بهجت العبيدي - العقل الديني واستغلال الكوارث: بين الادعاء والحقيقة

في خضم الأزمات الكبرى والكوارث الطبيعية، تبرز ظاهرة مثيرة للاهتمام متمثلة في العقل الديني، والذي يسعى جاهداً لاستنطاق الأحداث الطارئة كأدلة تدعم صحة معتقد أو تفوق دين على آخر. إن هذه الظاهرة التي تتكرر مع كل فاجعة تلامس الإنسانية، لا تعكس فقط طبيعة العقل الديني، بل تكشف أيضاً عن الحمولة النفسية والإيحاءات المرتبطة بالكرامة الإنسانية والإيمان. كما تكشف أيضاً عن العمق النفسي للإنسان، بما يحمله من توق للمعنى ورغبة في تأكيد كرامته وسط دوامات الألم والفقد.

تتجسد هذه الدينامية بشكل واضح في حرائق كاليفورنيا، حين تم تداول قصص متعددة حول بيت لم تُلحق به النيران، مما رُدَّ بشكل قاطع على أنه مُقام لقراءة القرآن. بينما لم يكن بعيداً عن الأذهان كيف دُعمت هذه الروايات بصور لكنيسة ظلت قائمة وسط الخراب، مما يولّد شعوراً بتفوق الاعتقاد المسيحي أيضاً. إلا أن هذه الظواهر ليست مجرد مصادفات عابرة، بل فتحت المجال لتدخلات ذهنية متخصصة في استغلال الدين لكسب نقاط في مشهد إنساني يتسم بالصراع وجودياً بين المعتقدات.

ونشاهد هذه العقلية تتفاقم مع كل كارثة، كما حدث مع تسونامي 2004، حيث انتشر حديث حول تمثال للسيدة العذراء الذي لم يتأثر بالدمار المحيط، وقد اعتبره الكثيرون دليلاً على صحة عقيدتهم. أما في أعقاب الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، فلقد انتشرت إشاعات تفيد بأن بعض المساجد لم تتعرض لأية ضرر، مما أُعتبر معجزة إلهية برهنت على حُسن الحظ أو محبة الله لمؤمني هذه الأماكن. في هذه السياقات المأساوية، يظهر الدين أداة تكثف الشكوك وتعزّز الخوف من الفقدان، وهي تعبيرات رقيقة عن عقل ديني يشعر بالحاجة إلى القوة والتأكيد.

وفي تحليل هذه الظواهر، يتوجب علينا العودة قليلاً إلى طبيعة العقل الديني نفسه. هل جميع المتدينين يمتلكون هذه الرغبة الملحة لإثبات صحة معتقداتهم من خلال المعجزات والقصص المبالغ فيها؟ في الواقع، أسس هذه العقلية تعود إلى القلق الدائم بشأن حضور الدين في عالم سريع التغير. إن الاستناد إلى الأحداث الكارثية لإثبات حقيقة معينة ليس سوى استجابة لعدم اليقين الذي يعيشه الكثيرون، والبحث عن موطئ قدم قوي وسط الفوضى والانكسار.

إن العمل على تسخير الكوارث لتعزيز موقف معين تعكس اليأس في بعض الأحيان، فالأفراد الذين لا يرتاحون لعقيدتهم غالباً ما يكشفون عن قلق فكري ينم عن الحاجة لحماية نصوصهم من الانكسار تحت وطأة الأحداث المحيطة بهم، محاولين بذلك الاستحواذ على روايات مُرضية. ومع ازدياد الأزمات، تتصاعد الحاجة إلى تفسيرات أكثر وضوحاً ودعماً لتثبيت الطمأنينة في قلوب الأتباع. إن هذا الجانب يتعرض للتحدي والمساءلة عندما تصبح الحقيقة المريرة للكوارث مجالاً لتضارب الأيديولوجيات.

لكن علينا التذكير دائماً بأن هذه المحن يجب أن تمنح لنا الفرصة لنبني أواصر جديدة من التضامن الإنساني. فالكوارث، بدل أن تكون ساحة تنافس ديني، ينبغي أن تُعزز تواصل الخير والمحبة بين الأفراد مهما كانت خلفياتهم الروحية. إن الإيمان الحقيقي يجب أن يبرز في ممارساتنا اليومية وخياراتنا في المساعدة، وليس في فبركات تظهر في وقت الأزمات؛ فالصورة التي نرسمها لأنفسنا من خلال ردود أفعالنا تجاه محن الآخرين تعكس جوهر الإنسانية التي نسعى لحمايتها.

ومن هنا تظهر أهمية الخطاب الإنساني الجامع، الذي يُقيم القيم المشتركة من خلال دعم العلاقات أو إعادة بناء الجسور، فالتجارب المؤلمة يجب أن تكون محفزًا لتطهير النفوس والتآزر وليس لتحويل الدين إلى ميدان للصراعات. إننا نستطيع أن نتجاوز المحن ونظهر روح الرحمة، لتتجلى القيم الحقيقية للدين، إظهار العطاء، والمحبة، والتآزر الإنساني. وعندما نتعلم أن نواجه الألم سوياً، سنكون قادرين على إحداث تغيير فعلي في عالم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى رسائل التسامح والوئام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى