- في كتاب رائع بعنوان "الفكر السياسي لمسكويه الرازي-قراءة في تكوين العقل السياسي الإسلامي" يتعرض محسن مهاجرنيا للنظرية السياسية التي اختطها المعلم الثالث مسكويه. باعتباره عالما شيعيا مسلما إيرانيا وذلك في خمسة فصول ؛ درس في أولها حياة المعلم الثالث والأوضاع والمعالم العامة لعصره. واختص الفصل الثاني بالاجتماع والسياسة . وركز الفصل الثالث على مكانة السياسة عند المعلم الثالث. أما الفصل الرابع فركز على أهمية الدولة والحكومة ومكانتهما في فكر مسكويه. أما الفصل الخامس والأخير فقد تعرض لبنية الحكومة وهيكليتها في فكر مسكوية.
الفصل الأول مسكويه: حياته وعصره:
اختلف في تاريخ ميلاد مسكويه لكن الراجح أنه ولد بين عامي 320 هجرية و325 هجرية وولادته كانت في مدينة الري جنوب طهران حاليا . أما وفاته فمتفق على أنها كانت في 9 صفر 421هجرية أي أن مسكويه كان من المعمرين واسمه أبو علي أحمد بن محمد .. وقد أطلق عليه لقب مسكويه وتطلق كلمة مسكويه أحيانا على بلاط الملك ، وأحيانا أخرى على بعض الأنغام والإيقاعات الموسيقية ، كما كانت تطلق على مدينة من توابع الري وقد نال لقب المعلم الثاني بعد أرسطو "المعلم الأول" والفارابي "المعلم الثاني" . وقد عاش مسكويه في كنف الدولة البويهية وعاصر وزراءها كالوزير أبي محمد المهلبي والوزير ابي الفضل بن العميد وأبي الفتح بن العميد وأخيرا الوزير عضد الدولة.
الفصل الثاني: الاجتماع والسياسة: حيث يستخدم مسكويه مصطلح الاجتماع بمعنى الجماهير غير المنتظمة التي تخرج إلى حيز الوجود بدوافع اللذة والنفع والمصالح المشتركة الأخرى . وفي منحى آخر بمعنى الاتحاد والتوافق القائم في جماعة كثيرة من البشر.
ويشير مسكويه إلى محورين أساسيين:
المحور الأول: النقصان الطبيعي للبشر وهو نقصان يحتاج إلى تتميم ولا يمكن للأفراد -كل على حده - بلوغ هذا الكمال ، ولما كانت هذه الحاجة سليمة وصحيحة اضطر الانسان لدعوة غيره ليلتف الجميع حول بعضهم بعضا.
المحور الثاني: في تكوين الاجتماع هناك محبة وألفة فإذا كانت هذه المحبة موغلة في الجذور ومستحكمة استحكاما جيدا كان الاجتماع ثابتا قائما مستقرا ، أما إذا كانت نابعة من منافع عابرة ومصالح خارجية سريعة الزوال فإنها تزول بزوال تلك الدوافع والمصالح لا محالة ما يفضي -نهاية -إلى زوال الاجتماع برمته.
وتقريبا ؛ فإن أغلب فلسفة مسكويه تدور مع المحور الأول وجودا وعدما.
وينقسم الاجتماع عنده إلى نوعين ؛ اجتماع ناقص كاجتماع المنزل ، واجتماع المحلة ، واجتماع الحي ، واجتماع القرية . واجتماع كامل كاجتماع المدينة واجتماع الوطن كله. ويعتبر أن الناس هم مدنيون بالطبع ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون . شارحا ذلك بقوله: "إنا قد بينا فيما تقدم ، أن الإنسان من بين جميع الحيوانات، لا يكتفي بنفسه في تكميل ذاته ، ولابد له من معاونة قوم كثيري العدد ، حتى يتمم به حياة طيبة. ولهذا قال الحكماء " الإنسان مدني بالطبع" ، أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الانسانية ، فكل انسان بالطبع وبالضرورة يحتاج إلى غيره ، فهو لذلك مضطر إلى مصافات الناس ومعاشرتهم العشرة الجميلة ﻷنهم يكملون ذاته ويتممون إنسانيته ، وهو أيضا يفعل بهم مثل ذلك".
ويقسم مسكويه الفضائل إلى فضائل فردية وأخرى جماعية وان هذه الأخيرة لا يمكن بلوغها من دون معونة الآخرين ومد يد العون والمشاركة لهم. ويذهب مسكويه إلى الحكم بفقدان أولئك المنعزلين جملة الفضائل قائلا: "فإذا القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس وتفردوا عنهم ، إما بملازمة المغارات في الجبال ، وإما ببناء الصوامع في المفاوز ، وإما بالسياحة في البلدان ، لا يحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية التي عددناها ، وذلك أن من لم يخالط الناس ولم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة ، ولا الجدة ولا العدالة ، بل تثير قواه وملكاته التي ركبت فيه باطلة ، لأنها لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر ، فإذا بطلت ولم تظهر افعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس".
الفصل الثالث: مكانة السياسة في فكر مسكويه:
مفهوم السياسة عند مسكويه:
فقد استخدم الى جانب مصطلح السياسة مفردات أخرى من نوع "صناعة الملك" و"تدبير المدينة" ، و "تدبير مصالح العباد" . وإلى جانب استخدامه مفردة السياسة بشكل مطلق ؛ أتى مسكويه على ذكرها مضافة إلى غيرها في تسعة موارد هي:
1-سياسة النفس.
2-سياسة الوالدين.
3-سياسة المنزل.
4-سياسة الوطن.
5-سياسة الملك (الفاضل أو الجائر).
6-سياسة المنزل.
7-السياسة الإلهية.
8- السياسة الشرعية.
9-السياسة الطبيعية.
يميز مسكويه بين الحكمة النظرية والحكمة العملية ويحاول في مجال الحكمة العملية تعريف السياسة الشرعية بالقول: "هي التي بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة". ويعرف السياسة الملكية فيقول في الهوامل والشوامل: "إن الملك هو صناعة مقومة للمدنية ، حاملة للناس على مصالحهم ، من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار والإكراه".
ويقسم السياسة إلى فاضلة وغير فاضلة ؛ فيقول في الأولى: " إن الملك الفاضل إذا أمن السرب ، وبسط العدل ، واوسع العمارة ، وحمى الحريم وذب عن الحوزة ، ومنع من التظالم ، ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشهم ، فقد أحسن إلى كل واحد من رعيته ، إحسانا يخصه في نفسه" . وطبقا للعناصر المذكورة يكون التعريف الأكثر شمولا للسياسة هو: " التي بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة".
وتتكون المنظومة الفكرية لمسكويه من عناصر هي كالتالي: الشريعة ، الفلسفة ، السياسة ، الأخلاق والتاريخ. في السياسة والشريعة يقول بأن الدين أس السياسة والملك حارس للدين ، وكل ما لا أس له فمهدوم ، وكل ما لا حارس له فضائع. ويساوي مسكويه بين الشريعة والسياسة الإلهية فيقول: "الشريعة هي سياسة الله وسنته العادلة التي بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة".
أما في السياسة والتاريخ: يعتقد مسكويه بأن العالم -ومنه الظواهر السياسية- في حال صيرورة وتكامل دائمين ، فكل ظاهرة لها أساس تكويني، وإذا ما قمنا بتقسيم الزمان إلى قسمين: ما وقع وما لم يقع ، فإن القسم الأول سيكون توليفة من العوامل التي تؤثر في تكوين القسم الثاني ، ذلك أن كثير من الظواهر الاجتماعية تتكرر ضمن ظروف ومناخات متشابهة ، يقول مسكويه: " وإني لما تصفحت أخبار الأمم وقرأت أخبار البلدان ، وكتب التواريخ ، وجدت فيها ما تستفاد منه تجربة في أمور لا تزال يتكرر مثلها ، وينتظر حدوث شبهها ، كذكر مبادئ الدول ، ونشوء الممالك ، وذكر دخول الخلل فيها بعد ذلك". ويؤكد المعلم الثالث على الآتي:
1- أن الغرض من كتابة التاريخ هو وضع تجارب الماضي في أيدي الساسة وأهل التدبير وولاة الأمور العامة.
