“يا سو، شيل سوطَك عنِّي، أنا مش تُور في ساقية دايرة تلم قروش!”
أخيرًا عتقتوني، ملعون أبوكوا يا ولاد الكلاب، إنتوا ناقص تكلوني بالقرشين اللِّي بتدوهم لي.
في الساعة التاسعة، خَرجتُ من المستوصف الذي أعمل به ممرضة منذ أن رماني قَدَري التعيس إلى هذا البلد، شابة في الثلث الأول من عقدها الثالث نسيها قطار الزواج على رصيف الانتظار.
جلستُ في سيارة العمل ورأسي يوشِك على الانفجار، أحصي سنوات عمري الخمس وثلاثين التي ضيعت أجملها في هذا البلد بعد يوم عمل بائس ختمته تلك الطبيبة القذرة باتهامها لي بالسرقة، فجأة سمعتُ صوت انفجار إطار السيارة التي ارتبكت حركتها فوق الطريق المعتم، أخذت تزحف محدثة صفيرًا مرعبًا، حتى انحرفت في الرمال وتوقفت من تلقاء نفسها، وأنا في الكرسي الخلفي أقفز يمنة ويسرة ككرة تنس بين مضربي لاعبين ماهرين، نزل الأسطى طه يسبّ ويلعن ليتفحص الإطارات، دار حول السيارة دورتين، ثم حمل إطارًا فارغًا من الصندوق الخلفي وأتى عند الباب المجاور، وقال:
يا حكيمة نجلاء، أنا هروح أشوف حد ينفخ الكوتش ده، في بنزينة بعد كم كيلو مش بعيد وانتي استني هنا في العربية، آني اتصلت بسواق صاحبي هيوصلك للسكن.
طيِّب يا عم طه، قولّه ما يتأخرش، الحتة مقطوعة زي ما انت شايف.
ما تخافيش، هو خلاص على وصول.
ما إنْ أنهى جملته حتى ذهب يبحث عن مساعدة، مُتَّبعًا الضوء الشحيح على جانبي الطريق، مرَّت برهة من الزمن لا أعلم مداها، شعرتُ بالاختناق، فتحتُ الباب أتلمَّس بعض الهواء، خطوت بضع خطوات بجوار السيارة، بالكاد حملتني قدماي، وجدتها فرصة مناسبة للصراخ، للتخلص من هذا الحِمْل الثقيل بجوفي، عندها توقَّف بقُربي هذا السائق الغريب، يراقب انفجاري، لم يحرِّك ساكنًا لأجلي، فقط بدأ في الصراخ معي دون تردُّد، بدَوْنا متشابهين رغم اختلافنا، غريبين جمعتهما صحراء القهر، الوحدة، الغُرْبة، الحاجة.
الأفكار تتكالب في رأسينا بطريقة واحدة، تخرج “آه” عنيفة مدمرة بعمق الغليان الذي يشعره كلانا داخله، كلانا نضب، تبخَّر، تحوَّل إلى صرخة مبعثرة في الهواء تشتكي التشظِّي، تَساوَى لدينا الشك واليقين، الإيمان والضلال، الحب والكره، نبحث عمَّن يُرمِّم الدمار الذي يسكننا، لا دماء داخلنا، فقط جحيم من الهلاوس تعتمر رأسينا، تسجن أرواحنا، كابوس كبير من الهلام اللزج المقرف ملتف حول رقابنا اسمه الكفيل، كُرَتَينِ من اللهب تحترقانِ من تلقاء نفسيهما، هنا التقينا، حيث بوابة الشكوى مفتوحة للجميع، حيث السماء بلا سور والأرض بلا متفرجين ولا محكمين، صرخة عجز خرجت من لسانين غريبين مختلفين لا تجمعهما لغة، روحان ممزقتان لا ينتميان لبعضهما، يبحثان عمَّن يهدهدهما، عمَّن يعيد إليهما السلام.
في الفراغ حيث صمت الليل والطبيعة الخام، لا شيء سوى صدى الصوت الذي يرتد إلينا هزيم رعد يسحق وجودنا الجزع في الصحراء، سالمنا العالم في ضمة، رأسان مثقلان بالهموم، توسَّد كلانا كتف الآخر، كومة من الكلام تكدَّست في حلْقَيْنا لا تجد لسانًا يسعفها لتنفجر، سجينان فرَّا من جحيم اختناقهما داخل هذا السجن الكبير يبحثان عن ملاذ.
ذهبنا إلى غرفة حقيرة ضيقة، حيث الأرض صلبة باردة، لا شيء سوى الجدران، هزم جسدينا طاغوت اللغة والاختلاف، ربما الدين ايضا من يدري! مزق كلانا الآخر في فوضى مدمرة، وكأن كُلًّا منا يمزق قيود عبوديته في هذا البلد، حيث الغريب هو العبد الذي باع نفسه مقابل تأشيرة “سُخْرة” وبعض قروش، تمددنا نُدخِّن السجائر بنَهَمٍ، نطلق أنفاسنا في الفضاء الضيِّق حولنا، نعيد استنشاقها بتوجُّس وخوف من أن يرانا أحد، متهمين بجرم الحرية، بكيت بحرقة، بوجع يهزمني سؤال يغلي في عقلي:
إمتى هتحرر…؟!
نظرتُ إلى هذا الغريب الممدد جانبي أستكشف من يكون! استرعى انتباهي زرقة جلده ودمه المتجلط فوق خدوشه، عندها تساءلت مفزوعة: كيف تحمَّل هذا المسكين كل هذا الألم، أي سعار أصابني لأنهشه بهذا الشكل، ارتعش جسدي، لَمْلَمْتُ صقيع صدري في ضمة بين ذراعَيَّ، شعرت كُلِّي يَئِنُّ، كل المساحات خدوش وجروح، نظرت إلى ذاتي المكسورة في قوقعتها وكأني أمام مرآة مشروخة، أغمغم، “أنا كمان ماحستش بحاجة”، رنَّت في أُذني كلمات ستي كَرَنَّةِ خلخالها على وجه الأرض:
وجع الروح ما يغلبوش وجع يا بِتِّي!
هذا الوجه بجواري، عيناه داميتان غارقتان في نحيب صامت، شفاهه تنزف دخان السجائر، وكأنما تعطي إذنًا لتلك الروح المحترقة لمغادرة أبدية، تلمست بدهشة طبقة الشعر الكثيف التي تغطي جسده، لا أدري ما الذي جعلني أبتسم، بينما دموعي تنهمر وروحي تتلوى فوق جمر اشمئزازها! تبعت دوامة الكلمات في عقلي ألملم من قاموسي جملة من لغة ربما تجمعنا، فهمست:
-You same monkey
لم أعرف، هل فهمني أم لا! فقط اكتفى بابتسامة حزينة، وهمس بصوت مهزوم:
Joury ()
لا أدري أكان هذا اسمه أم هكذا أراد أن يناديني! ميل ما جرفني إلى الاعتقاد بأنه خصَّني بهذا الاسم: جوري، وردة جميلة، أسعدني أن أسمع أحدهم يشبهني بالوردة، بهذه الكلمات المقتضبة أعطى كل مِنَّا الآخر اسمًا جديدًا، نفس ومعتقد آخر يطفو به فوق جحيم المعتقدات، وعذاب الضمير، ورُعب الخطايا، حلم حلو وسط كابوس الغربة الموحش، تراجعت إلى قوقعتي، أتأمل روحي المسجونة، هاجس ما دفعني للارتجال، لغناء أشبه بالنحيب:
مسجون وسجني قضبانه ضلوع
مكسور قلبي، وروحي مشتهيه الموت
آه م الوجع لمّا يغرس نابه في الحشا ويفوت
وآه من المُرّ لما يعبي الجوف ويزود
باعوني خلي وخانوا العهود
قايضوا الحر بالسو والملطوط
أنا مش تور في ساقيه دايره تلم قروش
ولا كلب على رقبته الكفيل يدوس دمعة سالت فوق خدي ثم خيَّم الصمت، أشعلت سيجارة أعطاها لي هذا القرد المتشرنق حول ذاته في الركن المقابل، أرسلت نظرة باردة، ثم أطرقت أتساءل:
يا ترى انت مين وحكايتك إيه! هندي ولا باكستاني ولا أي سواد عالي، حزين شرب المقلب زي حَلَاتِي، جه ضيَّع عمره في البيوت، يركبه الصغير والكبير، فاكر نفسه هيتنغنغ في العز.
ضحكة صاخبة لم أستطع كتمها خرجت تكسر جدران الصمت بيننا، شهقت نفَسًا جديدًا من السيجارة، غمغمت: حشيش ده ولا إيه! وضعت إصبعي فوق شفتي، وهمست: اخرس، هذا الصوت داخلي:
أشش أشش، بس يا ماما، ما تكليش دماغي، هيفرق في إيه حشيش ولَّا مين ولا منين! أهو كُلُّه مرار، كله محصل بعضه، الكل مقهورين، كل الحكايات وجع!
أطرقتُ برهة، ثم رشح سؤال فوق قشرة دماغي، سرعان ما وجد إجابته:
ما له دا عامل زي الصنم كدا ليه! ما تشغليش بالك، آهو جثة جديدة واقفة في طابور الموت، هو بعد الموت في آه!
نظرة خاطفة رحتُ أجمع فيها معالم المكان وكأني دخلته للتوِّ، ثم همست:
يا ربي! إيه القبر ده، عايش هنا إزاي!
التصقت بالجدران، كنت ادفعها بكتفي لعلها تتسع قليلًا، ربما تتعاطف معنا بعض الشيء، تُفسح مجالًا لروحين تَفنَّن القدر في تهشيمهما، في سحقهما كتماثيل من زجاج رخيص معاد التصنيع، هنا قفز إلى ذاكرتي يوم وقفت وحيدة في المطار، أحمل حقيبتي الرثة، وليس هناك من يودِّعني، لا أب، لا أم، لا أخ، لا… زوج.
زوج! كلمة غير موجودة في قاموسي، لم أتزوج، لم أكن جميلة ولا ثريَّة، ولا بنت حسب ونسب ليرضى بي أحد، وقفت في طابور الانتظار مع بنات القرية أشحذ رجلًا، ولكن كالعادة لم أحصل على شيء، بينما جميعهن وَجَدْنَ مَن يرضى بهنَّ، لطالما كان القدر ضنينًا معي، شعرت بثقل رأسي يتزايد فزحفت على يديَّ ورِجْلَيَّ، اقتربت من هذا الغريب، جلست بجواره أهذي، حدقتُ في عينيه، بدت ميتة كعيني الجدار، غرستُ أظفاري في صدره، حتى سال دمه وأخذ يتلوى فوق معصمي كثعبان أحمر، صرخت في وجهه..، في وجه القدر:
إنت بتعاندني ليه! أنا مش زيهم ليه! حلوة وبِتّ ناس، ولا حتى بت عاديه وخلاص يرضى بيها أي حد، إيه السواد اللِّي بَلِتْني بيه ده! لا جمال ولا مال ولا عيلة، ودماغ عمَّاله تغلي وخلاص.
دارت حدقاتي دون توازن، انتبهت للحم الرجل الذي فتقته أظفاري، ودماؤه التي خضبت كفي، فصرخت في وجهه:
إنت طوبة ما بتتوجعش؟!
لم يجب، لم يحرك-حتى- جفنيه، لم يكن ليصرخ مجددًا أبدًا، قد ترك روحه في مكان ما، الآن هو جثة لا ألم سيعيدها للحياة، ميت حقير في صحراء “السُّخْرَة” لن يلتفت له أحد، زاد ثقل رأسي، أغمضت عيني مستسلمة، وذهبت إلى مكان آخر إلى حيث العوالم ما زالت طازجة، ورائحة الحياة تفوح من مبخرة مجذوب يرقص بعباءة مهترئة يهذي:
حي… حي…
فتحت عينيَّ واستسلمت لبكاء صامت تسرب من شفتيّ دعاء هامس:
يا رب، ارحمني!
فجأة تعالَ ضحك هستيري من فم هذا القرد الممدد بقربي، أخذ يحدِّق في عينيّ ثم صرخ في وجهي غاضبًا:
يا هومار، إنتي ليش call هو، إنتي فكر هذا god موجود، هذا إله now sleep، هو ما في أسمع إنتي، هو قلب ما في، كيف feel إنتي، إنتي ما في معلوم، هو same أنا، شوف هنا().
شق قميصيه وصرخ:
شوف هنا قلب ما في!
كشف جسده كاملًا وهمس في أذني:
إنتي أش شوف هنا؟ في شي؟()
حوَّل نظره تجاه سقف الغرفة، وهمس:
nothing، هنا في فاضي، أول كان في هنا soul.
توقف لحظة ينصت، ثم أردف هامسًا: انتي شوف nothing، أسمع صوت، هوا روح أجي()
عادت عيناه غائمة منكسرة إلى حيث مكاني وغمغم:
أنا كلام هذا god مية مرة هو ما في اسمع، معلوم هو (watch my body)، بعدين piece takes me piece by
أول هو جيب أنا poor familyما في خبز كافي معلوم، بعدين
heart take my سوي cut cut بعدين gave to the devil to eat. ، معلوم كيف هو سوي ،أنا بابا ( married to my lover) … بابا سوي زواج مع حبيبتي، أنا أسمع هي إبكي كل يوم
انهمرت دموعه فوق خديه فتوقف لحظة، ثم أردف:
بعدين أنا يجي هذا country هذا god ما في stop، ما في كافي من أنا، هو takes هذا كله من أنا، بعدين سبعة سنة هذا كفيل donky me work same make، الحين هو ما أبغى give أنا salary، هو أبغي fuk أنا or ودي أنا شرطة، after كل هذا god فوق ما في أسمع ما في شوف
صمت لحظة ثم أردف: معلوم أنا الحين sleep أنتي كلام هو، ممكن أسمع أنتي()
تمدد السائق البائس في مكانه، وتمددتُ جواره أغني، حتى رحت في نعاس عميق..
أنا إنسان شرب المُرّ بالكِيلَة
نحسي، خِلِّى ضِلِّي مرافقني طول الطريق
يا سو شيل سوطك عنِّي
أنا المسجون في ضِلِّي، أنا المنحوس…
وأنا مش تور في ساقية دايرة تلم قروش
ولا كلب على رقبته …
ال ك ف ي ل …يدوس…
sadazakera.wordpress.com
أخيرًا عتقتوني، ملعون أبوكوا يا ولاد الكلاب، إنتوا ناقص تكلوني بالقرشين اللِّي بتدوهم لي.
في الساعة التاسعة، خَرجتُ من المستوصف الذي أعمل به ممرضة منذ أن رماني قَدَري التعيس إلى هذا البلد، شابة في الثلث الأول من عقدها الثالث نسيها قطار الزواج على رصيف الانتظار.
جلستُ في سيارة العمل ورأسي يوشِك على الانفجار، أحصي سنوات عمري الخمس وثلاثين التي ضيعت أجملها في هذا البلد بعد يوم عمل بائس ختمته تلك الطبيبة القذرة باتهامها لي بالسرقة، فجأة سمعتُ صوت انفجار إطار السيارة التي ارتبكت حركتها فوق الطريق المعتم، أخذت تزحف محدثة صفيرًا مرعبًا، حتى انحرفت في الرمال وتوقفت من تلقاء نفسها، وأنا في الكرسي الخلفي أقفز يمنة ويسرة ككرة تنس بين مضربي لاعبين ماهرين، نزل الأسطى طه يسبّ ويلعن ليتفحص الإطارات، دار حول السيارة دورتين، ثم حمل إطارًا فارغًا من الصندوق الخلفي وأتى عند الباب المجاور، وقال:
يا حكيمة نجلاء، أنا هروح أشوف حد ينفخ الكوتش ده، في بنزينة بعد كم كيلو مش بعيد وانتي استني هنا في العربية، آني اتصلت بسواق صاحبي هيوصلك للسكن.
طيِّب يا عم طه، قولّه ما يتأخرش، الحتة مقطوعة زي ما انت شايف.
ما تخافيش، هو خلاص على وصول.
ما إنْ أنهى جملته حتى ذهب يبحث عن مساعدة، مُتَّبعًا الضوء الشحيح على جانبي الطريق، مرَّت برهة من الزمن لا أعلم مداها، شعرتُ بالاختناق، فتحتُ الباب أتلمَّس بعض الهواء، خطوت بضع خطوات بجوار السيارة، بالكاد حملتني قدماي، وجدتها فرصة مناسبة للصراخ، للتخلص من هذا الحِمْل الثقيل بجوفي، عندها توقَّف بقُربي هذا السائق الغريب، يراقب انفجاري، لم يحرِّك ساكنًا لأجلي، فقط بدأ في الصراخ معي دون تردُّد، بدَوْنا متشابهين رغم اختلافنا، غريبين جمعتهما صحراء القهر، الوحدة، الغُرْبة، الحاجة.
الأفكار تتكالب في رأسينا بطريقة واحدة، تخرج “آه” عنيفة مدمرة بعمق الغليان الذي يشعره كلانا داخله، كلانا نضب، تبخَّر، تحوَّل إلى صرخة مبعثرة في الهواء تشتكي التشظِّي، تَساوَى لدينا الشك واليقين، الإيمان والضلال، الحب والكره، نبحث عمَّن يُرمِّم الدمار الذي يسكننا، لا دماء داخلنا، فقط جحيم من الهلاوس تعتمر رأسينا، تسجن أرواحنا، كابوس كبير من الهلام اللزج المقرف ملتف حول رقابنا اسمه الكفيل، كُرَتَينِ من اللهب تحترقانِ من تلقاء نفسيهما، هنا التقينا، حيث بوابة الشكوى مفتوحة للجميع، حيث السماء بلا سور والأرض بلا متفرجين ولا محكمين، صرخة عجز خرجت من لسانين غريبين مختلفين لا تجمعهما لغة، روحان ممزقتان لا ينتميان لبعضهما، يبحثان عمَّن يهدهدهما، عمَّن يعيد إليهما السلام.
في الفراغ حيث صمت الليل والطبيعة الخام، لا شيء سوى صدى الصوت الذي يرتد إلينا هزيم رعد يسحق وجودنا الجزع في الصحراء، سالمنا العالم في ضمة، رأسان مثقلان بالهموم، توسَّد كلانا كتف الآخر، كومة من الكلام تكدَّست في حلْقَيْنا لا تجد لسانًا يسعفها لتنفجر، سجينان فرَّا من جحيم اختناقهما داخل هذا السجن الكبير يبحثان عن ملاذ.
ذهبنا إلى غرفة حقيرة ضيقة، حيث الأرض صلبة باردة، لا شيء سوى الجدران، هزم جسدينا طاغوت اللغة والاختلاف، ربما الدين ايضا من يدري! مزق كلانا الآخر في فوضى مدمرة، وكأن كُلًّا منا يمزق قيود عبوديته في هذا البلد، حيث الغريب هو العبد الذي باع نفسه مقابل تأشيرة “سُخْرة” وبعض قروش، تمددنا نُدخِّن السجائر بنَهَمٍ، نطلق أنفاسنا في الفضاء الضيِّق حولنا، نعيد استنشاقها بتوجُّس وخوف من أن يرانا أحد، متهمين بجرم الحرية، بكيت بحرقة، بوجع يهزمني سؤال يغلي في عقلي:
إمتى هتحرر…؟!
نظرتُ إلى هذا الغريب الممدد جانبي أستكشف من يكون! استرعى انتباهي زرقة جلده ودمه المتجلط فوق خدوشه، عندها تساءلت مفزوعة: كيف تحمَّل هذا المسكين كل هذا الألم، أي سعار أصابني لأنهشه بهذا الشكل، ارتعش جسدي، لَمْلَمْتُ صقيع صدري في ضمة بين ذراعَيَّ، شعرت كُلِّي يَئِنُّ، كل المساحات خدوش وجروح، نظرت إلى ذاتي المكسورة في قوقعتها وكأني أمام مرآة مشروخة، أغمغم، “أنا كمان ماحستش بحاجة”، رنَّت في أُذني كلمات ستي كَرَنَّةِ خلخالها على وجه الأرض:
وجع الروح ما يغلبوش وجع يا بِتِّي!
