر رؤاه، ومواجده، إذ لم يعد سعيدًا، أو حزينًا، لكنه يتأفف علي جمر النار، ويستعذب الألم والجراح والفراق، ويشكو للكون وجعه الممتد، يقول: (ميلادِي/لحظةَ إبهارٍ كبرَىَ/حالةُ ميلادٍ أخرىَ/لقتيلٍ يهواه قتيلْ).
إن الميلاد هنا لا يستدعي الحياة، بل يستدعي الموت، فالميلاد والموت سيان لحظة قتل الذات، والقهر لديه.
وفي القصيدة الأشهى: “عالم افتراضي” -عنوان الديوان- نلمح جماليات الصورة، والمعني العميق المتواشج، والمحمل بمرموزات زاعقة في الروح، عبر قلب ينبض بالحب، ويُهيء الفضاء الروحي لعالم جديد، جميل، افتراضي، فهو يتشهَّى الجمال، يراه ولا يلمسه، ينظر إليه من بعيد ولا تطاله يداه، فيهيم في الأبدية كمتصوف، عبر لا ميتافيزيقا الذات المقروحة الحزينة، يقول:
(هيأتُكِ لي/ وأضفتُكِ في صفْحَتِيَ السِّريَّةْ/عبرَ فضَاءَاتٍ قُصْوَىَ/ وخلايَا سِحريَّةْ/ وكماماتٍ تعويْ/ فوقَ رُؤوسٍ مقطوعةْ/ وأراجيلِ شِفاهٍ/ موجوعَةْ/ وعماماتٍ/ ومكاحلِ شَرقيَّة/ هيأتُكِ/ لتكونِي ضمنَ صدَاقاتِي/ وكليمَ حمَاقَاتِي/ ويقينَ متَاهَاتِي/ وضمنَ مُعادلتِي اليَومِيَّة/ ما أجمَلَكِ/ حينَ تغضِّينَ الطرفَ/ وحينَ تلُمِّينَ الشَّوفَ/ وحينَ أُجَمِّدُ عُضويَّتَكِ/ المجنونةَ في الأَبَديَّة/ انطفَأَ الِمصبَاحْ/ وانكسَرَ القَدَحُ الصَّادِحُ/ في حُبِّكِ / وارتَبكت باقِي الأقدَاحْ).
إنها فلسفة الشعر عبر معادلة الذات، وتنويعات أصدائها المارَّة في الكون، والمحلقة حول الروح الحزينة، فقد انطفأ المصباح، وارتبكت الأقداح، وغدا الحب سرابًا، يبكيه، رغم افتراضاته التي تَغيَّاها.
حاتم عبدالهادي السيد
ناقد مصري
ولقد لاقي ككثيرين أهوالاً وعواصف، لكنه ظل مناضلاً، يكتب القصيدة التي تشبه رصاصة، ويدبج الحروف الرافضة، التي ترفض الخنوع، والخضوع، وتستشرف شمس الحرية للعروبة الضالة، في منافي العالم والكون والحياة.
وفي ديوانه: “عالم افتراضي” نراه يحاول أن يزيح عن كاهله مكابداته، ويلحق بركب السعداء الذين رآهم -ليس في العالم الحقيقي- بل في العالم الإفتراضي، عبر الشبكة الكونية.
فجاءت قصائده تحمل ثيمات الأصالة، وعبق المعاصرة، وتتشوَّف لمعاصرة جديدة، ولو عبر المخيال، وعبر لغة القصيدة الستينية، والسبعينية السامقة، لهذا رأيناه يكتب مقدمة ديوانه بنفسه، كي لا يُجمل الآخرين عبء معانيه، أو ليجنبهم حرج الكتابة عن جراح الذات، واستشرافات الحزن، يقول: (من هنا ارتأيت أن أكتب مقدمة ديواني الرابع بقلمي، بما يفسر أولًا مغزى عنوان: عالم افتراضي، لماذا هو هكذا، عالمًا، ولماذا هو هكذا، افتراضيًا؟ لماذا لا يكون واقعيًا، مرئيًا، محسوسًا وملموسًا ومُعاشًا بحميمية جسدية، لا حميمية حسية أو خيالية؟ لماذا هي الشاشات مكان الملعب الكوني الكبير؟ ولماذا هو المجهر الذي يرى من دون عين مجردة، ما لا يمكن أن تراه العين المجردة؟
هل هي المغالاة أو المبالغة أو التهويل عندما نحاول أن نكتب جزءًا من تجربة، أو حين نضطر إلى الدخول في منطقة سحرية خلابة من دون النزول إلى عالم البشرية المتجسدة صوتًا وصورًا وحركة وحياة؟ قد يكون، لكنه الوعي واللاوعي منطقة ستظل افتراضية لكنها ستظل أيضًا محفوفة بالمخاطر، بالسطو الفكري المسلح، بالنقمة المدججة بالألغام والأحزمة الناسفة والقنابل الموقوتة غير المؤقتة، إنها كذلك حالة من الرعب المشفوع.. إنه الانضباط الذي يمر بالفوضى غير الخلاقة، أو بالكوارث حين تهب مع إعصار غير سابق للتجهيز، من هنا آثرت أن أغلق صندوقي على نفسي، لا أستعين بصديق قد يتحمل في نهاية المطاف وزر ما يمكن أن أقترفه داخل سياق، أو خطأ سأظل أحمله، ولو تحمله الآخرون.
