1- الرجل الذي كان يعشق الموسيقى... قراءة في قصة جبرا
قصة " الرجل الذي كان يعشق الموسيقى " هي واحدة من قصص مجموعة جبرا إبراهيم جبرا القصصية الوحيدة التي عنوانها "عرق وبدايات من حرف الياء " التي صدرت طبعتها الأولى في العام 1956، وتوالت طبعاتها إلى أن وصلت إلى خمس، أضاف إليها جبرا قصة واحدة.
وقصص جبرا إبراهيم جبرا هذه لفتت أنظار دارسي فن القصة القصيرة في فلسطين ، فكتب عنها غير دارس. تناولها دارسون وهم يدرسون هذا الفن ،وتناولها آخرون وهم يدرسون جبرا إبراهيم جبرا أديبا. وقد توقفت أمام استقبالها في دراسة مطولة كتبتها للمؤتمر الذي عقدته جامعة بيت لحم في 28 و29 آب من العام 2004، وصدرت في كتاب ضم أكثر الأوراق التي ألقيت تحت عنوان:
"مؤتمر جبرا إبراهيم جبرا " وقد حرره كل من د.محمود أبو كته ود. عزيز خليل
دال العنوان :
يتكون العنوان من جملة اسمية طويلة تتكون من خمس مفردات، إذا غضضنا النظر عن اسم كان، وهو ضمير مستتر يعود إلى الرجل.ويمكن أن يقرأ المرء العنوان قراءتين، وهو يقرأ القصة ضمن مجموعة جبرا على النحو التالي:
هذه قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، أو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى من قصص جبرا،
وتفتح القراءة الأولى للعنوان المجال لتأويلات منها: ماهي قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ من هو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ولماذا كان الرجل يعشق الموسيقى؟ وهل توقف عن عشقها؟ ولماذا توقف عن عشقها إذا كان توقف عن عشقها بالفعل؟ ما السبب؟ هل يكمن في أنه انشغل عنها بشيء اخر أهم؟أم أنه مات فتوقف عن سماعها؟
وإذا ما تذكرنا أن هذه القصة كتبت في مرحلة مبكرة من حياة جبرا في العام 1956 أو قبله، فهل يكتب جبرا عن رجل عربي أم عن رجل أوروبي؟ وإذا كان يكتب عن رجل عربي،فمن هذا الرجل، والى أيه فئة اجتماعيه ينتمي؟ لابد أنه مثقف أو مسيحي.لماذا؟ لأن غير المثقفين لم يكونوا،في أوساط القرن العشرين، يهتمون بالموسيقى وسنعرف أنه ليس مثقفا .وأما أنه مسيحي ،فلأن للموسيقى حضورا لافتا في حياة المسيحيين، ينشأون على حبها ، منذ ذهابهم إلى الكنيسة. وسيكتب جبرا قي سيرته الذاتية "البئر الأولى " عن هذا الكثير ، ولكن " البئر الأولى " صدرت في العام 1987- أي بعد ثلاثين عاما من صدور "عرق " وستضيء لنا السيرة جوانب ربما نغفل نحن عنها، ممن لم ننشأ في بيئة مسيحية، أو في بيئة ثقافية غنية تهتم بالموسيقى اهتماما لافتا.
موجز القصة :
تدور القصة حول رجل يقيم في مدينة لا يذكر اسمها، يغدو، حين يصل الأربعين، ثريا بطرق عديدة قد يكون منها الغش والخداع، ويغيب هذا عن المدينة فترة من الوقت، يفتقده الناس خلالها. ويكون، في أثناء غيابه، ذهب بصحبة مهندس لبناء قصر له في قمة جبل.وحين يعود إلى المدينة يجمع اسطوانات الموسيقى التي كانت في بيته، ويرحل، هو الذي كان يتحدث مع الناس بتحفظ. ويقيم في قصره المتواضع الأثاث ، ويستمع إلى الموسيقى، ولا يكتفي بذلك ، إذ يريد للآخرين أن يستمعوا إليها، وهكذا يربط (الغرامفون) بسماعات، ليصدح الصوت في أعالي الجبال، ويقرر ذات يوم الانتحار، فيشغل (الغرامفون ) ويذهب إلى الصخور ليموت بينها، وهو يستمع إلى الموسيقى، بعد أن يكون مزق الجنيهات التي جمعها، لأنه يحتقر المادة.
القصة بين الحقيقة والخيال :
في دراستي "جبرا إبراهيم جبرا والقصة القصيرة " توقفت أمام هذا العنوان الفرعي، وأوردت أراء الدارسين في قصص جبرا، وأراء جبرا نفسه في قصصه (أنظر ص137 ، 138، 139، 140)
وأتيت أيضا على القصة موضع الدراسة.
يفتتح جبرا قصته بالفقرة التالية :
"هذه قصة غريبة يكاد المرء حالما يسمعها يقول: أن قصتك ياهذا مستحيلة، ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها، لا أحجم عن روايتها ثانية. وسأرويها لك، كما رويتها لغيرك، ولك ان تصدق أو لا تصدق "( ص198، ط5، 1989)
من هو الراوي ومن هو المروي عليه الذي يخاطبه الراوي ومن هم المروي عليهم الذين كان قص عليهم هذه القصة؟ ثم لم يفترض الراوي أن القراء لن يصدقوها؟
ثم هل الراوي غير الكاتب، وهل المروي عليه غير القارئ؟
يبدأ السارد قصته بإدراكه أن سامع القصة حالما يسمعها سيقول: أنها مستحيلة. وسرعان ما نجده يلتفت إلى القارئ:" ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها "، ما يعني أن الراوي هو الكاتب، وأن المروي عليه هو القارئ. ولكن الراوي كان روى القصة على مسامع آخرين، فهل كان، قبل أن يكتبها وينشرها، ليقرأها القارئ، هل كان رواها مشافهة على بعض معارفه، ولم يصدقوها؟ ومع ذلك كتبها لينشرها؟
السؤال هذا يقودنا إلى طبيعة قصص جبرا هل كان جبرا، مثل محمود سيف الدين الإيراني، ينسج قصصه ويستمد شخصياتها من الواقع الذي يعيش فيه؟ كان الإيراني، كما يقول عن شخصيات قصصه، يستمدها من واقعه، هو الكاتب الواقعي، ولكن جبرا لم يكن يفعل ذلك، فقد كان يكتب عن شخصيات من نسج خياله، ليكتشف، فيما بعد ، أنها قد تغدو واقعية ، وهذا ما حدث معه حين كتب، في بداية حياته، قصة " ابنة السماء ". بطلة القصة. من نسج الخيال ، ولكنه ، بعد عام ، سرعان ما التقى بفتاة تشبهها.
القارئ المتغير في الزمان :
ربما لا نستطيع أن نوحد بين كاتب القصة وراويها إلا زمن كتابتها، أما الآن فجبرا في ملكوت السماء. لقد رحل وانتهى، ومع ذلك فما زال راوي القصة يرويها. ويمكن قول الشيء عن المروي عليه فيها زمن كتابتها. لقد مات الأشخاص الذين عاصروا جبرا وقص عليهم قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى. وقارئ القصة اليوم غير قارئها زمن كتابتها، فإذا كان ذلك لا يصدق ما ورد فيها، فهل ينطبق الأمر على قارئها الآن، في القرن الحادي والعشرين؟
ربما لا يجد قارئ القصة اليوم، في القصة التي يقرأها، قصة جبرا، الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، ربما لا يجد أية غرابة. وربما تنتفي الحاجة لأسطر مفتتحها التي اقتبستها. ما كان يدعو إلى الغرابة في العام 1956 أو قبله، ما عاد يبدو غريبا في العام 2007. وسرعان ما يشعر قارئ القصة اليوم، أنه ليس المخاطب في النص. إن القارئ الذي في النص قارئ آخر، ينتمي لزمن آخر كانت قصة القصة، قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى على تلك الشاكلة، تبدو له غريبة. هل يعني هذا أن هذه القصة عديمة الجدوى أم انه يجدر أن نقرأها غير غافلين عن زمن كتابتها؟
جبرا وموضوعات قصصه:
ربما يتذكر المرء، وهو يقرأ أكثر قصص جبرا القصيرة، وربما أكثر رواياته أيضا، بخاصة "صراخ في ليل طويل"، ربما يتذكر القصص الأولى في القصة القصيرة الفلسطينية، وتحديدا قصص خليل بيدس "مسارح الأذهان"، وربما يتذكر المرء أيضا مقولات النقاد فيها. إنها قصص لم تكن تمت للبيئة العربية، في حينه، بصلة، وهذا ما جعل د. هاشم ياغي يقول الشيء نفسه عن قصص جبرا: إنها منبتة الجذور، ولا صلة لها بالحياة الفلسطينية.
وحين يقارن المرء ما كتبه جبرا بما كتبه قاصان بارزان في حينه، هما سميرة عزام وغسان كنفاني، فانه، لا شك، سيعزز ما قاله د. ياغي. وجبرا هنا مثل فدوى طوقان وتوفيق صايغ. كان أكثر الأدباء الفلسطينيين، في الخمسينات من القرن العشرين، يكتبون عن قضايا وطنية، واجتماعية لها صلة بالواقع العربي، فيما كان جبرا، ومثله فدوى و صايغ، مشغولا بالتعبير عن تجارب ذاتية عاشها في لندن وبغداد غالبا. وأجواء لندن وبغداد،وتجارب جبرا فيهما بعيدة كل البعد عن الواقع الفلسطيني الذي لم يأت عليه جبرا في قصصه إلا لماما.
هل نتذكر هنا ما قالته فدوى طوقان عن رد فعلها إزاء طلب أبيها منها أن تكتب، بعد وفاة إبراهيم، شعرا وطنيا؟ في سيرتها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تعلمنا فدوى أن أباها، طلب منها ذات يوم، بعد وفاة إبراهيم، أن تكتب قصائد وطنية، هو الذي كان يهملها ولا يلتفت إليها، ولا يسمح لها بالمشاركة في الأحداث السياسية. وتعلمنا أيضا عن ردة فعلها، إذ رفضت تلبيه طلب أبيها متسائلة: بأي حق يطلب أبي مني أن أكتب شعرا وطنيا، ولم يكن يسمح لي بالخروج من المنزل، وأنا لا أكتب إلا عن تجارب أمر بها؟
وجبرا كان، في نهاية الأربعينات، وبداية الخمسينات، بعيدا عن فلسطين، ولم يعش مآسي الناس ونكبتهم، ولم يمر بها، وهكذا لم يكتب عنها إلا لماما. لقد كتب عن تجاربه في لندن، عن دراسته هناك، وعن علاقته بالفتيات الإنجليزيات والشباب الإنجليز وغيرهم من زملاء الدراسة، وهذا ما يبدو جليا في قصة "السيول والعنقاء".
كانت سميرة عزام تقيم في لبنان، وكان غسان كنفاني أقام في الشام أولا، وبعد فترة قصيرة أقامها في الكويت، عاد إلى لبنان ليقيم فيها قريبا من المخيمات الفلسطينية التي عرف أبناءها واستوحى شخوص قصصه منهم، وهكذا كتب، مثل سميرة عزام، في بعض قصصها، عن النكبة وما جرته على الفلسطيني. عن اللجوء واللاجئ، والخيمة والذل والحصار. هل نلوم جبرا على ما كتبه؟ ربما كان هو نفسه أدرك هذا فيما بعد، وربما لهذا كتب روايته "البحث عن وليد مسعود" التي جاءت مغايرة، في موضوعها وانتماء بطلها الفلسطيني، لكثير مما كتب. ربما.
***
2- تقنيات النص السردي في أعمال جبرا رسالة ماجستير لعدوان نمر عدوان
يواصل طلبة جامعة النجاح الوطنية إنجاز دراساتهم حول الأدب الفلسطيني ، ولقد أنجز هؤلاء ، حتى الآن ، العديد من الرسائل التي تأتي على ظواهر أدبية وقضايا نقدية ، وعلى أعلام بارزين لم يدرسوا ، حتى اللحظة ، دراسة أكاديمية ، إلا أقلهم .
لقد أنجز الطلبة دراسات تتناول الشخصية في الرواية الفلسطينية ، والسخرية في الشعر الفلسطيني ، والرواية في الضفة والقطاع ما بين 67 و 1993 ، وتقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا ، كما أنجز طلبة آخرون دراسات تمس أعمال كتاب بعينهم مثل يحيى يخلف وفدوى طوقان ، وهناك دراسات قيد الإنجاز تتناول أعمال حنا إبراهيم وتوفيق فياض والمتوكل طه وأكرم هنية وعبد اللطيف عقل وحنا أبو حنا وسميح القاسم .
ولا شك أن هذه الدراسات ، وأخرى غيرها ، ستضع حداً للشكوى التي تصدر عن أدبائنا ، وهي شكوى مفادها أن نصوصهم لا تدرس ، وأن أساتذة الجامعات يتعالون على الأدب المحلي .
من الرسائل التي أنجزت مؤخراً رسالة الطالب عدوان نمر عدوان ، وعنوانها "تقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية" ، وقد أشرف عليها الدكتور عادل أبو عمشة ، وناقشها الدكتور مهدي عرار من جامعة بيرزيت وأنا من جامعة النجاح الوطنية .
تكونت الدراسة من مقدمة ، وتمهيد أتى فيه الدارس على مصطلحات النقد الروائي : السرد والزمن والفضاء ، ومن ثلاثة فصول ؛ الأول عنوانه تلاعبات السرد في رواية "السفينة"ورواية "يوميات سراب عفان" ، والثاني عنوانه الزمن في "السفينة" وفي رواية "البحث عن وليد مسعود" ، والثالث عنوانه بنية المكان في السفينة وفي رواية "الغرف الأخرى" ، وأنهى الدارس دراسته بخاتمة موجزة .
يعرض الدارس في المقدمة اختلاف المنهج الذي اختاره ، وهو المنهج البنيوي ، عن المناهج الأخرى التي تعالج الأدب اعتماداً مع معطيات أخرى خارجية . ويعلن عن النصوص التي سيعالجها وتلك التي يستبعدها ، وقد استبعد "صراخ في ليل طويل" و "صيادون في شارع ضيق" و "عالم بلا خرائط" ، لأن جبرا كتب الأولى والثانية بالإنجليزية ، والثالثة بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف . ولئن كان استبعاد الثالثة مقنعاً فإن استبعاد الأولى والثانية يبدو غير مقنع ، فالدارس لم يعالج اللغة ليميز بين لغة المؤلف ولغة المترجم ، وإنما عالج السرد والزمن والمكان ، وهذه كلها خاصة بالمؤلف لا بالمترجم .
ويأتي الدارس في المقدمة على النصوص التي يعتمدها للدراسة ، فيختار "السفينة" نصاً محورياً ليدرس فيه السرد والزمن والمكان ، وليتخذ من "يوميات سراب عفان" نصاً آخر يعالج فيه السرد أيضاً ، ومن "البحث عن وليد مسعود" نصاً آخر يعالج فيه الزمن ، ومن "الغرف الأخرى" نصاً آخر يعالج فيه المكان . وأرى أن الكاتب لم يكن موفقاً في اعتماد النص ، فيوميات سراب عفان مثلاً تسرد من ساردين اثنين ، تماماً كما أن السفينة تسرد أكثر فصولها ، باستثناء فصل واحد ، من ساردين اثنين ، وكان يفضل لو اعتمد الدارس نصاً آخر لجبرا يسرد بطريقة مختلفة حتى يبين لنا اختلاف اللعبة السردية في نصوصه ، وكان سيكون أكثر توفيقاً لو أنه اختار "صيادون في شارع ضيق" لأن بنيتها السردية تختلف عن البنية السردية للسفينة .
وتعاني المقدمة أيضاً من خلل آخر يتمثل في تنويه الدارس إلى بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها . يأتي الدارس على مصادر ومراجع ويغفل أخرى أهم ، ولئن كان كتاب سعيد يقطين وحميد الحمداني مهمين ، فإن الإشارة إلى دراسة السعافين وعبد الحميد محادين وإغفال الإشارة إلى كتاب يمنى العيد "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي" يبدو أمراً محيراً ، وكان الدارس اعتمد على دراسة يمنى العيد ، إذ كيف يغفل الدارس الإشارة إلى مصدر ويأتي على ذكر مرجع . إن معالجة العيد تختلف عن معالجة السعافين ومحادين ، فهي تنظّر للمنهج ، خلافاً للآخرين اللذين اعتمدا تارة عليه دون التنظير إليه ، كما هو في دراسة محادين ، أو اعتمدا على مناهج أخرى ، كما هو الحال في دراسة السعافين .
وثمة خطأ فادح وقع فيه الدارس في المقدمة أيضاً ، وذلك حين كتب عنواناً فرعياً هو "بعض الدراسات التي عالجت موضوع البحث" ، فالدراسات التي ذكرها لم تعالج ما يعالجه هو ، وإلا لما كان هناك مبرر لبحثه . لقد عالجت الدراسات أدب جبرا من زوايا مغايرة واعتماداً على مناهج مختلفة . وكنت شخصياً طلبت منه أن يستعيض عن التمهيد الذي يتكرر في المتن بالوقوف أمام الدراسات السابقة وعرضها حتى يبين اختلاف دراسته عنها ، ليظهر للآخرين مبرر هذه الدراسة وأهميتها ، ويبدو أن السرعة هي التي أوقعته في هذا المطب ، كما أوقعته في خطأ الاختيار . لقد اختار دراسات وأهمل أخرى ، وبعض الدراسات التي أهملها أهم من تلك التي عالجها . لقد أغفل مثلاً دراسة فاروق وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" وأتى على دراسة عمر شاهين ودراسة خليل الشيخ ، وتعد دراسة وادي أكثر شمولية من هاتين .
وأما التمهيد الذي يقع في أربع عشرة صفحة فقد عرف فيه المصطلحات التي وظفها في دراسته ، وهي مصطلحات يعثر المرء على أكثرها في كتب يمنى العيد "تقنيات النص السردي" وحميد الحمداني" بنية النص السردي" وعبد الملك مرتاض "في نظرية الرواية" وفي دراسات أخرى كدراسة عبد العالي بوطيب في فصول (1993) . ولئن كان الدارس أعاد كتابة هذه المصطلحات ، فإنه لم يعتمد على أصول وحسب ، لقد اعتمد أيضاً على مراجع ثانوية تعتمد على هذه الأصول ، ولعله أراد أن يظهر للآخرين مدى إحاطته بالدراسات الحديثة التي أتت على تقنيات السرد ، وهكذا لم يحسن استخدام المصادر والمراجع ، وفي عدم توظيف هذه توظيفاً جيداً وقع في الدراسة في أخطاء كان يمكن تلافيها ، من ذلك مثلاً أنه يوظف مصطلحات لها تسميات مختلفة ولكنها تؤدي المعنى نفسه . حقاً إنه يشير في التمهيد إلى هذا ، وهو ما يبدو في ص18 حيث يكتب "القفزة أو القطع أو الحذف "إلا أنه لا يقرّ على قرار واحد – أعني أنه لم يحدد مسبقاً أية تسمية سيختار ، علماً بأنه أشار في المقدمة ، وتحديداً في ص5 ، أشار إلى اختلاف الدارسين العرب في تعريب المصطلحات التي نقلت إلى العربية من لغات أوروبية عديدة ، وأتى بأمثلة على ذلك .
يمتد الفصل الأول الخاص بالسرد من ص23 إلى ص55 ويأتي فيه على الفصول التي يسردها كل من عصام السلمان ووديع عساف و(إميليا فرنيزي) في السفينة ، وكل من سراب عفان ونائل عمران في يوميات سراب عفان . ويعرض لهوية هؤلاء وطريقة سردهم وطرق حكي الأقوال – هنا نلاحظ مثلاً في ص49 أن الدارس يعتمد على كتاب عبد الحميد محادين "التقنيات السردية في أعمال عبد الرحمن منيف" ولا يعتمد على كتاب يمنى العيد ، وكتابها أسبق وأكثر صلة بالمنهج من ناحية نظرية - .
ويكتفي الدارس ، وهو يتناول جانب السرد ، بجانب واحد إلا ما ندر ، من جوانب السرد . إنه لا يأتي على جانب آخر مهم هو المسرود له ، تماماً كما أنه لا يلتفت إلى البنية السردية للنص . لكأن السرد يخص السارد فقط ، علماً بأن الدراسات الحديثة التفتت إلى المروي عليه / المسرود له ، وهنا يمكن أن نشير إلى دراسة (جبرالد برنس) : "مقدمة لدراسة المروي عليه" ، وهي دراسة نقلت إلى العربية ونشرت في مجلة فصول في العام 1993 . ولما كان الدارس أشار إلى أنه سيعتمد على المنهج البنيوي ، فإنه لم يقف أمام جانب مهم من جوانب هذا المنهج ، وهو جانب بنية النص والعلاقة بين فصول الروايات ، أهي علاقة تواز أم إتمام أم عكس ؟ . في كتابه "بنية النص السردي" ، وهو كتاب اعتمد عليه الدارس ، يناقش حميد الحمداني موضوع السرد ، ويرى أنه يتكون من راو ومروي عليه ومن القصة : "وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها ، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها يتعلق بالراوي والمروي عليه ، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها" (ص45 من ط1993/ بيروت) .
وما كان يجدر أن يقف أمامه الدارس هو توضيح طبيعة سارد جبرا : أهو كلي المعرفة أم جزئيها ؟ أهو سارد مشارك دائماً أم غير مشارك أحياناً ؟ أهو سارد حيادي أم غير حيادي؟ وكنت أتمنى لو أنه ربط بين المنهج البنيوي والبنيوي التكويني ، ليفسر لنا لماذا غلب على جبرا نوع معين من الساردين . لقد ذهبت ، شخصياً ، في أثناء كتابتي عن السارد في نماذج روائية فلسطينية إلى أن سارد جبرا في السفينة سارد يتقبل آراء الغير ، ولا يرى في ذاته الصواب المطلق، وربطت هذا بطبيعة جبرا المثقف الليبرالي (حول ذلك انظر مجلة كنعان (رام الله / الطيبة) ، ع93 ، تشرين ثان من العام 1993 . ص59 وما بعدها) . وكنت أفضل لو أن الدارس نظر في روايات حبرا كلها ، وتحدث عن طبيعة السارد فيها كلها مبيناً الاختلاف بين الساردين ليوضح لنا أن روايات جبرا لا تتبع طريقة واحدة في السرد ، وأسلوباً واحداً في طريقة العرض هو أسلوب وجهات النظر .
يمتد الفصل الثاني الذي يعالج فيه الزمن من ص57 إلى ص95 . يأتي الدارس على الزمن في السفينة ويعالج الزمن الداخلي : الزمن الروائي وزمن القص ، ويتوقف أمام تقنية الاسترجاع وتقنية الاستباق ، وأمام الديمومة والتواتر . يتوقف الدارس أمام المصطلحات ويحاول أن يأتي بأمثلة يدلل عليها ؟ وما يبدو مربكاً هنا أن الدارس أغفل في الفهرس وفي المتن أيضاً ذكر أولاً فيما ذكر ثانياً وثالثاً . لقد أورد الديمومة تحت ثانياً والتواتر تحت ثالثاً ، ويحار المرء أين تكون أولاً . أتكون أمام "تقنيتا المفارقة السردية" أم أمام عبارة أخرى غيرها ؟ وحين يأتي على زمن القص – أي زمن السرد – يعتمد على معطيات خارجية لتحديده ، وهو ما يبدو في هامش رقم 6 ، في ص59 : صرح جبرا بأن الزمن في السفينة محدد بأسبوع واحد" ، وقد رأى الدارس أنه محدد بسفر السفينة من بيروت في أوائل حزيران حتى رسوها في نابولي بعد عدة أيام. ويعرف هذا الزمن ، بعد تحديده ، اعتماداً على تعريف سعيد يقطين له في كتابه "تحليل الخطاب الروائي" . وكان الدارس قد عرفه في الصفحة السادسة عشرة – أي في التمهيد . ويلاحظ اختلاف التعريفين ، وذلك عائد إلى اعتماده على أكثر من مرجع . في ص16 يعتمد على كتاب حميد الحمداني "بنية النص السردي" وعليه يورد تحت زمن السرد : "أما زمن السرد أو القض فهو زمن الحاضر الروائي أو الزمن الذي ينهض فيه السرد" . فيما يورد في ص59 : "وزمن القص في الرواية (السفينة) هو حاضر التكلم أو الدرجة الصفر الذي يتيح إمكانية تحديد اللاحاضر سواء كان ذلك من قبل أو من بعد" .
ويتناول الدارس بعد ذلك رواية "البحث عن وليد مسعود" ؛ يتناولها فصلاً فصلاً ليظهر بنية الزمن فيها : الزمن المروي وطريقة السرد اعتماداً على الزمن : الاسترجاع ، كم الاسترجاع ، الاستشراف … الخ . وهكذا يلحظ أن الدارس اكتفى بالوصف وبمتابعة سير الزمن الداخلي ، ولم يلتفت إلى الأزمنة الخارجية : زمن الكتابة وزمن النشر الأول ، ولم يعالج صلة هذه الأزمنة بالأزمنة الداخلية ، وكان قبل إخراج الدراسة في شكلها النهائي قد أتى على ذلك وتساءل عما ينجم عن عدم مطابقة الزمنين : زمن الكتابة وزمن السرد معاً . ويبدو أن الجدل الذي أثير في النقاش جعله يغض الطرف عن سؤاله الذي كان أثاره : ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ وعدم الالتفات إلى هذا السؤال جعله أكثر التزاماً بالمنهج الذي اختطه لنفسه ، وإن كنت أود لو أنه جمع بين المنهج البنيوي والمنهج البنيوي التكويني هنا ، ليبقي على السؤال وليجيب عنه إجابة واضحة مقنعة . حقاً ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ ما الذي ينتج عن كتابة نص في زمن ما ، يعالج – أي النص – زمناً غير زمن الكتابة ؟ أيستطيع مسترجع ذلك الزمن أن يتمثله كما كان ؟ أيستطيع أن يكون دقيقاً في الكتابة عنه أم أنه يقع أسير زمن الكتابة ؟ لقد استرجع جبرا ، في نصوصه التي كتبها منذ الستينات ، أحداث عام 1948 ، وكانت المسافة بين الزمنين ؛ زمن الكتابة وزمن تلك الأحداث تمتد من اثنتي عشرة سنة ، كما في صيادون ، إلى سبعة وعشرين عاماً ، كما في البحث عن وليد مسعود ، وكان جبرا يقيم في بغداد أو في غيرها من المدن ، فكيف كتب عن تلك السنوات ؟
يمتد الفصل الثالث من ص97 – ص129 ، ويعالج فيه المكان في السفينة وفي الغرف الأخرى . يفتتح الدارس هذا الفصل بعبارة "إن لون الماء هو لون الوعاء الذي فيه " وينسب العبارة إلى "الجنيد" دون ان يفصح عن هوية "الجنيد"هذا . ويوضح علاقة المكان بالمرجعي ، ويعالج المكان في النصين المذكورين. هنا نجد الدارس يستخدم عبارات تحتاج إلى توضيح وإعادة نظر فيها ، من ذلك حين يربط بين الزمان والمكان ، وتحديداً حين يتحدث عن زمن القص وزمن المغامرة ويرى أن "زمن القص يختلف عن زمن المغامرة" وهو حكم قابل لأن يُساءل . هل يختلف دائماً زمن القص عن زمن المغامرة ؟ ماذا مثلاً حين أقص الآن عن شيء يجري الآن ؟ ألا يتطابق واللحظة التي أنا فيها وعليها . قد يختلف زمن الكتابة عن زمن القص ، وهذا ما يحدث غالباً ، حيث نكتب عما جرى بعد الانتهاء منه ، إلا في الشعر الذي يستجيب لحدث لحظي في تلك اللحظة ، خلافاً للقصة أو الرواية التي غالباً ما تنجز على الورق بعد الانتهاء من الحدث ، اللهم إلا إذا أخذنا نكتب عما يجري وقت جريان الحدث . هنا تصبح الكتابة سرداً ، وهنا يتطابق الزمنان أيضاً ، بل الأزمنة الثلاثة ، زمن الكتابة وزمن السرد وزمن الوقائع ، ويصبح الزمنان الأول والثاني زمناً واحداً أصلاً لتداخل الكتابة بالسرد ، خلافاً للكتابة التي تنجز فيما بعد زمن السرد الذي قد يكون حدث في زمن سابق ، هذا حين يختلف السارد عن الكاتب وينجز كل فعله في زمن مغاير .
يربط الدارس بين المكان والشخوص ، ويحتل المكان قيمته من علاقته بصاحبه ، وبما أن الشخوص في "السفينة" ينتمون إلى أمكنة مختلفة ، وبما أن المكان تارة حر وطوراً مغتصب ، فإن الذات التي ترتبط بمكان حر لا ترى في المكان ما تراه الذات التي اغتصب مكانها . إن فلسطين لوديع عساف الفلسطيني تعني الكثير في نظره ، وتظل محط أنظاره أينما حل وارتحل وتشغل ذهنه ، ولئن كانت العراق مهمة لعصام السلمان وللدكتور فالح ، فإنها ، لأنها غير مغتصبة ، تبقى طوع البنان . وارتباط وديع عساف بمنطقة بيت لحم والخليل غير ارتباط صديقته الدكتورة التي يرغب في الزواج منها ، فهي ، خلافاً له ، لم تنشأ في تلك المنطقة التي نشأ هو فيها .
وإذا كانت مرجعية المكان في السفينة محددة ، وإذا كانت الأسماء معروفة ، فهي ليست كذلك في الغرف الأخرى . وربما كان اختيار الدارس للغرف الأخرى اختياراً موفقاً .
في هذا الفصل ، كما في الفصول السابقة ، يعتمد الدارس على مراجع ثانوية ، ولا يعتمد على الأصول . ويخيل إليّ أحياناً أنه يكتب عبارات دون أن يعيها جيداً ، وأنه يقلد كتّاباً آخرين في أحكامهم دون أن يفصح عن ذلك في نصه المدروس . في ص107 يكتب : "تعبر الكويت عن ظاهرة اجتماعية حصلت بعد احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية ، وهي اغتراب الفلسطينيين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، خلافاً لبيروت التي كان الاغتراب فيها لأجل الدراسة أو البحوث" وهذه العبارة تقليد لما كتبه محمد عبد المطلب في دراسته التي نشرها في مجلة فصول ، وعنوان الدراسة "تدخلات الرؤية والسرد والمكان في رواية هالة البدري "منتهى" (فصول ، ربيع 1998 ، ص303) . ما كتبه الدارس آنفاً هو محاكاة لما كتبه محمد عبد المطلب :
"أما الأماكن العربية : السعودية والكويت ، فإنها تمثل مؤشرات على ظاهرة اجتماعية استفاضت بعد ذلك ، هي اغتراب المصريين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، على عكس الاغتراب في أوروبا الذي كان طلباً للثقافة والمعرفة ، وهذا وذاك يمثل إضافة إلى الواقع المكاني لمنتهى" .
وأرى أن كثيراً من عبارات الدارس كانت قياساً أو اقتباساَ دون تمثل كامل .
في ص 113 من الدراسة يتحدث الدارس عن الفضاء النصي رواية السفينة ، ويورد عشرة أسطر عن تشكل الرواية على الورق ، مبيناً صفحات كل فصل ، ويعود في ص114 ليرسمَ مربعاً يحتوي على عشرة مستطيلات يورد في كل مستطيل رقم الفصل ومكوناته من الصفحات ، وهذا لا ضرورة له .
وتتكون الخاتمة من ثلاث صفحات يأتي فيها على ما أتى عليه في الفصول ، ولا يستطيع الدارس الذي ذكر أنه سيوظف المنهج البنيوي ، لا يستطيع إلا أن يبدي إعجابه بنصوص جبرا ، وهكذا يصدر أحكام قيمة تتنافى وهذا المنهج الذي يدعو إلى الحياد ، لأنه يريد أن يجعل من النقد علماً . يكتب الدارس :
"تعرض روايات جبرا خطابها الشيق بأساليب سردية متنوعة مقدمة عن طريق ساردين يوليهم جبرا أهمية عظيمة …" .
ويكتب أيضاً :
"من كل ذلك يمكن ملاحظة عناصر الجمال في العمل الروائي من سرد ومكان وزمان وقد تشابكت لتشكل لوحات فنية سردية في غاية الجمال والروعة وتستعصي على القراءة التقليدية ، إن الرواية عند جبرا عالم آخر مجهول يكشف لك عند كل قراءة جديدة عن جسد روائي عذري تنتحر الكلمات عند لمس مفاتنه .." .
يكتب هذا وكأنه يقول : ليست ثمة قراءة نهائية لنصوص جبرا ، مؤكداً بذلك مقولة التفكيكيين .
***
3- الأدباء الفلسطينيون والأحذية.. قراءة في خمس سير ذاتية وروائية وقصصية
في أثناء تدريسي مقطع من سيرة جبرا إبراهيم جبرا " البئر الأولى " ( ١٩٨٦ منشورات رياض الريس في لندن ) كنت أقص على الطلاب حكاية كتابته سيرته وتركيزه فيها على سنوات طفولته المبكرة وتحديدا منذ كان في الخامسة من العمر حتى الثانية عشرة منه .
غالبا ما اتهم جبرا بأنه كاتب برجوازي كتب عن المثقف الفلسطيني ميسور الحال ولم يكتب عن نماذج فلسطينية فقيرة أو عن اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات ، بخلاف غسان كنفاني ، ويبدو أن هذا الاتهام أزعجه فأراد أن يدافع عن نفسه وأن يقول إنه لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب وأن طفولته كانت بائسة فقيرة معدمة جدا .
أوضح جبرا ما سبق في مقدمة سيرته آتيا على دافعه لتركيزه على سبع سنوات من عمره من حياته ، فكتب عن البيوت البائسة التي أقامت أسرته فيها في بيت لحم وعن عمل أبيه غير المستقر وغير المجدي ، وذكر حكايات وقصصا طريفة منها قصة أبيه وعدم قدرته على شراء الأحذية ومنها قصة الحذاء الذي كوفيء به هو نفسه من الكنيسة التي تردد عليها طفلا بسبب مواظبته على الحضور .
فرح جبرا بالجائزة واحتفل بها ، بخاصة أن أعياد الميلاد على الأبواب ، ولكن فرحته لم تطل ، فوالده الخبير بالأحذية ، حيث عمل مصلحا لها ، اقترح على زوجته أن يبيعا الحذاء الذي كوفيء به الابن وأن يشتريا بثمنه طعاما لأعياد الميلاد ، وحين زعل جبرا اقترح أبوه على أمه أن تشتري له حذاء من حارة اليهود في القدس بسعر معقول . حزن جبرا من ناحية وفرح من ناحية ثانية ؛ حزن لأنه خسر الحذاء الفاخر وفرح لأنه سيزور القدس مع أمه . ( جبرا إبراهيم جبرا ، البئر الأولى ، منشورات رياض الريس ، لندن ١٩٨٦ ، صفحة ٧٢ - ٧٥ )
حكاية جبرا مع الحذاء ليست الحكاية الوحيدة للأدباء الفلسطينيين معه - أي الحذاء ، فهناك حكايات أخرى أكثرها لافت ، وكثيرها يعبر عن حياة الفقر التي عاشوها وقليلها يشير إلى فقر المحيطين بهم .
قبل الحديث عن حكايات هؤلاء الأدباء مع الحذاء يجدر أن أنقل الفقرة الآتية من سيرة جبرا عن قصة أبيه والحذاء :
يعود والد جبرا ذات نهار ومعه إطارة مطاطية قديمة ويحضر صندوق عدة تصليح الأحذية ويقتطع من الإطارة بسكين قطعتين قصهما وفق طول قدمه ويثقبهما ثقوبا أدخل فيها حبلا رفيعا ، وحين انتهى من عمله لبسهما وشد كلتا القطعتين بالحبل ، وخاطب زوجته مريم :
- شايفه يا مريم ؟! أحسن وطا !
ولما لم يرق مشهد الوطا لجبرا يسأل أباه :
" - يابا ، لماذا لا تشتري حذاء من الكندرجي ؟
قال : " عندما تكبر تفهم . أتعلم كم قرشا يريد الكندرجي للحذاء ؟ عشرين قرشا ، وإذا تساهل خمسة عشر قرشا . حذائي القديم بدأ يتهرأ بالاستعمال ، ولهذا سأحتفظ به لأيام الأحد ، فما رأيك يا أفندينا ؟" ( ، جبرا ، ص٤٣ ) .
في سيرته " دفاتر فلسطينية " ( ١٩٧٨ ) يكتب معين بسيسو عن أحد تلاميذه في مدرسة البريج . ترك التلميذ المدرسة ليعمل شيئا ما . أعطاه والده كل ما يملك ، فاشترى صندوقا خشبيا وبعض برطمانات الدهان وفرشاتين ، ولكن حلت بأهله نكبة فاحتاج بعض النقود وطلبها من معين " كيف أقول له إنني وأنا ناظر مدرسة البريج الإعدادية لم أكن أملك تلك الجنيهات ، وما زلت في منتصف الشهر ... ؟
وبشكل تلقائي خلعت حذائي وقدمته له ، وكان حذاء جديدا أرسله لي أخي من الكويت ، وكان أول مرة أمشي به ، هو هذه الليلة احتفالا بتوزيع المنشور .
- خذه معك . هذا كل ما أملك ، وأخذه الصبي ومضى ... وعدت إلى البيت بجوربين مرصعين بالوحل " ( معين بسيسو ، دفاتر فلسطينية ، منشورات شمس في باقة الغربية ، ١٩٩٨ ط ٣ ، ص ٥٢ ) .
وإذا كان جبرا استرجع حكاية أبيه مع الحذاء ، وأغلب الظن أن هذا حدث في عشرينيات القرن العشرين ، فإن الكتاب الفلسطينيين الذين عاشوا في فترة قريبة عاشوا الفقر نفسه ومروا بتجارب قريبة .
في سيرته الذاتية " شجرة المعرفة : ذكريات شاب لم يتغرب " التي صدر جزؤها الأول عن منشورات الأسوار في عكا عام ١٩٨٨ ، وصدرت مكتملة في العام ١٩٩٦ يكتب حنا إبراهيم في الفصل الأول منها تحت عنوان " على عتبة حياة العمل " عن فقره المدقع في أربعينيات القرن العشرين ويقص حكايات طريفة عن حذائه الذي بلي لكثرة السير وقلة العناية .
مرة استدعي حنا لمقابلة عمل في دائرة مساحة الأراضي فسر بعد يأس وشعر بخفة عجيبة وبرغبة في السير ولكن حذاءه لم يكن بحالة تسمح بذلك ، وكان لا بد من إصلاحه عشية المقابلة العتيدة . كان ثمة إسكاف على مقربة يعمل في بيته ويستقبل الزبائن إلى وقت متأخر من المساء ، ولا يعزر الزبون إذا تأخر عن الدفع أكثر من المعقول . تعهدت والدة حنا بدفع التكاليف نقدا إذ لم تكن تحمل الدين . خلع حنا الحذاء وقدمه إلى الإسكاف فقال له :
- ترجع بكره أو بعد بكره .
ضحك حنا وقال :
- وتبقيني حافيا يا عمي أبو جميل ؟!
ويضطر أبو جميل إلى إصلاح الحذاء ، فلم يكن حنا يملك غيره ، ولأن الإصلاح يحتاج إلى ساعة ونصف ، فقد انطلق حنا إلى الشاطيء يتمشى حافيا ، ولم يكن السير حافيا غريبا عليه . ( حنا أبو حنا ، شجرة المعرفة : ذكريات شاب لم يتغرب ، مؤسسة الأسوار ، عكا ، ١٩٩٦ ، ينظر ص ١٣ ) .
ويوضح حنا عبارته " لم يكن السير حافيا غريبا عليه " ، فقد قضى أربع سنوات في مدرسة الرامة القريبة من قريته البعنة ، وكان يتنقل في الإجازة الأسبوعية بين القريتين مشيا " وكيما أحافظ على الحذاء ، فقد كنت أخلعه حال خروجي من الرامة وأمشي حافيا حتى أصل إلى البعنة ، وهكذا كنت أفعل في طريق العودة ، وأغسل قدمي في عين الصرار أو عين الحضين - حسب الطريق التي أسلكها - وأدخل القرية كأي إنسان محترم " ( حنا إبراهيم ، ص ١٤ ) .
لم يكن الفقر في تلك الأيام مقتصرا على حنا ، ما جعل المدرسة تتساهل في أمر اللباس الموحد بل وأكثر من ذلك ، ف " كثيرا ما كنا نذهب إلى المدرسة حفاة وخصوصا حين يكون الطقس معتدلا ، وعليه أصبح السير حافيا بين البلدين أمرا عاديا بالنسبة لي " ( حنا إبراهيم ، ص ١٥ ) .
في السنة نفسها التي أصدر فيها الكاتب سيرته كتب الأديب طه محمد علي قصته " سيمفونية الولد الحافي " ما يكون " " ، وهي قصة طريفة جدا يسترجع فيها زمنا آخر غير الزمن الكتابي ١٩٩٦ ، إنه يسترجع زمن طفولته - أي الزمن الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ ، وهو الزمن الذي كتب عنه تقريبا كل من جبرا إبراهيم وحنا إبراهيم في سيرتيهما ، وتكاد قصة طه محمد علي تكون أيضا مقطعا من سيرته الشخصية .
يفتتح الكاتب قصته بالفقرة الآتية :
" العشر سنوات الأولى من حياتي سرتها حافي القدمين ، غير أن مرارة إحساسي بالحرمان من الحذاء ، وطغيان رغبتي في الحصول عليه يوم حادث حذاء المغربي وحده ، فاقا ، والله ، كل عذابات الحفاء التي كابدتها في سني العشر مجتمعة " ( طه محمد علي ، الأعمال الكاملة ، دار راية للنشر ، حيفا ، ٢٠١١ ، ص ٣٥٦ ) ، وهو ما يتكرر في القصة ثانية بعد أربع صفحات " هذا بحذافيره حقيقة ، لكن حقيقة الحقائق ، أيضا ، أن شتيت ما عذبني وعانيت منه وأشقائي على مدار عشر سنوات حفاء قد جمع كله في يوم حادث حذاء ذلك المغربي ، فما هي قصة حذاء المغربي ؟
لم تكن بلدة أنا المتكلم / السارد تخلو من دكان بيع أحذية ولكن أسعارها كانت مرتفعة ، فقد كان في بلده يومها أكثر من دكان واحد يبيعها ، بل " وهناك من يصنعها ويقدم الزوج منها عن طيب خاطر لمن يبذل الجنيه والنصف أو الجنيهين ، ثمنا له " ( طه محمد علي ، ص ٣٦١ ) ، وكانت مشكلته تكمن في مبدأ " مانع اللذات " ، مبدأ ادفع واحمل الذي يحكم التعامل مع الأحذية جميعا سواء كانت في دكاكين بلده أو في خرجة المغاربة الذين يأتون من المغرب الشقيق يبيعون الأحذية .
عندما عرف أنا المتكلم يوما أن هناك مغربيا يبيع أحذية بسعر زهيد ذهب إليه وشاهدها ، فسأله عن سعرها الذي بدا له معقولا ، وسرعان ما عاد إلى البيت ليحضر العشرين قرشا التي استدانت أمه من جارتها خمسة قروش لتجمعها .
يذهب أنا المتكلم إلى المغربي فيجده باع أحذيته كلها إلا فردتين يمينيتين لا تصلحان للبيع ، ويصر هو على شرائهما مع أن المغربي أوضح له أن هذا غير ممكن ، إذ لا يستطيع ارتداءهما .
عندما يرتدي خالد الحذاء توجعه قدماه ، فيطلب منه والده أن يشلح الكندرة لأن الفردتين يمينيات . ينصاع خالد وهو يبكي لأمر والده ويرد الحذاء للمغربي ذي الجسد النحيل واللحية السمراء ، الذي أرجع له ثمنه مع ما يشبه الاعتذار :
- قلت لك ما ينفعكاش .