هذا الوجه بجواري، عيناه داميتان غارقتان في نحيب صامت، شفاهه تنزف دخان السجائر، وكأنما تعطي إذنًا لتلك الروح المحترقة لمغادرة أبدية، تلمست بدهشة طبقة الشعر الكثيف التي تغطي جسده، لا أدري ما الذي جعلني أبتسم، بينما دموعي تنهمر وروحي تتلوى فوق جمر اشمئزازها! تبعت دوامة الكلمات في عقلي ألملم من قاموسي جملة من لغة ربما تجمعنا، فهمست:
-You same monkey
لم أعرف، هل فهمني أم لا! فقط اكتفى بابتسامة حزينة، وهمس بصوت مهزوم:
Joury ()
لا أدري أكان هذا اسمه أم هكذا أراد أن يناديني! ميل ما جرفني إلى الاعتقاد بأنه خصَّني بهذا الاسم: جوري، وردة جميلة، أسعدني أن أسمع أحدهم يشبهني بالوردة، بهذه الكلمات المقتضبة أعطى كل مِنَّا الآخر اسمًا جديدًا، نفس ومعتقد آخر يطفو به فوق جحيم المعتقدات، وعذاب الضمير، ورُعب الخطايا، حلم حلو وسط كابوس الغربة الموحش، تراجعت إلى قوقعتي، أتأمل روحي المسجونة، هاجس ما دفعني للارتجال، لغناء أشبه بالنحيب:
مسجون وسجني قضبانه ضلوع
مكسور قلبي، وروحي مشتهيه الموت
آه م الوجع لمّا يغرس نابه في الحشا ويفوت
وآه من المُرّ لما يعبي الجوف ويزود
باعوني خلي وخانوا العهود
قايضوا الحر بالسو والملطوط
أنا مش تور في ساقيه دايره تلم قروش
ولا كلب على رقبته الكفيل يدوس دمعة سالت فوق خدي ثم خيَّم الصمت، أشعلت سيجارة أعطاها لي هذا القرد المتشرنق حول ذاته في الركن المقابل، أرسلت نظرة باردة، ثم أطرقت أتساءل:
يا ترى انت مين وحكايتك إيه! هندي ولا باكستاني ولا أي سواد عالي، حزين شرب المقلب زي حَلَاتِي، جه ضيَّع عمره في البيوت، يركبه الصغير والكبير، فاكر نفسه هيتنغنغ في العز.
ضحكة صاخبة لم أستطع كتمها خرجت تكسر جدران الصمت بيننا، شهقت نفَسًا جديدًا من السيجارة، غمغمت: حشيش ده ولا إيه! وضعت إصبعي فوق شفتي، وهمست: اخرس، هذا الصوت داخلي:
أشش أشش، بس يا ماما، ما تكليش دماغي، هيفرق في إيه حشيش ولَّا مين ولا منين! أهو كُلُّه مرار، كله محصل بعضه، الكل مقهورين، كل الحكايات وجع!
أطرقتُ برهة، ثم رشح سؤال فوق قشرة دماغي، سرعان ما وجد إجابته:
ما له دا عامل زي الصنم كدا ليه! ما تشغليش بالك، آهو جثة جديدة واقفة في طابور الموت، هو بعد الموت في آه!
نظرة خاطفة رحتُ أجمع فيها معالم المكان وكأني دخلته للتوِّ، ثم همست:
يا ربي! إيه القبر ده، عايش هنا إزاي!
التصقت بالجدران، كنت ادفعها بكتفي لعلها تتسع قليلًا، ربما تتعاطف معنا بعض الشيء، تُفسح مجالًا لروحين تَفنَّن القدر في تهشيمهما، في سحقهما كتماثيل من زجاج رخيص معاد التصنيع، هنا قفز إلى ذاكرتي يوم وقفت وحيدة في المطار، أحمل حقيبتي الرثة، وليس هناك من يودِّعني، لا أب، لا أم، لا أخ، لا… زوج.
زوج! كلمة غير موجودة في قاموسي، لم أتزوج، لم أكن جميلة ولا ثريَّة، ولا بنت حسب ونسب ليرضى بي أحد، وقفت في طابور الانتظار مع بنات القرية أشحذ رجلًا، ولكن كالعادة لم أحصل على شيء، بينما جميعهن وَجَدْنَ مَن يرضى بهنَّ، لطالما كان القدر ضنينًا معي، شعرت بثقل رأسي يتزايد فزحفت على يديَّ ورِجْلَيَّ، اقتربت من هذا الغريب، جلست بجواره أهذي، حدقتُ في عينيه، بدت ميتة كعيني الجدار، غرستُ أظفاري في صدره، حتى سال دمه وأخذ يتلوى فوق معصمي كثعبان أحمر، صرخت في وجهه..، في وجه القدر:
إنت بتعاندني ليه! أنا مش زيهم ليه! حلوة وبِتّ ناس، ولا حتى بت عاديه وخلاص يرضى بيها أي حد، إيه السواد اللِّي بَلِتْني بيه ده! لا جمال ولا مال ولا عيلة، ودماغ عمَّاله تغلي وخلاص.