2-أن موضوع الدرس التاريخي هو تاريخ الأمم ، وسيرة الملوك ، وأخبار المدن.
3-سبب الانشغال بالتاريخ: للاستفادة من تجارب الآخرين.
4-اجتناب التاريخ عديم الفائدة .
السياسة والفلسفة:
يقسم مسكويه الحكمة إلى نظرية وعملية ؛ أما النظرية فهي ؛ "العلم بالموجودات من حيث هي موجودات" وهي تمثل الكمال العلمي عند الانسان. واما الحكمة العملية المتصلة بالقوة العاملة فيشرحها كالتالي: "أما الكمال الثاني الذي يكون بالقوة الأخرى ، أعني القوة "العاملة" ؛ وهو الكمال الخلقي ...ومبدؤه من ترتيب قواه وأفعاله الخاصة بها ، حتى لا تتغالب ، وحتى تتسالم هذه القوى فيه ، وتصدر أفعاله كلها حسب قوته ". ويحصر مسكويه الفلسفة النظرية في الفلاسفة تماما كما فعل من قبل أبو نصر الفارابي ، حادا بذلك من تدخل الساسة في حريمها وقاطعا السبيل عليهم.إلا أن نتاج عملهم المتمثل في عرض "الآراء الصحيحة" و"الاعتقادات الفاضلة" يوضع تحت تصرف الساسة وضمن سلطتهم.
ويأخذ مسكويه بنظريات المعلم الثاني في كتابه "تحصيل السعادة" ، والتي تقضي بأن الفيلسوف في الفلسفة النظرية فحسب فيلسوف ناقص ، وإنما يكتمل عندما يلج ميدان الفلسفة العملية ، ويحصل الفضائل الفكرية والخلقية والعملية.
الفصل الرابع: الدولة والحكومة:
يقسم مسكويه المجتمعات البشرية على أساس ما يصطلح عليه ب "صرف العيش" ، و "تحسين العيش" ، و"تزيين العيش" ؛ أما صرف العيش فهي المجتمعات التي يعجز أفراد البشر فيها من تأمين حاجياتهم الضرورية في الحياة بمفردهم ، ولكي يستفيدوا من جهود الآخرين يسلمون أمرهم للمجتمع ، فيذعنون له ، فيصبحون كبعض الحيوانات (النمل -النحل) ، مذعنين لحياة اجتماعية بغية الحفاظ على حياتهم ، واستمراريتهم ، لكن مع اختلاف يميزهم عن هذه الحيوانات هو أن الحياة الجمعية عندها تتبلور على شكل غريزي وجبلي. وينتقد مسكويه هذه المجتمعات ، وير ان المجتمع الذي يولد على هذا الأساس يولد ناقصا ، وإذا اتسع هذا الميل إلى هذا الهدف عبر الزمن فإنه سيؤدي -لا محالة- إلى زوال هذه المجتمعات عينها واندثارها.
وأما المجتمعات التي تظهر لتحسين العيش ؛ فهدفها ليس الحصول على الضروريات الأولية للحياة ، بل أن البشر يقومون بتسخير الطبيعة ويسعون إلى ذلك على أساس عقلهم وعقلانيتهم لكي يوفروا ﻷنفسهم الحياة الفضلى.
أما المجتمعات التي تعمل لبلوغ "تزيين العيش" ؛فهدفها تزيين المجتمع بالفضائل والغايات والقيم المعنوية .