هل كان خالد في القصة هو طه محمد علي نفسه ، فأكثر قصص مجموعته التي حمل عنوانها عنوان القصة المدروسة تتحدث عن بيئة قريته صفورية .
الشاعر راشد عيسى ابن مخيمي عين بيت الماء وعسكر الجديد من مواليد سنوات النكبة وقد عاش طفولة فقيرة بائسة دونها في رواية سيرية عنوانها " مفتاح الباب المخلوع "( ٢٠١٠ ) ولكنه في العام ٢٠٠٥ أصدر سيرة شعرية عنوانها " حفيد الجن " كتب قصائدها بين ١٩٩٨ و ٢٠٠٠ ، ضمت قصيدة صاغها بأسلوب قصصي عنوانها " حذائي " لخص فيها حكايته في طفولته مع الحذاء . ( راشد عيسى ، حفيد الجن ، سيرة شعرية ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، ٢٠٠٥ ) .
في القصيدة يكتب راشد أنه حتى السادسة من العمر كان حذاؤه كمشة رمل أو نصف حجر ، ثم صار بعدها قطعة خيش لا تقي من الشوك صيفا أو الوحل شتاء ، ولما كبر قليلا صنع حذاءه من عيدان شجر لوز ، وإذا ما اشترى له أبوه حذاء ولعب به الكرة ينهره ويسود عيشة أمه ويقول له إنه لو ثقبت رجله فستشفى ولو جرح حذاؤه فسيلزمه أن يدفع لمصلحه قرشين ، وهكذا يمنع عنه الحب لنصف سنة والخبز ليومين .
يكبر راشد ويوفر مصروفه ويشتري حذاء مرتوقا قديما بلا رباط ضيق على مقاس رجله وحين يعيده إلى البائع يرفض هذا إعادته ، فالخلل في اصبع قدم راشد لا في الحذاء ، وهكذا يكون لزاما عليه أن ينحت من قدمه قليلا .
أول ما يتوظف يشتري حذاء جديدا تماما أغلى من نصف معاشه لم يعتد ارتداء حذاء مثله من قبل ، وحين يجيء الليل ينومه قرب عيون الفانوس .
تكمن المفارقة في قصة راشد مع الحذاء أنه عندما كبر وامتلك المال وأتقن المشي صار لديه ثلاثون حذاء ولكن في الوقت نفسه سرقت منه قدماه ، فماذا ورد في السيرة الروائية ؟
يعيد راشد في السيرة الروائية كتابة حكايته عن حذائه مع إفاضات يحتملها النثر ولا تحتملها القصيدة الغنائية " لكن حذائي على الدوام قديم مهتريء أو واسع جدا أو ضيق جدا ... لذلك أفضل المشي نهارا بلا حذاء .. وقبل أن تغيب الشمس أجلس قرب عنزنا وأنزع الشوك وشظايا الزجاج من باطن قدمي .. كان الحذاء مشكلتي الكبرى .. حتى إنني في حصة الرسم الحرة رسمت رجلا كل أعضاء جسمه أحذية مهترئة "( راشد عيسى ، مفتاح الباب المخلوع ، منشورات أزمنة ، عمان ٢٠١٠ ، ص٩٠ ) .
يضحك المعلم ويسأل الطالب لماذا فعل هذا فيجيبه لأنه يحب الحذاء ، فالدنيا كلها حذاء مهتريء ، وارجح أن العبارة الأخيرة من إسقاطات الزمن الكتابي .
ويظل أبوه يمنيه بشراء الحذاء عندما يكبر ، وعندما يبدأ عام دراسي يأخذه أبوه إلى المدينة ويشتري له قميصا وبنطلونا وحذاء " ابتهجت بالحذاء .. فهذه أول مرة ألبس حذاء غير مستعمل .. جديدا غير مخزوق ولا مرتوق .. يلمع ..... لبست حذائي ومشيت في الحوش وأنا أنظر إليه باحترام .. وفي كل دقيقة أمسحه بكم قميصي ، حضنته وخبأته في بطانيتي التي أتغطى بها "( راشد عيسى ، مفتاح الباب المخلوع ، ص ١٢٨ / ١٢٩ ) ، ولكن فرحته مثل فرحة جبرا لم تطل ، ففي اليوم التالي يذهب إلى نابلس ليجمع أكياسا يبيعها ، وفي هذه الأبناء يطرق متسول فقير باب بيتهم يستجدي فيتناول والده البطانية ويعطيها له دون أن يعرف أن حذاء ابنه مخبأ فيها .
ما تجدر الإشارة إليه هو أن دال الحذاء احتل عناوين بعض المجموعات القصصية والروايات ، وهذا يحتاج إلى مقاربة أخرى مختلفة .
المصادر :
- إبراهيم ، حنا : شجرة المعرفة ، ذكريات شاب لم يتغرب ، منشورات الأسوار ، عكا ، ١٩٩٦ .
- بسيسو ، معين : دفاتر فلسطينية ، منشورات شمس ، باقة الغربية ، ١٩٩٨ . طبعة ثالثة .
- جبرا ، جبرا إبراهيم : البئر الأولى ، منشورات رياض الريس ، لندن ١٩٨٦ .
- علي ، طه محمد ، الأعمال الكاملة ، منشورات دار راية للنشر ، حيفا ، ٢٠١١ .
- عيسى ، راشد : حفيد الجن ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، ٢٠٠٥
- عيسى ، راشد : مفتاح الباب المخلوع ، دار أزمنة ، عمان ، ٢٠١٠.
***
4- جبرا إبراهيم جبرا وحضوره في الرواية العربية…
في كتابه «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسان كنفاني، أميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا» (1981) درس فاروق وادي نتاج هؤلاء الأدباء، وحلّله ولكنه لم يدرس تأثيرهم في الرواية العربية أو الفلسطينية. ويوم أصدر كتابه كان الروائيون الفلسطينيون الذين شكلوا جيلاً لاحقاً تالياً ما زالوا يتدرّبون على كتابة الرواية: يحيى يخلف، ورشاد أبو شاور، وسحر خليفة، ولم يكن إبراهيم نصر الله كتب، حتى 1981 تاريخ صدور كتاب وادي، أية رواية. كان شاعراً مبتدئاً. ولهذا لا يُلام وادي على عدم توقفه أمام ظاهرة تأثير هؤلاء الروائيين الثلاثة في الرواية العربية أو الفلسطينية، وأعتقد جازماً أن هذا من واجب النقاد الحاليين، فلقد ترسخت أعمال الروائيين الثلاثة وتعددت طبعاتها، وواصل الروائيون الصاعدون، منذ 1981، كتابة الرواية، وقد يكون د. فيصل دراج لامس الموضوع مؤخراً.
عرف جبرا في العالم العربي أكثر مما عرف في فلسطين، ذلك أنه أقام في بغداد وكتب عنها، وكان حضور الموضوع الفلسطيني في رواياته الأولى غير لافت، بل وظل كذلك، باستثناء رواية «البحث عن وليد مسعود» (1978) التي تعدّ روايته الوحيدة، تقريباً، في الموضوع الفلسطيني، حيث استأثرت به كلياً، لا جزئياً.
لم توزع روايات جبرا في فلسطين، ولم تُعَدْ طباعتُها، ولما أقيمت السلطة الوطنية وغدا لها وزارة ثقافة، أعيدت طباعة سيرة جبرا «البئر الأولى»، لا رواياته التي ظل الحصول عليها يتحقق من خلال ما يصل إلى فلسطين من نسخ قليلة العدد، أو من خلال سفر بعض الفلسطينيين إلى العالم العربي.
جبرا الذي ترك تأثيراً واضحاً في الحركة الشعرية العربية، من خلال ترجمته كتاب (جيمس فريزر) «الغصن الذهبي»، ومن خلال ترسيخ أسطورة تموز، ظل روائياً ذا حضور باهت، قياساً إلى حضور حبيبي وكنفاني، لدرجة أن الروائيين لم يكونوا قرؤوه جيداً، ومنهم أميل حبيبي الذي سُئل في العام 1987، في ندوة في القدس، عن رأيه في جبرا روائياً، فأجاب: لقد حاولت قراءته، ولكنني لم أستطع أن أُكمل رواية واحدة له.
كان أميل حبيبي يومها ماركسياً، وكان ينظر إلى جبرا على أنه روائي برجوازي. ولعلّ اختلاف الموقف قاد إلى اختلاف الموقف. وقد عاد حبيبي، في نهاية أيامه، ليعبر عن أسفه أنه لم يقرأ جبرا، وهذا ما ظهر في المقابلة التي أُجريت معه، ونُشرت في مجلة «مشارف» التي كان يترأس تحريرها: «وبالطبع، ومع كل الاحترام، لم أستطع أن أقرأ أكثر من 15 سطراً من بدايات روايات جبرا إبراهيم جبرا» ووجهة نظر أميل أنها روايات جافة «أنا لا اقرأ المواد الطويلة والجافة» (مشارف) 94، حزيران 1996، ص23).
والحقيقة أن شخصيات جبرا الروائية لم تحقق حضوراً لافتاً في الأدبيات الفلسطينية كما حققت بعض شخصيات روايات كنفاني وحبيبي. ولا أذكر رواية واحدة، مما قرأت، حضرت فيها شخصية جميل فران أو وديع عساف، بل وشخصية وليد مسعود. ربما تذكرت أسلوب جبرا، وأنا أقرأ رواية علي بدر الكاتب العراقي «مصابيح أورشليم» (2006) فالجزء الأول منها يشعرك أنك تقرأ إحدى روايات جبرا.
إلياس خوري: مثالاً:
يكاد إلياس خوري يكون من الكتّاب القلائل الذين حضرت بعض نصوص جبرا في رواياته، وأبدى ساردو هذه الروايات إعجابهم اللافت بلغة جبرا وبسيرته «البئر الأولى»، كما أنهم توقفوا أمام ما أوحى لجبرا بكتابة روايته «البحث عن وليد مسعود».
في «باب الشمس» (1998) يشير السارد المحاصر، وهو يتسلم من سناء الشريط الذي تركته أم حسن، بعد زيارتها الثانية إلى فلسطين، وتحديداً إلى الكويكات، يشير إلى الشريط الذي تركه وليد مسعود في رواية جبرا «البحث عن وليد مسعود» (1978)، ومن أجل هذا الشريط وفك لغزه «اضطر جبرا إلى إقامة رواية كبيرة وجميلة.» (ص99) ويعبر السارد عن رأيه في جبرا: «أنا أحبّ جبرا، لأنه يكتب بشكل أرستقراطي جملته نخبوية وجميلة» وعلى الرغم من فقره في طفولته «فقد صاغ جملاً أدبية بليغة، عليك أن تقرأها كما تقرأ الأدب، وليس كما أحكي معك الآن»، ويخيل إليّ أن إلياس تأثر بجبرا في جانبين: الشريط واللغة، فهو يعتمد على الأشرطة التي تصور له وهو يكتب عن مكان لم يزره، وهو يعتني بالجملة اعتناءً لافتاً، إنه يكتب أكثر مما يحكي، ولهذا تتشابه لغة رواياته الأخيرة التي هي ـ أي لغته ـ لغة كاتب أديب، لا لغة كاتب فقط.
في «أولاد الغيتو» يعبّر آدم عن إعجابه بـ»البئر الأولى» رغم عدم حبّه أدب السيرة الذاتية، ويرى أن سيرة جبرا هذه «أجمل ما كتب هذا المقدسي الأنيق والرائع» (ص99) ويبدي رأيه في الأدب: «أعتقد أن على الأدب ألاّ يشبه الحياة، بل أن يكون أدباً خالصاً لوجه اللغة وجمالياتها التي لا حدود لها.»
وسيختلف آدم هذا الذي أعجب بسيرة جبرا، مع جبرا حول مفهوم الذاكرة ويرى أن ما أدرك جبرا في «السفينة» (1970) من أن الذاكرة كالموسيقى ليس صحيحاً، فهي جرح في الروح لا يندمل.» ولذلك يتفق إلياس مع حبيبي في هذا الجانب، وربما لهذا كان تأثير أميل في إلياس أكبر بكثير من تأثير جبرا فيه.
***
5 - في ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا
مرت الذكرى ٣٨ لرحيل المثقف الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في هذا الشهر .
ما زالت مدينته بيت لحم ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ ١٩٦٧ ، فتحررها كان تحررا لفظيا شأنه شأن دولتنا اللفظية .
حلم جبرا في طفولته بخلق بحر ، وحاول ولكنه لم ينجح ، فالحفرة التي حفرها لتمتليء بالماء وتصبح بحرا سرعان ما تبخر ماؤها .
وحلم الفلسطينيون بتحرير فلسطين كاملة ثم اقتنعوا ، بعد يأس ، بدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة ، ثم ارتضوا أقل من ذلك ، فتبخر حلمهم كما تبخر حلمهم الحقيقي الذي يقبع في أعماقهم .
على خطا جبرا حلم إبراهيم نصرالله في روايته / سيرته " طفولتي حتى الآن " بإقامة / إنشاء مطار وبدأ طفلا يؤسس له ، ثم اكتفى من المطار بتذاكر الطائرات فطاف في هذا العالم ونزل في مطارات الدنيا كلها إلا مطار الرئيس الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات الذي آل مصيره إلى كومة تراب وخردة .
الخلاصة :
منذ ١٩٤٨ ونحن نراوح في المكان نفسه ينطبق علينا المثل " طيطي طيطي ، مثل ما رحت جيتي " .
الفلسطينيون هم سيزيف القرنين ٢٠ و ٢١ وهم طائر عنقاء الأسطورة ، ومقالي اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية عنوانه " طائر العنقاء الفلسطيني " حول رواية وليد الشرفا " أرجوحة من عظام " ٢٠٢٢ الفائزة بجائزة دولة فلسطين للعام ٢٠٢٢ .
" بكى صاحبي لما
رأى الدرب دونه ، وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له : لا تبك عينك ، إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا "
ويبدو أن هذا هو لسان حالنا .
نأمل أن يكون العام القادم أفضل .
عام مجيد مبارك .
صباح الخير
خربشات
٢٥ / ١٢ / ٢٠٢٢
***
=============
1- الرجل الذي كان يعشق الموسيقى... قراءة في قصة جبرا
2- تقنيات النص السردي في أعمال جبرا رسالة ماجستير لعدوان نمر عدوان
3- الأدباء الفلسطينيون والأحذية.. قراءة في خمس سير ذاتية وروائية وقصصية
4- جبرا إبراهيم جبرا وحضوره في الرواية العربية…
5 - في ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا
قصة " الرجل الذي كان يعشق الموسيقى " هي واحدة من قصص مجموعة جبرا إبراهيم جبرا القصصية الوحيدة التي عنوانها "عرق وبدايات من حرف الياء " التي صدرت طبعتها الأولى في العام 1956، وتوالت طبعاتها إلى أن وصلت إلى خمس، أضاف إليها جبرا قصة واحدة.
وقصص جبرا إبراهيم جبرا هذه لفتت أنظار دارسي فن القصة القصيرة في فلسطين ، فكتب عنها غير دارس. تناولها دارسون وهم يدرسون هذا الفن ،وتناولها آخرون وهم يدرسون جبرا إبراهيم جبرا أديبا. وقد توقفت أمام استقبالها في دراسة مطولة كتبتها للمؤتمر الذي عقدته جامعة بيت لحم في 28 و29 آب من العام 2004، وصدرت في كتاب ضم أكثر الأوراق التي ألقيت تحت عنوان:
"مؤتمر جبرا إبراهيم جبرا " وقد حرره كل من د.محمود أبو كته ود. عزيز خليل
دال العنوان :
يتكون العنوان من جملة اسمية طويلة تتكون من خمس مفردات، إذا غضضنا النظر عن اسم كان، وهو ضمير مستتر يعود إلى الرجل.ويمكن أن يقرأ المرء العنوان قراءتين، وهو يقرأ القصة ضمن مجموعة جبرا على النحو التالي:
هذه قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، أو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى من قصص جبرا،
وتفتح القراءة الأولى للعنوان المجال لتأويلات منها: ماهي قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ من هو الرجل الذي كان يعشق الموسيقى؟ولماذا كان الرجل يعشق الموسيقى؟ وهل توقف عن عشقها؟ ولماذا توقف عن عشقها إذا كان توقف عن عشقها بالفعل؟ ما السبب؟ هل يكمن في أنه انشغل عنها بشيء اخر أهم؟أم أنه مات فتوقف عن سماعها؟
وإذا ما تذكرنا أن هذه القصة كتبت في مرحلة مبكرة من حياة جبرا في العام 1956 أو قبله، فهل يكتب جبرا عن رجل عربي أم عن رجل أوروبي؟ وإذا كان يكتب عن رجل عربي،فمن هذا الرجل، والى أيه فئة اجتماعيه ينتمي؟ لابد أنه مثقف أو مسيحي.لماذا؟ لأن غير المثقفين لم يكونوا،في أوساط القرن العشرين، يهتمون بالموسيقى وسنعرف أنه ليس مثقفا .وأما أنه مسيحي ،فلأن للموسيقى حضورا لافتا في حياة المسيحيين، ينشأون على حبها ، منذ ذهابهم إلى الكنيسة. وسيكتب جبرا قي سيرته الذاتية "البئر الأولى " عن هذا الكثير ، ولكن " البئر الأولى " صدرت في العام 1987- أي بعد ثلاثين عاما من صدور "عرق " وستضيء لنا السيرة جوانب ربما نغفل نحن عنها، ممن لم ننشأ في بيئة مسيحية، أو في بيئة ثقافية غنية تهتم بالموسيقى اهتماما لافتا.
موجز القصة :
تدور القصة حول رجل يقيم في مدينة لا يذكر اسمها، يغدو، حين يصل الأربعين، ثريا بطرق عديدة قد يكون منها الغش والخداع، ويغيب هذا عن المدينة فترة من الوقت، يفتقده الناس خلالها. ويكون، في أثناء غيابه، ذهب بصحبة مهندس لبناء قصر له في قمة جبل.وحين يعود إلى المدينة يجمع اسطوانات الموسيقى التي كانت في بيته، ويرحل، هو الذي كان يتحدث مع الناس بتحفظ. ويقيم في قصره المتواضع الأثاث ، ويستمع إلى الموسيقى، ولا يكتفي بذلك ، إذ يريد للآخرين أن يستمعوا إليها، وهكذا يربط (الغرامفون) بسماعات، ليصدح الصوت في أعالي الجبال، ويقرر ذات يوم الانتحار، فيشغل (الغرامفون ) ويذهب إلى الصخور ليموت بينها، وهو يستمع إلى الموسيقى، بعد أن يكون مزق الجنيهات التي جمعها، لأنه يحتقر المادة.
القصة بين الحقيقة والخيال :
في دراستي "جبرا إبراهيم جبرا والقصة القصيرة " توقفت أمام هذا العنوان الفرعي، وأوردت أراء الدارسين في قصص جبرا، وأراء جبرا نفسه في قصصه (أنظر ص137 ، 138، 139، 140)
وأتيت أيضا على القصة موضع الدراسة.
يفتتح جبرا قصته بالفقرة التالية :
"هذه قصة غريبة يكاد المرء حالما يسمعها يقول: أن قصتك ياهذا مستحيلة، ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها، لا أحجم عن روايتها ثانية. وسأرويها لك، كما رويتها لغيرك، ولك ان تصدق أو لا تصدق "( ص198، ط5، 1989)
من هو الراوي ومن هو المروي عليه الذي يخاطبه الراوي ومن هم المروي عليهم الذين كان قص عليهم هذه القصة؟ ثم لم يفترض الراوي أن القراء لن يصدقوها؟
ثم هل الراوي غير الكاتب، وهل المروي عليه غير القارئ؟
يبدأ السارد قصته بإدراكه أن سامع القصة حالما يسمعها سيقول: أنها مستحيلة. وسرعان ما نجده يلتفت إلى القارئ:" ولكنني صدقها القارئ أم لم يصدقها "، ما يعني أن الراوي هو الكاتب، وأن المروي عليه هو القارئ. ولكن الراوي كان روى القصة على مسامع آخرين، فهل كان، قبل أن يكتبها وينشرها، ليقرأها القارئ، هل كان رواها مشافهة على بعض معارفه، ولم يصدقوها؟ ومع ذلك كتبها لينشرها؟
السؤال هذا يقودنا إلى طبيعة قصص جبرا هل كان جبرا، مثل محمود سيف الدين الإيراني، ينسج قصصه ويستمد شخصياتها من الواقع الذي يعيش فيه؟ كان الإيراني، كما يقول عن شخصيات قصصه، يستمدها من واقعه، هو الكاتب الواقعي، ولكن جبرا لم يكن يفعل ذلك، فقد كان يكتب عن شخصيات من نسج خياله، ليكتشف، فيما بعد ، أنها قد تغدو واقعية ، وهذا ما حدث معه حين كتب، في بداية حياته، قصة " ابنة السماء ". بطلة القصة. من نسج الخيال ، ولكنه ، بعد عام ، سرعان ما التقى بفتاة تشبهها.
القارئ المتغير في الزمان :
ربما لا نستطيع أن نوحد بين كاتب القصة وراويها إلا زمن كتابتها، أما الآن فجبرا في ملكوت السماء. لقد رحل وانتهى، ومع ذلك فما زال راوي القصة يرويها. ويمكن قول الشيء عن المروي عليه فيها زمن كتابتها. لقد مات الأشخاص الذين عاصروا جبرا وقص عليهم قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى. وقارئ القصة اليوم غير قارئها زمن كتابتها، فإذا كان ذلك لا يصدق ما ورد فيها، فهل ينطبق الأمر على قارئها الآن، في القرن الحادي والعشرين؟
ربما لا يجد قارئ القصة اليوم، في القصة التي يقرأها، قصة جبرا، الرجل الذي كان يعشق الموسيقى، ربما لا يجد أية غرابة. وربما تنتفي الحاجة لأسطر مفتتحها التي اقتبستها. ما كان يدعو إلى الغرابة في العام 1956 أو قبله، ما عاد يبدو غريبا في العام 2007. وسرعان ما يشعر قارئ القصة اليوم، أنه ليس المخاطب في النص. إن القارئ الذي في النص قارئ آخر، ينتمي لزمن آخر كانت قصة القصة، قصة الرجل الذي كان يعشق الموسيقى على تلك الشاكلة، تبدو له غريبة. هل يعني هذا أن هذه القصة عديمة الجدوى أم انه يجدر أن نقرأها غير غافلين عن زمن كتابتها؟
جبرا وموضوعات قصصه:
ربما يتذكر المرء، وهو يقرأ أكثر قصص جبرا القصيرة، وربما أكثر رواياته أيضا، بخاصة "صراخ في ليل طويل"، ربما يتذكر القصص الأولى في القصة القصيرة الفلسطينية، وتحديدا قصص خليل بيدس "مسارح الأذهان"، وربما يتذكر المرء أيضا مقولات النقاد فيها. إنها قصص لم تكن تمت للبيئة العربية، في حينه، بصلة، وهذا ما جعل د. هاشم ياغي يقول الشيء نفسه عن قصص جبرا: إنها منبتة الجذور، ولا صلة لها بالحياة الفلسطينية.
وحين يقارن المرء ما كتبه جبرا بما كتبه قاصان بارزان في حينه، هما سميرة عزام وغسان كنفاني، فانه، لا شك، سيعزز ما قاله د. ياغي. وجبرا هنا مثل فدوى طوقان وتوفيق صايغ. كان أكثر الأدباء الفلسطينيين، في الخمسينات من القرن العشرين، يكتبون عن قضايا وطنية، واجتماعية لها صلة بالواقع العربي، فيما كان جبرا، ومثله فدوى و صايغ، مشغولا بالتعبير عن تجارب ذاتية عاشها في لندن وبغداد غالبا. وأجواء لندن وبغداد،وتجارب جبرا فيهما بعيدة كل البعد عن الواقع الفلسطيني الذي لم يأت عليه جبرا في قصصه إلا لماما.
هل نتذكر هنا ما قالته فدوى طوقان عن رد فعلها إزاء طلب أبيها منها أن تكتب، بعد وفاة إبراهيم، شعرا وطنيا؟ في سيرتها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تعلمنا فدوى أن أباها، طلب منها ذات يوم، بعد وفاة إبراهيم، أن تكتب قصائد وطنية، هو الذي كان يهملها ولا يلتفت إليها، ولا يسمح لها بالمشاركة في الأحداث السياسية. وتعلمنا أيضا عن ردة فعلها، إذ رفضت تلبيه طلب أبيها متسائلة: بأي حق يطلب أبي مني أن أكتب شعرا وطنيا، ولم يكن يسمح لي بالخروج من المنزل، وأنا لا أكتب إلا عن تجارب أمر بها؟
وجبرا كان، في نهاية الأربعينات، وبداية الخمسينات، بعيدا عن فلسطين، ولم يعش مآسي الناس ونكبتهم، ولم يمر بها، وهكذا لم يكتب عنها إلا لماما. لقد كتب عن تجاربه في لندن، عن دراسته هناك، وعن علاقته بالفتيات الإنجليزيات والشباب الإنجليز وغيرهم من زملاء الدراسة، وهذا ما يبدو جليا في قصة "السيول والعنقاء".
كانت سميرة عزام تقيم في لبنان، وكان غسان كنفاني أقام في الشام أولا، وبعد فترة قصيرة أقامها في الكويت، عاد إلى لبنان ليقيم فيها قريبا من المخيمات الفلسطينية التي عرف أبناءها واستوحى شخوص قصصه منهم، وهكذا كتب، مثل سميرة عزام، في بعض قصصها، عن النكبة وما جرته على الفلسطيني. عن اللجوء واللاجئ، والخيمة والذل والحصار. هل نلوم جبرا على ما كتبه؟ ربما كان هو نفسه أدرك هذا فيما بعد، وربما لهذا كتب روايته "البحث عن وليد مسعود" التي جاءت مغايرة، في موضوعها وانتماء بطلها الفلسطيني، لكثير مما كتب. ربما.
***
2- تقنيات النص السردي في أعمال جبرا رسالة ماجستير لعدوان نمر عدوان
يواصل طلبة جامعة النجاح الوطنية إنجاز دراساتهم حول الأدب الفلسطيني ، ولقد أنجز هؤلاء ، حتى الآن ، العديد من الرسائل التي تأتي على ظواهر أدبية وقضايا نقدية ، وعلى أعلام بارزين لم يدرسوا ، حتى اللحظة ، دراسة أكاديمية ، إلا أقلهم .
لقد أنجز الطلبة دراسات تتناول الشخصية في الرواية الفلسطينية ، والسخرية في الشعر الفلسطيني ، والرواية في الضفة والقطاع ما بين 67 و 1993 ، وتقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا ، كما أنجز طلبة آخرون دراسات تمس أعمال كتاب بعينهم مثل يحيى يخلف وفدوى طوقان ، وهناك دراسات قيد الإنجاز تتناول أعمال حنا إبراهيم وتوفيق فياض والمتوكل طه وأكرم هنية وعبد اللطيف عقل وحنا أبو حنا وسميح القاسم .
ولا شك أن هذه الدراسات ، وأخرى غيرها ، ستضع حداً للشكوى التي تصدر عن أدبائنا ، وهي شكوى مفادها أن نصوصهم لا تدرس ، وأن أساتذة الجامعات يتعالون على الأدب المحلي .
من الرسائل التي أنجزت مؤخراً رسالة الطالب عدوان نمر عدوان ، وعنوانها "تقنيات النص السردي في أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية" ، وقد أشرف عليها الدكتور عادل أبو عمشة ، وناقشها الدكتور مهدي عرار من جامعة بيرزيت وأنا من جامعة النجاح الوطنية .
تكونت الدراسة من مقدمة ، وتمهيد أتى فيه الدارس على مصطلحات النقد الروائي : السرد والزمن والفضاء ، ومن ثلاثة فصول ؛ الأول عنوانه تلاعبات السرد في رواية "السفينة"ورواية "يوميات سراب عفان" ، والثاني عنوانه الزمن في "السفينة" وفي رواية "البحث عن وليد مسعود" ، والثالث عنوانه بنية المكان في السفينة وفي رواية "الغرف الأخرى" ، وأنهى الدارس دراسته بخاتمة موجزة .
يعرض الدارس في المقدمة اختلاف المنهج الذي اختاره ، وهو المنهج البنيوي ، عن المناهج الأخرى التي تعالج الأدب اعتماداً مع معطيات أخرى خارجية . ويعلن عن النصوص التي سيعالجها وتلك التي يستبعدها ، وقد استبعد "صراخ في ليل طويل" و "صيادون في شارع ضيق" و "عالم بلا خرائط" ، لأن جبرا كتب الأولى والثانية بالإنجليزية ، والثالثة بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف . ولئن كان استبعاد الثالثة مقنعاً فإن استبعاد الأولى والثانية يبدو غير مقنع ، فالدارس لم يعالج اللغة ليميز بين لغة المؤلف ولغة المترجم ، وإنما عالج السرد والزمن والمكان ، وهذه كلها خاصة بالمؤلف لا بالمترجم .