دارت حدقاتي دون توازن، انتبهت للحم الرجل الذي فتقته أظفاري، ودماؤه التي خضبت كفي، فصرخت في وجهه:
إنت طوبة ما بتتوجعش؟!
لم يجب، لم يحرك-حتى- جفنيه، لم يكن ليصرخ مجددًا أبدًا، قد ترك روحه في مكان ما، الآن هو جثة لا ألم سيعيدها للحياة، ميت حقير في صحراء “السُّخْرَة” لن يلتفت له أحد، زاد ثقل رأسي، أغمضت عيني مستسلمة، وذهبت إلى مكان آخر إلى حيث العوالم ما زالت طازجة، ورائحة الحياة تفوح من مبخرة مجذوب يرقص بعباءة مهترئة يهذي:
حي… حي…
فتحت عينيَّ واستسلمت لبكاء صامت تسرب من شفتيّ دعاء هامس:
يا رب، ارحمني!
فجأة تعالَ ضحك هستيري من فم هذا القرد الممدد بقربي، أخذ يحدِّق في عينيّ ثم صرخ في وجهي غاضبًا:
يا هومار، إنتي ليش call هو، إنتي فكر هذا god موجود، هذا إله now sleep، هو ما في أسمع إنتي، هو قلب ما في، كيف feel إنتي، إنتي ما في معلوم، هو same أنا، شوف هنا().
شق قميصيه وصرخ:
شوف هنا قلب ما في!
كشف جسده كاملًا وهمس في أذني:
إنتي أش شوف هنا؟ في شي؟()
حوَّل نظره تجاه سقف الغرفة، وهمس:
nothing، هنا في فاضي، أول كان في هنا soul.
توقف لحظة ينصت، ثم أردف هامسًا: انتي شوف nothing، أسمع صوت، هوا روح أجي()
عادت عيناه غائمة منكسرة إلى حيث مكاني وغمغم:
أنا كلام هذا god مية مرة هو ما في اسمع، معلوم هو (watch my body)، بعدين piece takes me piece by
أول هو جيب أنا poor familyما في خبز كافي معلوم، بعدين
heart take my سوي cut cut بعدين gave to the devil to eat. ، معلوم كيف هو سوي ،أنا بابا ( married to my lover) … بابا سوي زواج مع حبيبتي، أنا أسمع هي إبكي كل يوم
انهمرت دموعه فوق خديه فتوقف لحظة، ثم أردف:
بعدين أنا يجي هذا country هذا god ما في stop، ما في كافي من أنا، هو takes هذا كله من أنا، بعدين سبعة سنة هذا كفيل donky me work same make، الحين هو ما أبغى give أنا salary، هو أبغي fuk أنا or ودي أنا شرطة، after كل هذا god فوق ما في أسمع ما في شوف
صمت لحظة ثم أردف: معلوم أنا الحين sleep أنتي كلام هو، ممكن أسمع أنتي()
تمدد السائق البائس في مكانه، وتمددتُ جواره أغني، حتى رحت في نعاس عميق..
أنا إنسان شرب المُرّ بالكِيلَة
نحسي، خِلِّى ضِلِّي مرافقني طول الطريق
يا سو شيل سوطك عنِّي
أنا المسجون في ضِلِّي، أنا المنحوس…
وأنا مش تور في ساقية دايرة تلم قروش
ولا كلب على رقبته …
ال ك ف ي ل …يدوس…

جوري مانكي ..قصة: منى العساسي
“يا سو، شيل سوطَك عنِّي، أنا مش تُور في ساقية دايرة تلم قروش!” أخيرًا عتقتوني، ملعون أبوكوا يا ولاد الكلاب، إنتوا ناقص تكلوني بالقرشين اللِّي بتدوهم لي.في الساعة التاسعة، خَرجتُ من المس…