وعقب بيانه الأهداف الثلاثة هذه ؛ يذهب مسكويه إلى أن المجتمع الذي يبلغ هذه الأهداف الثلاثة هو مجتمع كامل ومتقدم "فإن اجتماع هذه هي العمارة" ، وإذا ما تورط هذا المجتمع ففقد هدفا من هذه الأهداف الثلاثة فسوف يمنى بأزمة ، ويبتلى بفوضى عارمة ، فينتهي أمره إلى خراب.
مفهوم الدولة والحكومة:
يستفيد مسكويه من مفردتي التمدن والمدينة في الكلام على مصطلح السياسة فهو يقول: "إن اجتماع الناس في المدينة توأم مع التعاون ، وهذا المزدوج هو ما يسمى بالتمدن". ومن الواضح أنه ليس المراد من التمدن محض السكن والاستقرار في المدينة ، بل يطلق هذا المصطلح على ذلك الاستقرار المشتمل على بنية منظمة وهيكلية منضبطة. تكون فيها حاكمية فضلى على رأس الهرم وتوزع فيها الامكانات والسلع الاجتماعية بصورة عادلة ، وتعم المعاملات وأنواع التعاون ، أجزاء وقطاعات المجتمع كافة.
ولمسكويه تعابير مختلفة للحكومة ؛ منها "الملك" بضم الميم ، و "السلطنة" ، و " الولاية" ، و "قيم الجماعة". ويقول في تعريفها : "إن الملك هو صناعة مقومة للمدينة ، حاملة للناس على مصالحهم ، من شرائعهم وسياساتهم (بالإيثار والإكراه) وحافظة لمراتب الناس ومعايشهم ، لتجري على أفضل ما يمكن أن تجري عليه".
فمفهوم الدولة في الفلسفة السياسية لمسكويه لا يمكنه أن يتبلور من دون حكومة ، ولهذا كان زوال الحكومة عنده مستدعيا لزوال الحاكمية وأصل الدولة وأساسها. ذلك أن المجتمع سيصاب بالهرج والمرج وتعمه الفوضى إذا ما انعدمت الحكومة فيه.
الفصل الخامس: بنية الدولة ومكوناتها:
تتمتع القيادة العليا عند المعلم الثالث بمكانة متميزة ؛ فهي تحتل عنده رأس هرم السلطة ،ويستخدم مسكويه لهذا المنصب تعبيرات كثيرة نذكر منها: الإمام ، الحكيم ، الفيلسوف ، المدبر ، السياسي ، الحاكم ، الملك ، القيم ، السلطان ، الواسطة والوسيط ، المقوم. ويعتقد مسكويه بأن الحاكم هو الحافظ للسنن كافة وكذلك للقوانين الإلهية في المجتمع ، وهو الذي يسوق المجتمع إلى السعادة والسرور.
ومن الخصائص التي يجب أن يتحلى بها القائد:
1- الصدق .
2-الابتعاد عن الأهواء النفسية .
3- التنزه عن العصبيات الجاهلة.
4- جعل القناعة نصب عينيه.
5- ضبط النفس.
6- بناء الذات.
وظائف القيادة والحكومة:
يجري الحكام السياسيون -وفقا للفلسفة السياسية للمعلم الثالث- أعمال الحكم والإدارة ، ويتحملون - بمن فيهم الحاكم الأعلى- مسؤوليات منها: اتخاذ القرارات ، التقنين ، القضاء ، الإجراء والتنفيذ بما يتعلق بمجال الحكومة وممارسة السلطة. أي أن مسكويه قد أقترب من المفهوم الحديث للسلطات الثلاثة للدولة (التشريعية ، التنفيذية ، القضائية).
تأمين السعادة المجتمعية:
تعتبر السعادة أهم غايات الحكومة ، ذلك أنه على كل انسان السير نحو سعادته الخاصة ، ولذا فعلى الحكومة تأمين هذه السعادة. ويلاحظ أن هذا المفهوم الرابط بين الحكومة والسعادة لم يعرف إلا حديثا وقد تبنته بعض الدول فأنشأت وزارة للسعادة.