ويأتي الدارس في المقدمة على النصوص التي يعتمدها للدراسة ، فيختار "السفينة" نصاً محورياً ليدرس فيه السرد والزمن والمكان ، وليتخذ من "يوميات سراب عفان" نصاً آخر يعالج فيه السرد أيضاً ، ومن "البحث عن وليد مسعود" نصاً آخر يعالج فيه الزمن ، ومن "الغرف الأخرى" نصاً آخر يعالج فيه المكان . وأرى أن الكاتب لم يكن موفقاً في اعتماد النص ، فيوميات سراب عفان مثلاً تسرد من ساردين اثنين ، تماماً كما أن السفينة تسرد أكثر فصولها ، باستثناء فصل واحد ، من ساردين اثنين ، وكان يفضل لو اعتمد الدارس نصاً آخر لجبرا يسرد بطريقة مختلفة حتى يبين لنا اختلاف اللعبة السردية في نصوصه ، وكان سيكون أكثر توفيقاً لو أنه اختار "صيادون في شارع ضيق" لأن بنيتها السردية تختلف عن البنية السردية للسفينة .
وتعاني المقدمة أيضاً من خلل آخر يتمثل في تنويه الدارس إلى بعض المصادر والمراجع التي اعتمد عليها . يأتي الدارس على مصادر ومراجع ويغفل أخرى أهم ، ولئن كان كتاب سعيد يقطين وحميد الحمداني مهمين ، فإن الإشارة إلى دراسة السعافين وعبد الحميد محادين وإغفال الإشارة إلى كتاب يمنى العيد "تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي" يبدو أمراً محيراً ، وكان الدارس اعتمد على دراسة يمنى العيد ، إذ كيف يغفل الدارس الإشارة إلى مصدر ويأتي على ذكر مرجع . إن معالجة العيد تختلف عن معالجة السعافين ومحادين ، فهي تنظّر للمنهج ، خلافاً للآخرين اللذين اعتمدا تارة عليه دون التنظير إليه ، كما هو في دراسة محادين ، أو اعتمدا على مناهج أخرى ، كما هو الحال في دراسة السعافين .
وثمة خطأ فادح وقع فيه الدارس في المقدمة أيضاً ، وذلك حين كتب عنواناً فرعياً هو "بعض الدراسات التي عالجت موضوع البحث" ، فالدراسات التي ذكرها لم تعالج ما يعالجه هو ، وإلا لما كان هناك مبرر لبحثه . لقد عالجت الدراسات أدب جبرا من زوايا مغايرة واعتماداً على مناهج مختلفة . وكنت شخصياً طلبت منه أن يستعيض عن التمهيد الذي يتكرر في المتن بالوقوف أمام الدراسات السابقة وعرضها حتى يبين اختلاف دراسته عنها ، ليظهر للآخرين مبرر هذه الدراسة وأهميتها ، ويبدو أن السرعة هي التي أوقعته في هذا المطب ، كما أوقعته في خطأ الاختيار . لقد اختار دراسات وأهمل أخرى ، وبعض الدراسات التي أهملها أهم من تلك التي عالجها . لقد أغفل مثلاً دراسة فاروق وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" وأتى على دراسة عمر شاهين ودراسة خليل الشيخ ، وتعد دراسة وادي أكثر شمولية من هاتين .
وأما التمهيد الذي يقع في أربع عشرة صفحة فقد عرف فيه المصطلحات التي وظفها في دراسته ، وهي مصطلحات يعثر المرء على أكثرها في كتب يمنى العيد "تقنيات النص السردي" وحميد الحمداني" بنية النص السردي" وعبد الملك مرتاض "في نظرية الرواية" وفي دراسات أخرى كدراسة عبد العالي بوطيب في فصول (1993) . ولئن كان الدارس أعاد كتابة هذه المصطلحات ، فإنه لم يعتمد على أصول وحسب ، لقد اعتمد أيضاً على مراجع ثانوية تعتمد على هذه الأصول ، ولعله أراد أن يظهر للآخرين مدى إحاطته بالدراسات الحديثة التي أتت على تقنيات السرد ، وهكذا لم يحسن استخدام المصادر والمراجع ، وفي عدم توظيف هذه توظيفاً جيداً وقع في الدراسة في أخطاء كان يمكن تلافيها ، من ذلك مثلاً أنه يوظف مصطلحات لها تسميات مختلفة ولكنها تؤدي المعنى نفسه . حقاً إنه يشير في التمهيد إلى هذا ، وهو ما يبدو في ص18 حيث يكتب "القفزة أو القطع أو الحذف "إلا أنه لا يقرّ على قرار واحد – أعني أنه لم يحدد مسبقاً أية تسمية سيختار ، علماً بأنه أشار في المقدمة ، وتحديداً في ص5 ، أشار إلى اختلاف الدارسين العرب في تعريب المصطلحات التي نقلت إلى العربية من لغات أوروبية عديدة ، وأتى بأمثلة على ذلك .
يمتد الفصل الأول الخاص بالسرد من ص23 إلى ص55 ويأتي فيه على الفصول التي يسردها كل من عصام السلمان ووديع عساف و(إميليا فرنيزي) في السفينة ، وكل من سراب عفان ونائل عمران في يوميات سراب عفان . ويعرض لهوية هؤلاء وطريقة سردهم وطرق حكي الأقوال – هنا نلاحظ مثلاً في ص49 أن الدارس يعتمد على كتاب عبد الحميد محادين "التقنيات السردية في أعمال عبد الرحمن منيف" ولا يعتمد على كتاب يمنى العيد ، وكتابها أسبق وأكثر صلة بالمنهج من ناحية نظرية - .
ويكتفي الدارس ، وهو يتناول جانب السرد ، بجانب واحد إلا ما ندر ، من جوانب السرد . إنه لا يأتي على جانب آخر مهم هو المسرود له ، تماماً كما أنه لا يلتفت إلى البنية السردية للنص . لكأن السرد يخص السارد فقط ، علماً بأن الدراسات الحديثة التفتت إلى المروي عليه / المسرود له ، وهنا يمكن أن نشير إلى دراسة (جبرالد برنس) : "مقدمة لدراسة المروي عليه" ، وهي دراسة نقلت إلى العربية ونشرت في مجلة فصول في العام 1993 . ولما كان الدارس أشار إلى أنه سيعتمد على المنهج البنيوي ، فإنه لم يقف أمام جانب مهم من جوانب هذا المنهج ، وهو جانب بنية النص والعلاقة بين فصول الروايات ، أهي علاقة تواز أم إتمام أم عكس ؟ . في كتابه "بنية النص السردي" ، وهو كتاب اعتمد عليه الدارس ، يناقش حميد الحمداني موضوع السرد ، ويرى أنه يتكون من راو ومروي عليه ومن القصة : "وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها ، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها يتعلق بالراوي والمروي عليه ، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها" (ص45 من ط1993/ بيروت) .
وما كان يجدر أن يقف أمامه الدارس هو توضيح طبيعة سارد جبرا : أهو كلي المعرفة أم جزئيها ؟ أهو سارد مشارك دائماً أم غير مشارك أحياناً ؟ أهو سارد حيادي أم غير حيادي؟ وكنت أتمنى لو أنه ربط بين المنهج البنيوي والبنيوي التكويني ، ليفسر لنا لماذا غلب على جبرا نوع معين من الساردين . لقد ذهبت ، شخصياً ، في أثناء كتابتي عن السارد في نماذج روائية فلسطينية إلى أن سارد جبرا في السفينة سارد يتقبل آراء الغير ، ولا يرى في ذاته الصواب المطلق، وربطت هذا بطبيعة جبرا المثقف الليبرالي (حول ذلك انظر مجلة كنعان (رام الله / الطيبة) ، ع93 ، تشرين ثان من العام 1993 . ص59 وما بعدها) . وكنت أفضل لو أن الدارس نظر في روايات حبرا كلها ، وتحدث عن طبيعة السارد فيها كلها مبيناً الاختلاف بين الساردين ليوضح لنا أن روايات جبرا لا تتبع طريقة واحدة في السرد ، وأسلوباً واحداً في طريقة العرض هو أسلوب وجهات النظر .
يمتد الفصل الثاني الذي يعالج فيه الزمن من ص57 إلى ص95 . يأتي الدارس على الزمن في السفينة ويعالج الزمن الداخلي : الزمن الروائي وزمن القص ، ويتوقف أمام تقنية الاسترجاع وتقنية الاستباق ، وأمام الديمومة والتواتر . يتوقف الدارس أمام المصطلحات ويحاول أن يأتي بأمثلة يدلل عليها ؟ وما يبدو مربكاً هنا أن الدارس أغفل في الفهرس وفي المتن أيضاً ذكر أولاً فيما ذكر ثانياً وثالثاً . لقد أورد الديمومة تحت ثانياً والتواتر تحت ثالثاً ، ويحار المرء أين تكون أولاً . أتكون أمام "تقنيتا المفارقة السردية" أم أمام عبارة أخرى غيرها ؟ وحين يأتي على زمن القص – أي زمن السرد – يعتمد على معطيات خارجية لتحديده ، وهو ما يبدو في هامش رقم 6 ، في ص59 : صرح جبرا بأن الزمن في السفينة محدد بأسبوع واحد" ، وقد رأى الدارس أنه محدد بسفر السفينة من بيروت في أوائل حزيران حتى رسوها في نابولي بعد عدة أيام. ويعرف هذا الزمن ، بعد تحديده ، اعتماداً على تعريف سعيد يقطين له في كتابه "تحليل الخطاب الروائي" . وكان الدارس قد عرفه في الصفحة السادسة عشرة – أي في التمهيد . ويلاحظ اختلاف التعريفين ، وذلك عائد إلى اعتماده على أكثر من مرجع . في ص16 يعتمد على كتاب حميد الحمداني "بنية النص السردي" وعليه يورد تحت زمن السرد : "أما زمن السرد أو القض فهو زمن الحاضر الروائي أو الزمن الذي ينهض فيه السرد" . فيما يورد في ص59 : "وزمن القص في الرواية (السفينة) هو حاضر التكلم أو الدرجة الصفر الذي يتيح إمكانية تحديد اللاحاضر سواء كان ذلك من قبل أو من بعد" .
ويتناول الدارس بعد ذلك رواية "البحث عن وليد مسعود" ؛ يتناولها فصلاً فصلاً ليظهر بنية الزمن فيها : الزمن المروي وطريقة السرد اعتماداً على الزمن : الاسترجاع ، كم الاسترجاع ، الاستشراف … الخ . وهكذا يلحظ أن الدارس اكتفى بالوصف وبمتابعة سير الزمن الداخلي ، ولم يلتفت إلى الأزمنة الخارجية : زمن الكتابة وزمن النشر الأول ، ولم يعالج صلة هذه الأزمنة بالأزمنة الداخلية ، وكان قبل إخراج الدراسة في شكلها النهائي قد أتى على ذلك وتساءل عما ينجم عن عدم مطابقة الزمنين : زمن الكتابة وزمن السرد معاً . ويبدو أن الجدل الذي أثير في النقاش جعله يغض الطرف عن سؤاله الذي كان أثاره : ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ وعدم الالتفات إلى هذا السؤال جعله أكثر التزاماً بالمنهج الذي اختطه لنفسه ، وإن كنت أود لو أنه جمع بين المنهج البنيوي والمنهج البنيوي التكويني هنا ، ليبقي على السؤال وليجيب عنه إجابة واضحة مقنعة . حقاً ما الذي ينتج عن عدم مطابقة الزمنين ؟ ما الذي ينتج عن كتابة نص في زمن ما ، يعالج – أي النص – زمناً غير زمن الكتابة ؟ أيستطيع مسترجع ذلك الزمن أن يتمثله كما كان ؟ أيستطيع أن يكون دقيقاً في الكتابة عنه أم أنه يقع أسير زمن الكتابة ؟ لقد استرجع جبرا ، في نصوصه التي كتبها منذ الستينات ، أحداث عام 1948 ، وكانت المسافة بين الزمنين ؛ زمن الكتابة وزمن تلك الأحداث تمتد من اثنتي عشرة سنة ، كما في صيادون ، إلى سبعة وعشرين عاماً ، كما في البحث عن وليد مسعود ، وكان جبرا يقيم في بغداد أو في غيرها من المدن ، فكيف كتب عن تلك السنوات ؟
يمتد الفصل الثالث من ص97 – ص129 ، ويعالج فيه المكان في السفينة وفي الغرف الأخرى . يفتتح الدارس هذا الفصل بعبارة "إن لون الماء هو لون الوعاء الذي فيه " وينسب العبارة إلى "الجنيد" دون ان يفصح عن هوية "الجنيد"هذا . ويوضح علاقة المكان بالمرجعي ، ويعالج المكان في النصين المذكورين. هنا نجد الدارس يستخدم عبارات تحتاج إلى توضيح وإعادة نظر فيها ، من ذلك حين يربط بين الزمان والمكان ، وتحديداً حين يتحدث عن زمن القص وزمن المغامرة ويرى أن "زمن القص يختلف عن زمن المغامرة" وهو حكم قابل لأن يُساءل . هل يختلف دائماً زمن القص عن زمن المغامرة ؟ ماذا مثلاً حين أقص الآن عن شيء يجري الآن ؟ ألا يتطابق واللحظة التي أنا فيها وعليها . قد يختلف زمن الكتابة عن زمن القص ، وهذا ما يحدث غالباً ، حيث نكتب عما جرى بعد الانتهاء منه ، إلا في الشعر الذي يستجيب لحدث لحظي في تلك اللحظة ، خلافاً للقصة أو الرواية التي غالباً ما تنجز على الورق بعد الانتهاء من الحدث ، اللهم إلا إذا أخذنا نكتب عما يجري وقت جريان الحدث . هنا تصبح الكتابة سرداً ، وهنا يتطابق الزمنان أيضاً ، بل الأزمنة الثلاثة ، زمن الكتابة وزمن السرد وزمن الوقائع ، ويصبح الزمنان الأول والثاني زمناً واحداً أصلاً لتداخل الكتابة بالسرد ، خلافاً للكتابة التي تنجز فيما بعد زمن السرد الذي قد يكون حدث في زمن سابق ، هذا حين يختلف السارد عن الكاتب وينجز كل فعله في زمن مغاير .
يربط الدارس بين المكان والشخوص ، ويحتل المكان قيمته من علاقته بصاحبه ، وبما أن الشخوص في "السفينة" ينتمون إلى أمكنة مختلفة ، وبما أن المكان تارة حر وطوراً مغتصب ، فإن الذات التي ترتبط بمكان حر لا ترى في المكان ما تراه الذات التي اغتصب مكانها . إن فلسطين لوديع عساف الفلسطيني تعني الكثير في نظره ، وتظل محط أنظاره أينما حل وارتحل وتشغل ذهنه ، ولئن كانت العراق مهمة لعصام السلمان وللدكتور فالح ، فإنها ، لأنها غير مغتصبة ، تبقى طوع البنان . وارتباط وديع عساف بمنطقة بيت لحم والخليل غير ارتباط صديقته الدكتورة التي يرغب في الزواج منها ، فهي ، خلافاً له ، لم تنشأ في تلك المنطقة التي نشأ هو فيها .
وإذا كانت مرجعية المكان في السفينة محددة ، وإذا كانت الأسماء معروفة ، فهي ليست كذلك في الغرف الأخرى . وربما كان اختيار الدارس للغرف الأخرى اختياراً موفقاً .
في هذا الفصل ، كما في الفصول السابقة ، يعتمد الدارس على مراجع ثانوية ، ولا يعتمد على الأصول . ويخيل إليّ أحياناً أنه يكتب عبارات دون أن يعيها جيداً ، وأنه يقلد كتّاباً آخرين في أحكامهم دون أن يفصح عن ذلك في نصه المدروس . في ص107 يكتب : "تعبر الكويت عن ظاهرة اجتماعية حصلت بعد احتلال اليهود للأراضي الفلسطينية ، وهي اغتراب الفلسطينيين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، خلافاً لبيروت التي كان الاغتراب فيها لأجل الدراسة أو البحوث" وهذه العبارة تقليد لما كتبه محمد عبد المطلب في دراسته التي نشرها في مجلة فصول ، وعنوان الدراسة "تدخلات الرؤية والسرد والمكان في رواية هالة البدري "منتهى" (فصول ، ربيع 1998 ، ص303) . ما كتبه الدارس آنفاً هو محاكاة لما كتبه محمد عبد المطلب :
"أما الأماكن العربية : السعودية والكويت ، فإنها تمثل مؤشرات على ظاهرة اجتماعية استفاضت بعد ذلك ، هي اغتراب المصريين بحثاً عن المال في رحاب البترول ، على عكس الاغتراب في أوروبا الذي كان طلباً للثقافة والمعرفة ، وهذا وذاك يمثل إضافة إلى الواقع المكاني لمنتهى" .
وأرى أن كثيراً من عبارات الدارس كانت قياساً أو اقتباساَ دون تمثل كامل .
في ص 113 من الدراسة يتحدث الدارس عن الفضاء النصي رواية السفينة ، ويورد عشرة أسطر عن تشكل الرواية على الورق ، مبيناً صفحات كل فصل ، ويعود في ص114 ليرسمَ مربعاً يحتوي على عشرة مستطيلات يورد في كل مستطيل رقم الفصل ومكوناته من الصفحات ، وهذا لا ضرورة له .
وتتكون الخاتمة من ثلاث صفحات يأتي فيها على ما أتى عليه في الفصول ، ولا يستطيع الدارس الذي ذكر أنه سيوظف المنهج البنيوي ، لا يستطيع إلا أن يبدي إعجابه بنصوص جبرا ، وهكذا يصدر أحكام قيمة تتنافى وهذا المنهج الذي يدعو إلى الحياد ، لأنه يريد أن يجعل من النقد علماً . يكتب الدارس :
"تعرض روايات جبرا خطابها الشيق بأساليب سردية متنوعة مقدمة عن طريق ساردين يوليهم جبرا أهمية عظيمة …" .
ويكتب أيضاً :
"من كل ذلك يمكن ملاحظة عناصر الجمال في العمل الروائي من سرد ومكان وزمان وقد تشابكت لتشكل لوحات فنية سردية في غاية الجمال والروعة وتستعصي على القراءة التقليدية ، إن الرواية عند جبرا عالم آخر مجهول يكشف لك عند كل قراءة جديدة عن جسد روائي عذري تنتحر الكلمات عند لمس مفاتنه .." .
يكتب هذا وكأنه يقول : ليست ثمة قراءة نهائية لنصوص جبرا ، مؤكداً بذلك مقولة التفكيكيين .
***
3- الأدباء الفلسطينيون والأحذية.. قراءة في خمس سير ذاتية وروائية وقصصية
في أثناء تدريسي مقطع من سيرة جبرا إبراهيم جبرا " البئر الأولى " ( ١٩٨٦ منشورات رياض الريس في لندن ) كنت أقص على الطلاب حكاية كتابته سيرته وتركيزه فيها على سنوات طفولته المبكرة وتحديدا منذ كان في الخامسة من العمر حتى الثانية عشرة منه .
غالبا ما اتهم جبرا بأنه كاتب برجوازي كتب عن المثقف الفلسطيني ميسور الحال ولم يكتب عن نماذج فلسطينية فقيرة أو عن اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات ، بخلاف غسان كنفاني ، ويبدو أن هذا الاتهام أزعجه فأراد أن يدافع عن نفسه وأن يقول إنه لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب وأن طفولته كانت بائسة فقيرة معدمة جدا .
أوضح جبرا ما سبق في مقدمة سيرته آتيا على دافعه لتركيزه على سبع سنوات من عمره من حياته ، فكتب عن البيوت البائسة التي أقامت أسرته فيها في بيت لحم وعن عمل أبيه غير المستقر وغير المجدي ، وذكر حكايات وقصصا طريفة منها قصة أبيه وعدم قدرته على شراء الأحذية ومنها قصة الحذاء الذي كوفيء به هو نفسه من الكنيسة التي تردد عليها طفلا بسبب مواظبته على الحضور .
فرح جبرا بالجائزة واحتفل بها ، بخاصة أن أعياد الميلاد على الأبواب ، ولكن فرحته لم تطل ، فوالده الخبير بالأحذية ، حيث عمل مصلحا لها ، اقترح على زوجته أن يبيعا الحذاء الذي كوفيء به الابن وأن يشتريا بثمنه طعاما لأعياد الميلاد ، وحين زعل جبرا اقترح أبوه على أمه أن تشتري له حذاء من حارة اليهود في القدس بسعر معقول . حزن جبرا من ناحية وفرح من ناحية ثانية ؛ حزن لأنه خسر الحذاء الفاخر وفرح لأنه سيزور القدس مع أمه . ( جبرا إبراهيم جبرا ، البئر الأولى ، منشورات رياض الريس ، لندن ١٩٨٦ ، صفحة ٧٢ - ٧٥ )
حكاية جبرا مع الحذاء ليست الحكاية الوحيدة للأدباء الفلسطينيين معه - أي الحذاء ، فهناك حكايات أخرى أكثرها لافت ، وكثيرها يعبر عن حياة الفقر التي عاشوها وقليلها يشير إلى فقر المحيطين بهم .
قبل الحديث عن حكايات هؤلاء الأدباء مع الحذاء يجدر أن أنقل الفقرة الآتية من سيرة جبرا عن قصة أبيه والحذاء :
يعود والد جبرا ذات نهار ومعه إطارة مطاطية قديمة ويحضر صندوق عدة تصليح الأحذية ويقتطع من الإطارة بسكين قطعتين قصهما وفق طول قدمه ويثقبهما ثقوبا أدخل فيها حبلا رفيعا ، وحين انتهى من عمله لبسهما وشد كلتا القطعتين بالحبل ، وخاطب زوجته مريم :
- شايفه يا مريم ؟! أحسن وطا !
ولما لم يرق مشهد الوطا لجبرا يسأل أباه :
" - يابا ، لماذا لا تشتري حذاء من الكندرجي ؟
قال : " عندما تكبر تفهم . أتعلم كم قرشا يريد الكندرجي للحذاء ؟ عشرين قرشا ، وإذا تساهل خمسة عشر قرشا . حذائي القديم بدأ يتهرأ بالاستعمال ، ولهذا سأحتفظ به لأيام الأحد ، فما رأيك يا أفندينا ؟" ( ، جبرا ، ص٤٣ ) .
في سيرته " دفاتر فلسطينية " ( ١٩٧٨ ) يكتب معين بسيسو عن أحد تلاميذه في مدرسة البريج . ترك التلميذ المدرسة ليعمل شيئا ما . أعطاه والده كل ما يملك ، فاشترى صندوقا خشبيا وبعض برطمانات الدهان وفرشاتين ، ولكن حلت بأهله نكبة فاحتاج بعض النقود وطلبها من معين " كيف أقول له إنني وأنا ناظر مدرسة البريج الإعدادية لم أكن أملك تلك الجنيهات ، وما زلت في منتصف الشهر ... ؟
وبشكل تلقائي خلعت حذائي وقدمته له ، وكان حذاء جديدا أرسله لي أخي من الكويت ، وكان أول مرة أمشي به ، هو هذه الليلة احتفالا بتوزيع المنشور .
- خذه معك . هذا كل ما أملك ، وأخذه الصبي ومضى ... وعدت إلى البيت بجوربين مرصعين بالوحل " ( معين بسيسو ، دفاتر فلسطينية ، منشورات شمس في باقة الغربية ، ١٩٩٨ ط ٣ ، ص ٥٢ ) .
وإذا كان جبرا استرجع حكاية أبيه مع الحذاء ، وأغلب الظن أن هذا حدث في عشرينيات القرن العشرين ، فإن الكتاب الفلسطينيين الذين عاشوا في فترة قريبة عاشوا الفقر نفسه ومروا بتجارب قريبة .
في سيرته الذاتية " شجرة المعرفة : ذكريات شاب لم يتغرب " التي صدر جزؤها الأول عن منشورات الأسوار في عكا عام ١٩٨٨ ، وصدرت مكتملة في العام ١٩٩٦ يكتب حنا إبراهيم في الفصل الأول منها تحت عنوان " على عتبة حياة العمل " عن فقره المدقع في أربعينيات القرن العشرين ويقص حكايات طريفة عن حذائه الذي بلي لكثرة السير وقلة العناية .
مرة استدعي حنا لمقابلة عمل في دائرة مساحة الأراضي فسر بعد يأس وشعر بخفة عجيبة وبرغبة في السير ولكن حذاءه لم يكن بحالة تسمح بذلك ، وكان لا بد من إصلاحه عشية المقابلة العتيدة . كان ثمة إسكاف على مقربة يعمل في بيته ويستقبل الزبائن إلى وقت متأخر من المساء ، ولا يعزر الزبون إذا تأخر عن الدفع أكثر من المعقول . تعهدت والدة حنا بدفع التكاليف نقدا إذ لم تكن تحمل الدين . خلع حنا الحذاء وقدمه إلى الإسكاف فقال له :
- ترجع بكره أو بعد بكره .
ضحك حنا وقال :
- وتبقيني حافيا يا عمي أبو جميل ؟!
ويضطر أبو جميل إلى إصلاح الحذاء ، فلم يكن حنا يملك غيره ، ولأن الإصلاح يحتاج إلى ساعة ونصف ، فقد انطلق حنا إلى الشاطيء يتمشى حافيا ، ولم يكن السير حافيا غريبا عليه . ( حنا أبو حنا ، شجرة المعرفة : ذكريات شاب لم يتغرب ، مؤسسة الأسوار ، عكا ، ١٩٩٦ ، ينظر ص ١٣ ) .
ويوضح حنا عبارته " لم يكن السير حافيا غريبا عليه " ، فقد قضى أربع سنوات في مدرسة الرامة القريبة من قريته البعنة ، وكان يتنقل في الإجازة الأسبوعية بين القريتين مشيا " وكيما أحافظ على الحذاء ، فقد كنت أخلعه حال خروجي من الرامة وأمشي حافيا حتى أصل إلى البعنة ، وهكذا كنت أفعل في طريق العودة ، وأغسل قدمي في عين الصرار أو عين الحضين - حسب الطريق التي أسلكها - وأدخل القرية كأي إنسان محترم " ( حنا إبراهيم ، ص ١٤ ) .
لم يكن الفقر في تلك الأيام مقتصرا على حنا ، ما جعل المدرسة تتساهل في أمر اللباس الموحد بل وأكثر من ذلك ، ف " كثيرا ما كنا نذهب إلى المدرسة حفاة وخصوصا حين يكون الطقس معتدلا ، وعليه أصبح السير حافيا بين البلدين أمرا عاديا بالنسبة لي " ( حنا إبراهيم ، ص ١٥ ) .
في السنة نفسها التي أصدر فيها الكاتب سيرته كتب الأديب طه محمد علي قصته " سيمفونية الولد الحافي " ما يكون " " ، وهي قصة طريفة جدا يسترجع فيها زمنا آخر غير الزمن الكتابي ١٩٩٦ ، إنه يسترجع زمن طفولته - أي الزمن الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ ، وهو الزمن الذي كتب عنه تقريبا كل من جبرا إبراهيم وحنا إبراهيم في سيرتيهما ، وتكاد قصة طه محمد علي تكون أيضا مقطعا من سيرته الشخصية .
يفتتح الكاتب قصته بالفقرة الآتية :
" العشر سنوات الأولى من حياتي سرتها حافي القدمين ، غير أن مرارة إحساسي بالحرمان من الحذاء ، وطغيان رغبتي في الحصول عليه يوم حادث حذاء المغربي وحده ، فاقا ، والله ، كل عذابات الحفاء التي كابدتها في سني العشر مجتمعة " ( طه محمد علي ، الأعمال الكاملة ، دار راية للنشر ، حيفا ، ٢٠١١ ، ص ٣٥٦ ) ، وهو ما يتكرر في القصة ثانية بعد أربع صفحات " هذا بحذافيره حقيقة ، لكن حقيقة الحقائق ، أيضا ، أن شتيت ما عذبني وعانيت منه وأشقائي على مدار عشر سنوات حفاء قد جمع كله في يوم حادث حذاء ذلك المغربي ، فما هي قصة حذاء المغربي ؟
لم تكن بلدة أنا المتكلم / السارد تخلو من دكان بيع أحذية ولكن أسعارها كانت مرتفعة ، فقد كان في بلده يومها أكثر من دكان واحد يبيعها ، بل " وهناك من يصنعها ويقدم الزوج منها عن طيب خاطر لمن يبذل الجنيه والنصف أو الجنيهين ، ثمنا له " ( طه محمد علي ، ص ٣٦١ ) ، وكانت مشكلته تكمن في مبدأ " مانع اللذات " ، مبدأ ادفع واحمل الذي يحكم التعامل مع الأحذية جميعا سواء كانت في دكاكين بلده أو في خرجة المغاربة الذين يأتون من المغرب الشقيق يبيعون الأحذية .
عندما عرف أنا المتكلم يوما أن هناك مغربيا يبيع أحذية بسعر زهيد ذهب إليه وشاهدها ، فسأله عن سعرها الذي بدا له معقولا ، وسرعان ما عاد إلى البيت ليحضر العشرين قرشا التي استدانت أمه من جارتها خمسة قروش لتجمعها .
يذهب أنا المتكلم إلى المغربي فيجده باع أحذيته كلها إلا فردتين يمينيتين لا تصلحان للبيع ، ويصر هو على شرائهما مع أن المغربي أوضح له أن هذا غير ممكن ، إذ لا يستطيع ارتداءهما .
عندما يرتدي خالد الحذاء توجعه قدماه ، فيطلب منه والده أن يشلح الكندرة لأن الفردتين يمينيات . ينصاع خالد وهو يبكي لأمر والده ويرد الحذاء للمغربي ذي الجسد النحيل واللحية السمراء ، الذي أرجع له ثمنه مع ما يشبه الاعتذار :
- قلت لك ما ينفعكاش .
هل كان خالد في القصة هو طه محمد علي نفسه ، فأكثر قصص مجموعته التي حمل عنوانها عنوان القصة المدروسة تتحدث عن بيئة قريته صفورية .
الشاعر راشد عيسى ابن مخيمي عين بيت الماء وعسكر الجديد من مواليد سنوات النكبة وقد عاش طفولة فقيرة بائسة دونها في رواية سيرية عنوانها " مفتاح الباب المخلوع "( ٢٠١٠ ) ولكنه في العام ٢٠٠٥ أصدر سيرة شعرية عنوانها " حفيد الجن " كتب قصائدها بين ١٩٩٨ و ٢٠٠٠ ، ضمت قصيدة صاغها بأسلوب قصصي عنوانها " حذائي " لخص فيها حكايته في طفولته مع الحذاء . ( راشد عيسى ، حفيد الجن ، سيرة شعرية ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، ٢٠٠٥ ) .
في القصيدة يكتب راشد أنه حتى السادسة من العمر كان حذاؤه كمشة رمل أو نصف حجر ، ثم صار بعدها قطعة خيش لا تقي من الشوك صيفا أو الوحل شتاء ، ولما كبر قليلا صنع حذاءه من عيدان شجر لوز ، وإذا ما اشترى له أبوه حذاء ولعب به الكرة ينهره ويسود عيشة أمه ويقول له إنه لو ثقبت رجله فستشفى ولو جرح حذاؤه فسيلزمه أن يدفع لمصلحه قرشين ، وهكذا يمنع عنه الحب لنصف سنة والخبز ليومين .
يكبر راشد ويوفر مصروفه ويشتري حذاء مرتوقا قديما بلا رباط ضيق على مقاس رجله وحين يعيده إلى البائع يرفض هذا إعادته ، فالخلل في اصبع قدم راشد لا في الحذاء ، وهكذا يكون لزاما عليه أن ينحت من قدمه قليلا .
أول ما يتوظف يشتري حذاء جديدا تماما أغلى من نصف معاشه لم يعتد ارتداء حذاء مثله من قبل ، وحين يجيء الليل ينومه قرب عيون الفانوس .
تكمن المفارقة في قصة راشد مع الحذاء أنه عندما كبر وامتلك المال وأتقن المشي صار لديه ثلاثون حذاء ولكن في الوقت نفسه سرقت منه قدماه ، فماذا ورد في السيرة الروائية ؟
يعيد راشد في السيرة الروائية كتابة حكايته عن حذائه مع إفاضات يحتملها النثر ولا تحتملها القصيدة الغنائية " لكن حذائي على الدوام قديم مهتريء أو واسع جدا أو ضيق جدا ... لذلك أفضل المشي نهارا بلا حذاء .. وقبل أن تغيب الشمس أجلس قرب عنزنا وأنزع الشوك وشظايا الزجاج من باطن قدمي .. كان الحذاء مشكلتي الكبرى .. حتى إنني في حصة الرسم الحرة رسمت رجلا كل أعضاء جسمه أحذية مهترئة "( راشد عيسى ، مفتاح الباب المخلوع ، منشورات أزمنة ، عمان ٢٠١٠ ، ص٩٠ ) .
يضحك المعلم ويسأل الطالب لماذا فعل هذا فيجيبه لأنه يحب الحذاء ، فالدنيا كلها حذاء مهتريء ، وارجح أن العبارة الأخيرة من إسقاطات الزمن الكتابي .
ويظل أبوه يمنيه بشراء الحذاء عندما يكبر ، وعندما يبدأ عام دراسي يأخذه أبوه إلى المدينة ويشتري له قميصا وبنطلونا وحذاء " ابتهجت بالحذاء .. فهذه أول مرة ألبس حذاء غير مستعمل .. جديدا غير مخزوق ولا مرتوق .. يلمع ..... لبست حذائي ومشيت في الحوش وأنا أنظر إليه باحترام .. وفي كل دقيقة أمسحه بكم قميصي ، حضنته وخبأته في بطانيتي التي أتغطى بها "( راشد عيسى ، مفتاح الباب المخلوع ، ص ١٢٨ / ١٢٩ ) ، ولكن فرحته مثل فرحة جبرا لم تطل ، ففي اليوم التالي يذهب إلى نابلس ليجمع أكياسا يبيعها ، وفي هذه الأبناء يطرق متسول فقير باب بيتهم يستجدي فيتناول والده البطانية ويعطيها له دون أن يعرف أن حذاء ابنه مخبأ فيها .
ما تجدر الإشارة إليه هو أن دال الحذاء احتل عناوين بعض المجموعات القصصية والروايات ، وهذا يحتاج إلى مقاربة أخرى مختلفة .
المصادر :
- إبراهيم ، حنا : شجرة المعرفة ، ذكريات شاب لم يتغرب ، منشورات الأسوار ، عكا ، ١٩٩٦ .
- بسيسو ، معين : دفاتر فلسطينية ، منشورات شمس ، باقة الغربية ، ١٩٩٨ . طبعة ثالثة .
- جبرا ، جبرا إبراهيم : البئر الأولى ، منشورات رياض الريس ، لندن ١٩٨٦ .
- علي ، طه محمد ، الأعمال الكاملة ، منشورات دار راية للنشر ، حيفا ، ٢٠١١ .
- عيسى ، راشد : حفيد الجن ، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، ٢٠٠٥
- عيسى ، راشد : مفتاح الباب المخلوع ، دار أزمنة ، عمان ، ٢٠١٠.
***
4- جبرا إبراهيم جبرا وحضوره في الرواية العربية…
في كتابه «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسان كنفاني، أميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا» (1981) درس فاروق وادي نتاج هؤلاء الأدباء، وحلّله ولكنه لم يدرس تأثيرهم في الرواية العربية أو الفلسطينية. ويوم أصدر كتابه كان الروائيون الفلسطينيون الذين شكلوا جيلاً لاحقاً تالياً ما زالوا يتدرّبون على كتابة الرواية: يحيى يخلف، ورشاد أبو شاور، وسحر خليفة، ولم يكن إبراهيم نصر الله كتب، حتى 1981 تاريخ صدور كتاب وادي، أية رواية. كان شاعراً مبتدئاً. ولهذا لا يُلام وادي على عدم توقفه أمام ظاهرة تأثير هؤلاء الروائيين الثلاثة في الرواية العربية أو الفلسطينية، وأعتقد جازماً أن هذا من واجب النقاد الحاليين، فلقد ترسخت أعمال الروائيين الثلاثة وتعددت طبعاتها، وواصل الروائيون الصاعدون، منذ 1981، كتابة الرواية، وقد يكون د. فيصل دراج لامس الموضوع مؤخراً.
عرف جبرا في العالم العربي أكثر مما عرف في فلسطين، ذلك أنه أقام في بغداد وكتب عنها، وكان حضور الموضوع الفلسطيني في رواياته الأولى غير لافت، بل وظل كذلك، باستثناء رواية «البحث عن وليد مسعود» (1978) التي تعدّ روايته الوحيدة، تقريباً، في الموضوع الفلسطيني، حيث استأثرت به كلياً، لا جزئياً.
لم توزع روايات جبرا في فلسطين، ولم تُعَدْ طباعتُها، ولما أقيمت السلطة الوطنية وغدا لها وزارة ثقافة، أعيدت طباعة سيرة جبرا «البئر الأولى»، لا رواياته التي ظل الحصول عليها يتحقق من خلال ما يصل إلى فلسطين من نسخ قليلة العدد، أو من خلال سفر بعض الفلسطينيين إلى العالم العربي.
جبرا الذي ترك تأثيراً واضحاً في الحركة الشعرية العربية، من خلال ترجمته كتاب (جيمس فريزر) «الغصن الذهبي»، ومن خلال ترسيخ أسطورة تموز، ظل روائياً ذا حضور باهت، قياساً إلى حضور حبيبي وكنفاني، لدرجة أن الروائيين لم يكونوا قرؤوه جيداً، ومنهم أميل حبيبي الذي سُئل في العام 1987، في ندوة في القدس، عن رأيه في جبرا روائياً، فأجاب: لقد حاولت قراءته، ولكنني لم أستطع أن أُكمل رواية واحدة له.
كان أميل حبيبي يومها ماركسياً، وكان ينظر إلى جبرا على أنه روائي برجوازي. ولعلّ اختلاف الموقف قاد إلى اختلاف الموقف. وقد عاد حبيبي، في نهاية أيامه، ليعبر عن أسفه أنه لم يقرأ جبرا، وهذا ما ظهر في المقابلة التي أُجريت معه، ونُشرت في مجلة «مشارف» التي كان يترأس تحريرها: «وبالطبع، ومع كل الاحترام، لم أستطع أن أقرأ أكثر من 15 سطراً من بدايات روايات جبرا إبراهيم جبرا» ووجهة نظر أميل أنها روايات جافة «أنا لا اقرأ المواد الطويلة والجافة» (مشارف) 94، حزيران 1996، ص23).
والحقيقة أن شخصيات جبرا الروائية لم تحقق حضوراً لافتاً في الأدبيات الفلسطينية كما حققت بعض شخصيات روايات كنفاني وحبيبي. ولا أذكر رواية واحدة، مما قرأت، حضرت فيها شخصية جميل فران أو وديع عساف، بل وشخصية وليد مسعود. ربما تذكرت أسلوب جبرا، وأنا أقرأ رواية علي بدر الكاتب العراقي «مصابيح أورشليم» (2006) فالجزء الأول منها يشعرك أنك تقرأ إحدى روايات جبرا.
إلياس خوري: مثالاً:
يكاد إلياس خوري يكون من الكتّاب القلائل الذين حضرت بعض نصوص جبرا في رواياته، وأبدى ساردو هذه الروايات إعجابهم اللافت بلغة جبرا وبسيرته «البئر الأولى»، كما أنهم توقفوا أمام ما أوحى لجبرا بكتابة روايته «البحث عن وليد مسعود».
في «باب الشمس» (1998) يشير السارد المحاصر، وهو يتسلم من سناء الشريط الذي تركته أم حسن، بعد زيارتها الثانية إلى فلسطين، وتحديداً إلى الكويكات، يشير إلى الشريط الذي تركه وليد مسعود في رواية جبرا «البحث عن وليد مسعود» (1978)، ومن أجل هذا الشريط وفك لغزه «اضطر جبرا إلى إقامة رواية كبيرة وجميلة.» (ص99) ويعبر السارد عن رأيه في جبرا: «أنا أحبّ جبرا، لأنه يكتب بشكل أرستقراطي جملته نخبوية وجميلة» وعلى الرغم من فقره في طفولته «فقد صاغ جملاً أدبية بليغة، عليك أن تقرأها كما تقرأ الأدب، وليس كما أحكي معك الآن»، ويخيل إليّ أن إلياس تأثر بجبرا في جانبين: الشريط واللغة، فهو يعتمد على الأشرطة التي تصور له وهو يكتب عن مكان لم يزره، وهو يعتني بالجملة اعتناءً لافتاً، إنه يكتب أكثر مما يحكي، ولهذا تتشابه لغة رواياته الأخيرة التي هي ـ أي لغته ـ لغة كاتب أديب، لا لغة كاتب فقط.
في «أولاد الغيتو» يعبّر آدم عن إعجابه بـ»البئر الأولى» رغم عدم حبّه أدب السيرة الذاتية، ويرى أن سيرة جبرا هذه «أجمل ما كتب هذا المقدسي الأنيق والرائع» (ص99) ويبدي رأيه في الأدب: «أعتقد أن على الأدب ألاّ يشبه الحياة، بل أن يكون أدباً خالصاً لوجه اللغة وجمالياتها التي لا حدود لها.»
وسيختلف آدم هذا الذي أعجب بسيرة جبرا، مع جبرا حول مفهوم الذاكرة ويرى أن ما أدرك جبرا في «السفينة» (1970) من أن الذاكرة كالموسيقى ليس صحيحاً، فهي جرح في الروح لا يندمل.» ولذلك يتفق إلياس مع حبيبي في هذا الجانب، وربما لهذا كان تأثير أميل في إلياس أكبر بكثير من تأثير جبرا فيه.
***
5 - في ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا
مرت الذكرى ٣٨ لرحيل المثقف الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في هذا الشهر .
ما زالت مدينته بيت لحم ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ ١٩٦٧ ، فتحررها كان تحررا لفظيا شأنه شأن دولتنا اللفظية .
حلم جبرا في طفولته بخلق بحر ، وحاول ولكنه لم ينجح ، فالحفرة التي حفرها لتمتليء بالماء وتصبح بحرا سرعان ما تبخر ماؤها .
وحلم الفلسطينيون بتحرير فلسطين كاملة ثم اقتنعوا ، بعد يأس ، بدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة ، ثم ارتضوا أقل من ذلك ، فتبخر حلمهم كما تبخر حلمهم الحقيقي الذي يقبع في أعماقهم .
على خطا جبرا حلم إبراهيم نصرالله في روايته / سيرته " طفولتي حتى الآن " بإقامة / إنشاء مطار وبدأ طفلا يؤسس له ، ثم اكتفى من المطار بتذاكر الطائرات فطاف في هذا العالم ونزل في مطارات الدنيا كلها إلا مطار الرئيس الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات الذي آل مصيره إلى كومة تراب وخردة .
الخلاصة :
منذ ١٩٤٨ ونحن نراوح في المكان نفسه ينطبق علينا المثل " طيطي طيطي ، مثل ما رحت جيتي " .
الفلسطينيون هم سيزيف القرنين ٢٠ و ٢١ وهم طائر عنقاء الأسطورة ، ومقالي اليوم في جريدة الأيام الفلسطينية عنوانه " طائر العنقاء الفلسطيني " حول رواية وليد الشرفا " أرجوحة من عظام " ٢٠٢٢ الفائزة بجائزة دولة فلسطين للعام ٢٠٢٢ .
" بكى صاحبي لما
رأى الدرب دونه ، وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له : لا تبك عينك ، إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا "
ويبدو أن هذا هو لسان حالنا .
نأمل أن يكون العام القادم أفضل .
عام مجيد مبارك .
صباح الخير
خربشات
٢٥ / ١٢ / ٢٠٢٢
***
=============
1- الرجل الذي كان يعشق الموسيقى... قراءة في قصة جبرا
2- تقنيات النص السردي في أعمال جبرا رسالة ماجستير لعدوان نمر عدوان
3- الأدباء الفلسطينيون والأحذية.. قراءة في خمس سير ذاتية وروائية وقصصية
4- جبرا إبراهيم جبرا وحضوره في الرواية العربية…
5 - في ذكرى رحيل جبرا إبراهيم جبرا