ومن هنا ارتأيت أن النماذج الجاهزة، والقوالب المتكررة قد تعيد اكتشاف ما تم اكتشافه في سياقات أخرى وفي تجارب لا تتحمل الكتابة بالوكالة).
وشاعرنا أسامة مهران مُتَلبِّسٌ بالوطن حتى الثمالة، لا يشتم سوي نكهته، ولا يتعطر إلا برائحته، ولا يشتم سواه، فهو الحقيقة والحلم، والذات والمكاشفات، والوجع والمكابدات، وهو الدم في الشريان، والماء في العظام، يشكوه إليه ويتغيَّاه، ويهرب منه إليه، ويسكن فيه رغم كل الجراح، ومرار الأيام والغربة والبعاد، وقسوة الماضي والحرمان، وعطش الذات للوطن البعيد القريب، فهو يتهجاه مع الأبجدية، ويتغنى بحروف العروبة والقومية، ويظل يصوح في البلدان، ويراه في الصحارة والوديان، ويراه المحبوبة التي تخش داخله، وتعبره بكل خلاياها وجسدها الدافيء، ومع رحيله عن المكان، إلا أنه حاضر لديه وساكن بين أضلعه، في كل وقت ومكلن وزمان، يقول :
(لمْ آَخُذ الوَقْتَ مَعِي / لمْ أَحمِلَكْ/ فِيْ أضْلُعِي/ لكِنَّنِي اكتَفَيْتُ أنْ أَطِيرْ/ رَضِيتُ بالنِّدَاءِ/ حيثُ لحظةُ الغَدِيِرْ/ حيثُ قُبْلَةُ الوَدَاعِ/ وانْتِكَاسَةُ المصيرْ/ حيْثُ كانتِ الأيَّامُ/ في خُيَلائِهَا/ وفي دَمَاثَةِ الأجرامِ/ في رِيعَانِهَا/ كأنَّني اكتَفَيْتُ أنْ أطِيرْ
أنْ أُعانِقَ الطُّيورَ/ فيْ روضَاتِهَا/ وأربِطَ الأحزَانَ في خِيُوليَ/ وأقْطَعَ الأرْحَامَ في خَيَاليَ/ وأرتَضِي في الرِّحلةِ البَعيدة/بعصمةٍ وَحيِدة).
وفي قصيدته: “صاحب المعالي الوطن”، نراه يعاتب الوطن الذي أدار له ظهره، ككثيرين شردتهم العزلة، والمنافي، والغياب، فغدوا صرعى، أو شتاتا منفيين عن الدفء، بينما ينعم آخرون، غرباء، بخيرات الوطن، فلم يقدموا له، ما قدمه هو وغيره، من بطولات وتضحيات، ومع هذا فهو يعشق الوطن، رغم العتاب القاسي، ورغم المرار، يقول:
أنتَ أدرتَ الوجهَ إليْنَا/مَا بينَ سِفوُحٍ وتلُولْ/وأقمتَ الحّدَّ عليْنَا/وخطبتَ الوُدَّ السَّاجدَ/بينَ يديْنَا/لم نركعْ حولكَ مرفوعِي الأيدِي/معصوبِي العَينينْ
لمْ نَضرِبْ أخمَاسًا في أسدَاسٍ/ أو كفًا فِي كفَّينْ/ كمْ كُنَّا نشتَاقُكَ/ فنعودُ كمَا كنَّا/ أطفالًا تلهُو/ فيْ أحدَاقِكَ/ فلماذَا تأتِي اليومَ وحِيدًا/ وشريدا؟/ ولماذَا تغفلُ أيَّ سَلامٍ/ يتحصَّنُ فيهِ فِراقُكَ ؟/ ولمَاذَا لا تأتِي اليومَ وحيِدًا/ أو صِنْديِدًا/ لتطيح بمَنْ كانوُا سَندًا/ وبمنْ كانُوا مَدَدًا/ وبمنْ كانُوا تِريَاقَكَ؟/ ولماذَا تأتِي اليَومَ/ أو لا تَأتِي؟/ وعمومُ النَّاسِ المنكفئيِنَ علىَ أعتَابِكَ/ ينتظرونَ بَهَاءً مَلغِيَّا/ وهواءً منسِيَّا/ منْ أسبَاطِكَ/ اليومَ بعيدٌ عنْ يومٍ آخرَ/ عنْ قُدسِ الأقدَاسِ/ المطعونةِ برمَاحٍ/ منْ آفَاقِـي/ والمعبودَةِ برياحٍ
في آفَاقِكَ/ أنتَ الفَاعِلُ/ في كلِّ متَاهَاتِ حيَاتِي/ فيْ لحظةِ إفصَاحٍ مِثْلِي/ عنْ حُلوِ مرَارَاتي/ عن عزمٍ بازغْ/ منْ بينَ قُصَاصَاتِ الأورَاقِ/ الموبوءَةِ بالكلمَاتِ
وكأنَّكَ ظُلمةُ أيَّامِي/ يا فُرصَةَ عُمرٍ/ ضاعَتْ مِن أحلَامِي/ كيفَ أُلاقِيكَ وأنْتَ
الغافِلُ عنِّي/ والطَاعِنُ ظهرِيْ/ والقَاطِعُ أرْحَامِي؟/ كيفَ أُسَامحكَ؟).
