د. أحمد الحطاب - هل أحزابُنا السياسية تستعين بالكفاءات الجامعية؟

مباشرةً بعد استقلال البلاد وخلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وشيئا ما التسعينيات، كانت القيادات الحزبية، وخصوصا، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية UNFP الذي سيُصبح، فيما بعد، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية USFP، وحزب الاستقلال PI وحزب التَّقدُّم والاشتراكية PPS، مٌكوَّنةً من نساءٍ ورجالٍ لهم باعٌ طويلٌ في السياسة والثقافة. بمعنى أن هذه القيادات كانت مُشكَّلةً من نُخبةٍ élite من المثقفات والمثقفين من الطِّراز العالي.

كانت هذه النُّخبة مُكوَّنةً من أساتذة جامعيين من مختلف التَّخصُّصات ومن المحامين ومن الأطباء ومن الإعلاميين المرموقين ومن المفكِّرين والمُنظرين… من أمثال مليكة الفاسي وأمينة بنخضراء وعائشة بلعربي وعزيزة بناني ونزهة الشقروني وياسمينة بادو وثريا جبران وأمينة بوعياش… والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي ومحمد العابد الجابري ومحمد كسوس وعلال الفاسي ومحمد الفاسي وعلي يعته وعبد الخالق الطريس ومحمد بن الحسن الوزاني وعبد الهادي بوطالب وعزيز بلال… علماً أن عدداً لا يُسبهان به من هذه الشخصيات السياسية قد وافتهم المَنِيَّة.

السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هو : "هل أحزابُنا السياسية، وخصوصا، تلك التي تُصنِّف نفسَها في اليسار التَّقدُّمي، سَدَّت الفراغَ الذي خلَّفه اختفاء الشخصيات الحزبية القيادية النافذة، سياسياً وثقافياً؟

جوابا على هذا السؤال، أقول قد يكون من الصَّعب سدُّ هذا الفراغ نظرا لانفرادِ الشخصيات التي غيَّبها الموتُ بكاريزما charisme منقطعة النظير تتمثَّل في تقبُّل الجمهور، المُتحزِّب وغير المُتحزِّب، لهذه الشخصيات وقدرتِها على التَّأثيرِ على هذه الجماهير بواسطة أفكارٍ بنَّاءة، يُستشفُّ منها بُعدُ النظر والفِطنة. ناهيك عن أن كل واحدة أو كل واحد من هذه الشخصيات لها/له باعٌ طويل في مجال تخصُّصِه. وناهيك، كذلك، عن الجرأة السياسية audace politique التي كانوا يتمتَّعون بها، وذلك بقولهم الحقيقة ولا شيءَ غير الحقيقة. علما أن الجرأةَ السياسية لا يملكها إلا نساءُ ورجال مؤهَّلون فكريا، سياسياً وثقافيا لتدبير شؤون الدولة.

وما دام تعويض القيادات الحزبية السياسية صعبا، فهذا لا يعني أن سدَّ الفراغ الذي تركته القيادات الحزبية التي غيَّبها الموتُ، مستحيلٌ. إنه، فعلا، صعبٌ لكن ليس مستحيلا. لا أبدا! ولو أن الخَلَفَ قد لا يتمتَّع بنفس الكاريزما التي كان ينفرد بها السلفُ. لكن الخلَفَ يعيش في زمانٍ ومكانٍ مختلفين عن الزمان والمكان اللذين عاش فيهما السلف. زمان ومكان عرفت فيهما البشرية ازدهارا علمياً وتكنولوجياً غير مسبوق. وبما أن الناسَ أبناءُ بيئتهم، فمن المفروض، أن الخَلَفَ، ولو كان أقل كاريزما، فهو أكثر خبرةً وثقافةً.

لكن، إن كان هناك شيءٌ تتفنَّن فيه أحزابُنا السياسية، فهو قدرتُها الخارقة على جعل المغاربة، وخصوصا، المثقَّفين منهم يكرهون السياسة وينفُرون منها، بل يكرهون الانخراطَ في الأحزاب السياسية ويُقاطعون الانتخابات boycottent les élections. لماذا؟

لأن الأحزاب السياسية هي مَن أفسدت المشهد السياسي. وحتى لو افترضنا أن الأحزابَ السياسية ليست هي مَن أفسدت المشهدَ السياسي، فهذه الأحزاب مدعوةٌ للإجابة عن السؤال التالي : "لماذا الفساد يزداد حجما وانتشاراً من ولايةٍ حكومية إلى أخرى"؟

لستُ أنا مَن يقول إن الفسادَ يزداد انتشاراً. بل هذا ما جاء في التقرير السنوي الذي تُصدره الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الفساد ومحاربته، وهي مؤسسة دستورية أُنشِئَت للنهوض بالنزاهة وحعلها وسيلةً لضمان تنمية بشرية، اجتماعية واقتصادية خالية من الفساد وما يترتَّب عنه من ضياعٍ في خلق الثروة التي هي أساس كل تقدُّم وازدهار.

