مصطفى تاج الدين الموسى - شتاء الرسائل الجميلة...

حارتنا هي صوتٌ عتيق لعجوز، صوتٌ يتلاشى ببطءٍ خلف شاحنةٍ ذاهبة إلى العتمة، سأرحل وبذمتي هذا اليقين الوحيد؟
عجوزُ حارتِنا أقدمُ من بيوتنا كلها، لا أحد يعرف تاريخها، لكنها تعرف تاريخنا كلّنا، حتى تفاصيله المملّة، نحن وأهلنا ولدنا على يديها.
الكبار يقولون إنّ لديها يقينيّات غريبة تشبه حياتها... أنا لا أحبها، هي غير مؤذية، لكنّنا نخاف منها عندما نمرّ بها وهي جالسة على كرسيها، فوق رصيف أمام باب بيتها، تدخن كخريفٍ عمره ألف سنة.
اليوم سمعتُ صوتها لأول مرّة منذ سنوات، لا يزال دافئاً وموحشاً مثل حارتنا القديمة، كانت تهذي في الخارج للناجين مصادفة من الحرب:
- ابن البدينة... أنا أعرفه جيداً، ذلك الشتاء جعل بناتي جميلات... ابن السكير، اشتقتُ له، بسببه ــ آنذاك ــ صار الحب في حارتنا أحلى، بسببه كانت تلك الرقصة الساحرة... هل تذكرون ذلك الشتاء القديم وتلك الرقصة؟ أمه لم تحب أباه، أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب، الوغد... كسر قلبي في ليلته الأخيرة إلى تسع بنات، واثنين وأربعين رسالة، اجلبوه إليّ إن كان حيّاً، اشتقتُ إليه، يا كلاااااب، أعطوني سيجارة...
"أبو رسائل" سخرت مرّة أختي مني، حملتُ هذا اللقب طويلاً بين غرف بيتنا.
في بيتنا القديم كان لدينا مكتبة بعدّة رفوف، تسلّيتُ في أثناء المراهقة بقراءة كتبها، فصارتْ لغتي جميلة.
في ذلك الشتاء، وفي ليلة باردة، تسلق خالد حائطنا ليقفز إلى شجرة الأكيدنيا حتى غصنها المحاذي لشباك غرفتي، نقر بسبابته على البلّور، فتحْتُه مُستغرِباً.
بقلب منكسر الخاطر، همس لي وهو يبكي بصمت:
- أرجوك... أنا أحبُّ يسرى، ساعدني واكتبْ لي رسالة حبٍّ إليها.
وكتبْتُ لخالد بن الحانوتي، رسالة حب ليسرى بنت الخيّاطة، بعد مساءين كانت النتيجة جميلة له، فأعطاني بضع سجائر... ابن عمه حيان فهم القصة، توسل لي من فوق غصن شجرة الأكيدنيا، في مساءٍ ممطر آخر أنْ أكتب له رسالة حب لهناء.
كتبتُ له متأففاً رسالة جميلة، بعد أيام عرف أمجد قصة الرسالتين، ثلاثتهم تسلقوا الشجرة معاً، وأمام شبّاكي ترجوني همساً أن أكتب لهم رسائل حب لعشيقاتهم من بنات حارتنا.
وكتبتُ لهم، بصراحة... كنت أستمتع بكتابة الرسائل للبنات بجانب المدفأة، وأوقعها بأسماء الآخرين، هذه الرسائل كانت تشغلني عن متابعة المشاجرات الدائمة لوالديّ كلّ ليلة.
في درس الفيزياء الغليظ، كتب لي قاسم على دفتره ملاحظة، وناولي إيّاه من أسفل المقعد، فقرأتها:
- بـ حياة أمك، اكتب لي رسالة حبّ لسمية، ومساءً نلتقي على شجرة الأكيدنيا...
زفرْتُ أمامه، ثمّ وافقتُ على مضض.
خلال أسابيع قليلة، صاروا تسعة مراهقين أكتب لهم رسائل حب لتسع مراهقات، ودائماً، بين الأرض والسماء... على أغصان شجرة الأكيدنيا في المساءات الماطرة، أعطي الأوراق لأصحاب الوجوه النحيلة ذاتِ القلوب المعذبة.
أظنّ أنّ أحدهم كان جاسوساً للأستاذ خليل مدير الإعدادية، طلبني إلى الإدارة فذهبت وبعد دخولي مكتبه طلب مني، بلطف غير معتاد أن أجلس.
كان مرتبكاً قال لي بخجل:
- بني... أنا أحبّ المستخدمة جمانة، الغبية لا تفهم عليّ... أريدك أن تكتب لها رسالة حب على أنها مني... عليها اللعنة، مجرد مستخدمة ومغرورة!
ـــ حبيبي أبو الخلّ، في الحب لا يوجد مستخدمة أو طبيبة، مهندسة أو متسولة.. يوجد أنثى فقط و...
كنت أشرح له فلسفتي في رسائل الحبّ بعد خبرة كبيرة في رسائل الحب ومزاج البنات، وأنا ألف ساقاً على ساق، وأنسل سيجارة من علبة سجائره فوق مكتبه و...
ـــ انقلع من هنا يا كلب..
قذفني بصحن السجائر، فأسرعتُ لأخرج وأنا أتعثر برِجْلي.
ثمّةَ ليلةٌ محال أنّ أنساها، كان مطرها غزيراً وكانت دونما قمر، أمام بلّور شباكي تناثر بصمت على أغصان الأكيدنيا تسعة أشباح، كنت أمامهم جالساً على سريري، وفوقي لحاف، وأمامي أوراق وقلمٌ، أتأملهم وأتأمل أوراقي، وفي الغرفة المجاورة مشاجرة عنيفة بين صلاة نقيّةٍ لأمي وخمرٍ تعيس لأبي.
صراخٌ هنا، وهناك ثمّةَ عيونٌ حزينة، تنتظر أوراقي، مصير روحها معلّق بالقلم بين أصابعي، والمطر لا يرحم الوجوه المائلة على الأغصان.
ثمّ، ساعتان ونصف... أفتح شباكي لأعطي المبللين بالماء والحب رسائلهم، يأخذونها بفرح ويمضون، لأبقى وحيداً على شباك الحب بلا رسالةٍ خاصة بي، محاولاً فهم عدم انسجام الصلوات النقية لأمي مع الخمور التعيسة لأبي.
مرّة، وكنتُ قد ضجرتُ منهما، كتبتُ رسالة حبّ إلى أمي موقعة باسم أبي، ثمّ وضعتها فوق قطرميز المكدوس، للأسف لم تنتبه لها.
مرّة ثانية كتبتُ رسالة حبّ من أمي لأبي، ووضعتها جانب قنينة العرق، أيضاً لم ينتبه.. فشلتُ بمصالحة صلاتِها مع خمره...
كل ما أردته عقد اتفاقية سلامٍ بين صلوات الأرض وخمور الناس، في هذا البيت الصغير، المحاصر بالأشجار.
بعد شهرين تقريباً، نساء حارتنا مع بناتهنّ اجتمعنَ في بيت أم العبد للاحتفال بولادتها، العجوز كانت موجودة تراقب الجميع بصمت كعادتها، انتبهتْ لشلة بنات في زاوية بعيدة، معهن أوراق يقرأن منها سراً، تأملتهنّ مطولاً... شعرتْ أنهن جميلات.
استغربت العجوز وحكت ذقنها، من يقينيّاتها الغريبة: البنت لا تصير جميلة إلا عندما تصلها أوّل رسالة حب في حياتها.
نهضتْ ومشتْ إليهنّ، انتبهن لها، خبأن الرسائل بخوف، انحنتْ عليهن وهمستْ بثقة:
- من يكتب لكُنّ؟...
لم يتجرأن على الإنكار، كلّ واحدة منهن همستْ بخجل معترفة باسم المراهق الخاص بها، أخذت العجوز الأوراقَ ونظرتْ فيها، هي لا تعرف القراءة لكن حاستها في الخطوط قديمة... شهقتْ:
- كلّ هذه الرسائل كتبتها يدٌ واحدة!
والتفتْ إلى الخلف، كأنها تنظر إلى الليالي السابقة، تذكرتْ مرورها بضع مرّات من أمام بيتنا، والأشباح المعلقة بصمت على أغصان شجرة الأكيدنيا، ابتسمتْ بخبث وتمتمتْ:
- ابن السكّير... هو من كتب كلّ هذه الرسائل، ما أحلاه "هزّتْ رأسها بحزن وهي تردف بأحد يقينيّاتها الغريبة" أجمل الصبيان أولئك الذين يولدون عن غير حب...
تنهدتْ وانحنتْ على البنات مُجدّداً، همستْ لهن محذرة:
- لا تخبرْنَ الصبيان أنكنّ قد عرفتن صاحب الرسائل، ليظلَّ ابن البدينة يكتب... إن توقفتْ رسائله سوف تصرْنَ قبيحات، من دون رسائل لن تبقين جميلات...
في تلك الحفلة، كلّ بنات حارتنا رقصن، أحياناً رقصات فردية وأحياناً جماعية، الرقصة الأحلى كانت رقصة جماعية لتِسْع بنات، صفقت لها النساء كثيراً وما عرفن سرّها، لقد كنتُ أنا ورسائلي سرّ هذه الرقصة، وحدها العجوز عرفت.
البنات حافظن على السرّ، لتمرّ الأيام الممطرة، وشجرة الأكيدنيا تسجل القمر في أغلب الليالي: غياب، والمتسلقون أغصانها لا يؤذيهم برد أو مطر، شباكي تغادر منه أوراق وترجع منه سجائر... وفي الغرفة المجاورة، شجار أمي مع أبي لا ينتهي.
أستمرّ بكتابة رسائل الحبّ دونما حب، أوقعها بتسعة أسماء وأظلّ بعد رحيلهم على شباكي وحيداً أدخن السجائر.
بعد أشهر انتقلنا إلى بيت صغير في حارة بعيدة، بعد أن تراكمتْ علينا الديون، جلبنا شاحنة، وفي ثلاث رحلات نقلنا كلّ إخوتي، وصلوات أمي، وخمور أبي، وأثاثنا.
في النقلة الرابعة والأخيرة، تناثرتْ على الشاحنة أشياء غرفتي وكراكيب غرفة المؤونة، انطلقتْ الشاحنة والمطر يهطل علينا.
عبرنا شارع حارتنا، القمر كان موجوداً على غير عادته، صوت الشاحنة كان مزعجاً... وأنا أبتعدُ عن بيتنا لوحتُ مودعاً شجرة الأكيدنيا، فلوحتْ لي بغصنها، ضيعنا بيتنا القديم، غصة تبتلع الحنجرة، تأملتُ بيوت حارتنا مقهوراً.
فجأة، وتحت المطر، تسع بنات خرجن إلى شرفاتهن الصغيرة، نظرن إليّ متحسرات... ثمّ رفعن أيديهن برسائلي، ولوحن لي في بكاءٍ صامت.
خرجت العجوز من بيتها شبه المهجور إلى الشارع، وطاردتْ
–مثل مجنونة–الشاحنة تحت المطر، وهي تدق الإسفلت بعكازها، كانت تصرخ فيّ:
- إلى أين راحل يا ابن السكير؟ ارجع، اللعنة على أمك البدينة... ارجع يا وغد، بناتي صرن جميلات بسبب رسائلك، من سيكتب لهن بعد الليلة؟ لا تقتل قلبي برحيلك يا حقير، ارجع...
عندما جاء الصيف، أختي الكبيرة في المطبخ قالتْ لخالتي بغضب من فوق ماكينة الكبة:
- الله وكيلك... كنا نظن أنّه يدرس في غرفته، بعد رسوبه في الشهادة الإعدادية اكتشفنا أنّه كان يكتب رسائل للبنات... معها حق أن تشمت فينا أم مالك، أبو رسائل! الله يلعنه..
الشاحنة في نهاية الشارع، العجوز وهي تسقط أرضاً قذفتني بعكازها، عكازها وصلني بعد عقدين من الزمن، ليسقط عليّ بهيئة قذيفة في حربٍ لم نعرف من أين جاءتنا.
تمزق جسدي كله، اكتشفتُ بعد استيقاظي من غيبوبة القذيفة، أن يدي اليمنى خسرتْ خنصرها وبنصرها، أخذوني عبر أنقاض الحارات إلى مستشفى بعيد، قال الطبيب بعد تضميد ثلاثة أرباعي:
- صباح الغد سوف نبتر ساعدك الأيمن... العظم تفتت، جزء من اللحم طار عنه، أعصاب كثيرة مقطوعة و...
حتى منتصف الليل وأنا أهذي وأتأمل يدي غير قادر على تحريكها:
- إما أن أعيش كلّي أو أموت كلّي...
اقتربت الممرضة لتعبث بعامود السيروم، نظرتُ في وجهها، ياااه... إنها حلوة وبريئة مثل حارتنا القديمة، بصوتي المبحوح قلتُ لها مترجياً:
- هل تسمحين لي أن اكتب لك رسالة حب؟ هي أمنية رجل سوف يموت خلال ساعات قليلة...
دمعتها بنت جميلة، تطلُ بخجل على شرفتها، والشرفة عين الممرضة.
عجز لسانها عن الرد.
- كتبتُ في حياتي رسائل حب للكثيرات بأسماء الآخرين، أشتهي الآن أن أختم حياتي بكتابة رسالة حب خاصة باسمي...
- لن تموت "قالتْ وهي تمسح على جبيني، ليغنّي في قلبي قطرميز مكدوس لأمي، نسيناه في بيتنا القديم آنذاك، فحزنتْ أمي لأجله أياماً" مستحيل أن تكتب بيدك أو تحركها...
توسلتُ لها أن تجلب ورقة وقلماً، استجابتْ لملامحي الشاحبة، ثمّ أدخلتْ بلطف القلم بين أصابعي المضمدة، وتحت يدي وضعتْ بهدوء ورقة، ثمّ مضتْ.
أشعلتُ سيجارة بيدي اليسرى شبه السليمة، ومن الشباك تأملتُ الليل، أيضاً، تأملني الليل، ثمَّ ردّد لي بصدى مزعج وهو يضحك متهكماً عليّ:
- سوف تخذلك يدك يا أبا الرسائل...
أخذتُ آخر نفس من سيجارتي، وقذفتُ الليل بها من الشباك بأصابعي... ثمّ صرختُ بصوت عالٍ: "يالله" وانحنيت.
الكلمة الأولى، تحركتْ يدي اليمنى، أوجاع الأرض تعزف ضجيج موسيقى غير منسجمة في جسدي كله.
دونما إصبعين، دخلتُ في السطر الأول، تسعة صبيان يتسلقون على عجل شجرة الأكيدنيا، تسع بنات يسرعن إلى شرفاتهن، كلهم.. معاً، يصرخون فيّ: اكتبْ، اكتبْ...
دخلتُ في السطر الثاني، أمي وخلفها عشرات المصلين في مسجدٍ في العالم الآخر، يلتفتون إليّ، هي، وهم من ورائها يصرخون فيّ بصوت واحد: اكتبْ، اكتبْ...
دخلتُ في السطر الثالث، أبي وألف مخمورٍ في خمارةٍ تعيسة في العالم الآخر، وهم يترنحون يرفعون كؤوسهم، يصرخون فيّ بنشيجٍ دافئ: اكتبْ، اكتبْ...
دخلتُ في السطر الرابع، طيف ممرضة جميلة بثياب بيضاء تضمد ما تبقى من حياتي، تهمس لي بحسرة: ولا مرّة كتب لي أحدهم، لهذا أنا قبيحة، اجعلني جميلة واكتبْ، اكتبْ...
دخلتُ في السطر الخامس، واحد وثلاثون شتاءً في حياتي يصرخون حولي كعواء ذئاب جريحة: اكتبْ، اكتبْ...
ودخلتُ في السطر السادس...
الصباح يقتحم الغرفة عبر شباكها، يقترب من يدي وقد نزفتْ كثيراً ثمّ يقبلها، كما يقبل حفيدٌ يد جده.
في نهاية السطر السادس من آخر رسالة حب أكتبها في حياتي، صار صباحي الأخير حفيداً شرعياً ليدي، ابتسمت.
دخلتْ الممرضة، تأملتني... بكتْ، أخذت الرسالة من بين أصابعي.
وكأن رسالتي صارت مرآة لوجهها، راحتْ تتأمل جمالها بين السطور القليلة، ثمّ سقطتْ بجانب سريري.
دخل الطبيب فأسرع إلى ساعدي، فحصهاً بسرعة ثمّ صاح مندهشاً:
- يا إلهي، حال يده صار أفضل... لم تعد بحاجة إلى بتر.
- مات...
قالتْ له بقهر وهي تخفي دموعها خلف رسالتي.
بعد أن دفنتُ، كثرتْ الأحاديث والأقاويل همساً حول هذا الطبيب.
قالوا إنه قد جنّ بسبب الحرب وأهوالها، كان يحكي دائماً للجرحى، لمرافقيهم، للممرضين، للأطباء، للجدران، لأعمدة السّيروم: عن جريحٍ يعرفه جيداً، مات كله، لكن يده ظلّت على قيد الحياة، ويقسم على هذا.
لا أحد صدّقه، سوى ممرضة.. وتلك العجوز التي تدخن بضجر وتبيع الكعك جانب باب المستشفى، وكلما شاهدتْ طيفي على أيّ شاحنة تمرّ بها مصادفة، تصرخ عالياً:
- يا كلااااب، أعطوني سيجارة...

الريحانية:6/10/2015

_______________
- من "ساعدونا على التخلص من الشعراء" للكاتب السوري مصطفى تاج الدين الموسى
أعلى