ولنلحظ جماليات التراكب عبر المعاني والصور الحزينة، ومرار الغربة والأيام، فهو يسترق من الوقت الذكري، ويحاول أن يقف على عتبات العالم من جديد يطرح أحزانه وأفراحه معًا، ليعيد اكتشاف الحقيقة داخل ذاته الموجوعة، يقول:
حينَ أُنَصِّبُكِ فوقَ مِنَصَّةِ أرقَامِي/وأمامَ جُنُونِ الدَّمعِ/المتَجَمِّرِ في الوِجدَان
أستَشْفِى في نَفسِي/ وأحمِلُ مَا يتعثَّرُ مِنْ كلمَاتِي/ أوْ مَا يتلكَّأُ منْ خُطواتِي/ أو مَا يتمَادَى في شَطحَاتِي/ حينَ أعودُ إليْكِ/ بباقَةِ وردٍ/ أوْ قِطعَةِ حلوَىَ/ أوْ بالزَّمنِ العَائدِ/ منْ فرصَةِ عُمرٍ للتوبةِ/ بعدَ العصيَانْ/ لمْ أمْلُكْ في مِيلادِكِ/غيرَ الشَّوكِ الُمتَحشْرِجِ/ فيْ كفِّي/ غيرَ الذكرَىَ المهزوزَةِ/ فيْ ضعفِي/غيرَ الوَشْمِ المحفُورِ باسْمِكِ رغمًا عَنِّي/وعنكِ/رَغْمًا عنْ أنْفِي/أحببتُكِ).
إنه الوفاء للراحلة المقيمة، والغائبة الحاضرة، التي يخاطبها عبر رؤاه، ومواجده، إذ لم يعد سعيدًا، أو حزينًا، لكنه يتأفف علي جمر النار، ويستعذب الألم والجراح والفراق، ويشكو للكون وجعه الممتد، يقول: (ميلادِي/لحظةَ إبهارٍ كبرَىَ/حالةُ ميلادٍ أخرىَ/لقتيلٍ يهواه قتيلْ).
إن الميلاد هنا لا يستدعي الحياة، بل يستدعي الموت، فالميلاد والموت سيان لحظة قتل الذات، والقهر لديه.
وفي القصيدة الأشهى: “عالم افتراضي” -عنوان الديوان- نلمح جماليات الصورة، والمعني العميق المتواشج، والمحمل بمرموزات زاعقة في الروح، عبر قلب ينبض بالحب، ويُهيء الفضاء الروحي لعالم جديد، جميل، افتراضي، فهو يتشهَّى الجمال، يراه ولا يلمسه، ينظر إليه من بعيد ولا تطاله يداه، فيهيم في الأبدية كمتصوف، عبر لا ميتافيزيقا الذات المقروحة الحزينة، يقول:
(هيأتُكِ لي/ وأضفتُكِ في صفْحَتِيَ السِّريَّةْ/عبرَ فضَاءَاتٍ قُصْوَىَ/ وخلايَا سِحريَّةْ/ وكماماتٍ تعويْ/ فوقَ رُؤوسٍ مقطوعةْ/ وأراجيلِ شِفاهٍ/ موجوعَةْ/ وعماماتٍ/ ومكاحلِ شَرقيَّة/ هيأتُكِ/ لتكونِي ضمنَ صدَاقاتِي/ وكليمَ حمَاقَاتِي/ ويقينَ متَاهَاتِي/ وضمنَ مُعادلتِي اليَومِيَّة/ ما أجمَلَكِ/ حينَ تغضِّينَ الطرفَ/ وحينَ تلُمِّينَ الشَّوفَ/ وحينَ أُجَمِّدُ عُضويَّتَكِ/ المجنونةَ في الأَبَديَّة/ انطفَأَ الِمصبَاحْ/ وانكسَرَ القَدَحُ الصَّادِحُ/ في حُبِّكِ / وارتَبكت باقِي الأقدَاحْ).
إنها فلسفة الشعر عبر معادلة الذات، وتنويعات أصدائها المارَّة في الكون، والمحلقة حول الروح الحزينة، فقد انطفأ المصباح، وارتبكت الأقداح، وغدا الحب سرابًا، يبكيه، رغم افتراضاته التي تَغيَّاها.
حاتم عبدالهادي السيد
ناقد مصري