فكيف للمثقَّفين أن ينخرطوا في السياسة وهي سببُ الفساد الذي هو في طريقه للهيمنة على جميع مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية؟ علما أن الكثيرَ من المثقفين النزهاء والأحرار لا يريدون توريطَ أسمائهم في مستنقع الفساد.

ولا يخفى على أحدٍ أن الجامعات المغربية تعجُّ بالمثقفين الذين نقرأ، يوميا ما يكتبون في مختلف الجرائد الوطنية ونراهم ونُشاهدُهم، بانتظام، في مختلف وسائل الإعلام المسموعة والمصوَّرة، يناقشون ويتناظرون ويتباحثون في مواضيع اجتماعية، اقتصادية، تكنولوجية، أدبية، تراثية، تاريخية، فلسفية…

فعوض أن تقتربَ الأحزابُ السياسية من هؤلاء المثقفين الجامعيين لاستدراجهم إلى صفوفها، فإنها تعمل، عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، لإبعادهم عنها. فماذا يعني هذا التَّصرُّف الحزبي السياسي؟

بكل بساطة، هذا التَّصرُّف يعني أن الإجابة عن هذا السؤال لها عدَّة وجوه. الوجه الأول : هذا التَّصرُّف يتمثَّل في كون الأحزاب السياسية لم تعد تمارس السياسةَ بمعناها النبيل، أي السياسة التي تراعي مصلحة الوطن والشعب. بل أصبحت تمارس السياسة بمعناها المنحط والوضيع، أي السياسة التي تمكِّن هذه الأحزاب من الوصول إلى السلطة. وحينما تصل إلى السلطة، تنسى مصلحةَ البلاد والعباد.

الوجه الثاني : هذا التَّصرُّف يعني أن أحزابَنا السياسية، لو كانت فعلا تراعي مصلحةَ الوطن والشعب، لحاربت الفسادَ، أو على الأقل، لخفَّفت من تأثيرِه على اقتصاد البلاد وعلى السير العادي للشأن العام. ولهذا، فكثيرٌ من أحزابِنا السياسية أصبح يُفضِّل الانضمامَ إلى صفوفه "مَّالِينْ شكارة" عوض المثقفين! لماذا؟

لأن "مولْ شكارَة" له القدرة على ضمان الأصواتٍ في الانتخابات، بينما المثقَّفون سيُطالبون بعودة الأحزاب إلى جادة الصواب بتبنِّي المواطنة والشفافية والنزاهة والديمقراطية.

الوجه الثالث : هذا التَّصرُّف يعني أن أحزابَنا السياسية لا تهمُّها مصلحةُ الوطن والشعب. ما يهمُّها هو تحقيق مصالِحِها الضيِّقة المتمثِّلة في الوصول إلى السلطة وإلى الاستوزار. فلاغرابةَ أن تُهملَ مصالحُ الوطن والشعب. ولا غرابة أن لا يُحتَرمَ دستور البلاد الذي ينصُّ في فصلِه السابع على أنه من مهام الأحزابَ السياسية "تأطِيرُ المواطنات والمواطنين وتكوينُهم السياسي من أجل النهوض بمُساهمتِهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشؤون العمومية".

وفي هذا الصدد، دلوني على حزبٍ سياسي واحدٍ، سواءً وصل إلى السلطة أو ما يزال لم يصل لها، كان وطنيا أو حديث العهد، كان يساريا أو يمينيا، ليبراليا أو اشتراكيا…، يقوم اليوم بهذه المهام المنصوص عليها في الدستور. ليس هناك، على الإطلاق، ولو حزبٌ واحد يحترم الدستور. بل الأحزاب السياسية لا تحترم لا دستورَ البلاد ولا قوانينَها التنظيمية ولا المُنتَخِبين ولا حتى قوانينَها الداخلية…

الوجه الرابع : هذا التَّصرُّف يعني أن الأحزابَ السياسيةَ التي انتخبها الشعبُ لتلعبَ دورَ الوسيط intermédiaire بين الشعب، من جهة، وبين البرلمان والحكومة، من جهة أخرى، تنكَّرَت لهذه الوساطة، قالِبةً إياها لصالِحِها. بمعنى أن الشعبَ، إذا انتخب الأحزاب، فلتنوبَ عنه أمام السلطتين، التشريعية، أي البرلمان والسلطة التنفيذية، أي الحكومة. والنيابة عن الشعب تحوَّلت إلى زبونية clientélisme ومحسوبية népotisme و "باك صاحبي" و "لِمَعندو سِيدو عندو لَلاَّه" و "دْهْنْ السِّير إسِيرْ" و "أعلى ما في خيلك رَكبو" و "واشْ عْرَفْتِ مع من كتهضر"... وكل ما يُفسِد الحياةَ بجميع تجلِّياتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى