سلام صادق - وليد هرمز يزرع ورود الكلدان في غبار الذاكرة

وهكذا اعود للنميمة الناعمة او للاطراء الشفيف ، اعني للنقد كما هو حاله عندنا على الاعم الاغلب ، أعود الآن الى اهتزاز شفيف من نوع آخر اهتزاز يزيح صدأ التاريخ بلا رنين أو قرقعة ، بعد اهتزاز اول هو اهتزاز المكان عندما اغرقني بانثيالات ذاكرته البصرية الشاعر باسم فرات ذات مرة فكتبت عن المكان في اشعاره ، وهنا حيث يتوالد اهتزاز من نوع آخر ،هو اهتزاز الزمان، استشفه الآن حين ادخل مملكة الشاعر وليد هرمز، هذا الشاعر الذي كصديق آخر لي بقي يكتب ويكتب ويكتب ويخفي عنا مايكتب سنين طوال ( هو ذلك التشكيلي المعتكف في نفسه بلحيته المدببة وعينيه الثاقبتين اللاصفتين والذي امام الحاحنا يكتفي بقراءة سطر أو سطرين وحين نطالبه بالمزيد تحمر وجنتاه خجلاً ويتوقف ) ومثله في الهّم بقي وليد هرمز بالتاكيد يمارس فعل الكتابة سنينا طويلة في الخفاء، حتى صدرت عنه مجموعته الشعرية نواقيس الكلدان والتي اعقبها بمجموعته الشعرية سالميتي .ففي أغلب قصائده المنبثة بين ثنايا هاتين المجموعتين الشعريتين تتمظهر العلاقة واضحة بين ماهو حسي وماهو روحاني تلوح في أعلى تجلياتها ودفقها على شكل كلام مصوغ بعناية فائقة منساباً منزلقاً كما سمكة في ماء ، منزلقة في ضباب التاريخ او في سراب الحكايات ، بلا حراشف ولا أصداف :
بين صمتك ودهشتي
برزخ نجم
انفعالك نضوج سفرجل
عند منعطف الوداع
يا انتِ التي اجمع لها
وميض دمعي ..
فوليد هرمز يحاول اخراج الشعر من ازمنته الصامته ويجعله يعتنق البوح الشفيف فتتحول لديه القصيدة الى سيرة ملحمية تلهث وراء فردوس مفقود وزمن لايمكن استعادته الا بالشعر ومن خلال الشعر فقط .. وليد الذي يطور تجربته الشعرية متكئا على استعارة الزمن او استعادته من اشداق الغفلة جاعلا من تجربته الذاتية وعلاقته بهذا الزمن المنقضي بؤرة مركزية تضيء لتسقط اشعاعها على ما انقضى فتتحول الفكرة الى ارض مادية تاريخية تتمرأى في حاضر الذاكرة:
كلانا بأنامل مخدرة بوجع اليانسون
نمسد الغبار المتهالك على ختم الاقفال
قرأت ذات مرة لشاعر ايطالي لايحضرني اسمه ، كان يحب الله ويكره البابا ولم يقرأ أو يعرف عنه وليد هرمز شيئا بالتأكيد. وقرأت لوليد شيئاً مشابهاً لم تكن فيه لديه كلمات كافية لعكس مايراه بقلبه ولما يريد أن يتناوله علانية فيغرق في روحانية صامتة على شكل همس كتوم:
ايها الزيت ، الرب
ايها الجريء ، الشهي
اتبعني
برهانك شقاء
فاتبعني
حيث لم تخيرني
مرتطما باقداري الخمسين
مرتعشا كالايل الاسمر
اتلمس شدوخ جبيني المجروح بالنرجس اخترت عثراتي
عارية ، تصهل ورائي .
هذا الهمس هو الجوهر في هذا الإهتزاز المتولد في وجدانه منتقلاً باهتزاز متعاقب على شكل هالات متلاحقة من نور إلى وجدان المتلقي ، منبعثاً من عمق جراحات التأريخ بأسماء وأماكن وأحداث لشعوب سادت وملات الارض عنفوانا وبسالة وهي على وشك أن تباد الان:
انا الاعمى
ادوّن بوح المدائح وامضي
ادون وصايا جدي هرمس الكلدي
وامضي
مدادي خلاصة المرارة
وعذابي ابيض .
.
قصيدة وليد تأريخ الروح حين لاتعتمد الزمن الفيزياوي ففي أعمق أعماق اللغة يستقر الزمن على شكل احساس موار بالحياة دون قسر أو تحديد او اكراه ،معقماً ، نقياً ، مبضوعا بعناية جراح فائق ، نازفا ببساطة تقود إلى جمال يكمن في غبطة مخلوقاته وهو يتبتل خاشعاً أمام رهافة بوحها بدءاً من آلهته وملوكه ، مدنه وممالكه ، وانتهاء بأبيه:
هرمسُ ، يا امير نبيذ القلب المعتق
اميرنا الشقي ، انظر
نجوم الغبطة تغطي فجر كِلدة
دلنا على حدائق اسلافك
ايها الشفيع .
اما في مجموعته الشعرية الثانية : سالميتي ( وسالميتي تسمية اكدية تطلق على البصرة ) فتعيدنا لغته الى اشتغاله عليها بكثافة منسجما مع مقوله سابقة تفيد بان القصيدة في جوهرها انما هي اشكال لغوي ، لذا نلمس جهدا قاسيا بذله الشاعر لتغريب لغته او تقعيرها احيانا فيما يستوجب العودة الى مفاهيم ومعاجم والغاز لغوية لاتتوافق مع مرحلة كتابتها زمنيا وبيئويا كما في :
كلما حكّ حجر ( الباذزهر ) عضلات الكين بعضلات
الفياشل
استيقظت نبال الدغدغات تدب في البدن .
أو
زجمٌ مذهولٌ من شهوة التفاح
يمامٌ مسلطن برغوة اليانسون
نُحامٍ جسورٍ برشاقته
هدهدٌ نرجسي بقنزعتهِ .
بينما في نصوصه الاخرى نلمس وبوضوح محاولة ارتقاءه بلغته الى مستوى المماشاة الزمنية واكتناه لغة الحياة اليومية او مايعادلها كاداة لبناء معماره الشعري بلغة منسابة رغم انها محتقنة بكثافة الاحاسيس والدلالات ، ورغم هذا كله فانه حتى لو تقصد في تضمين كتابته كلام لايفهمه الا القليل ، فانه دوما يحاول ومن خلال ذلك التغريب الذي يعتمده ، ابتكار رموزه الخاصة عبر رؤيته الشعرية الخاصة ، الواسعة والمنفتحة التي لاتنغلق على لغته تلك او تضيق ذرعا بها بأية حال من الاحوال:
لكن الشاعر غفا فجأةً
غفا النسرُ
غفت الاسلحة بيد الاطفال
غفت المومس العمياء في المبغى
غفا الهراطقة في المعبد الغريق
غفا المطر في انشودتهِ
غفا حفارو القبور في ام البروم
غفا المسيح في جيكور
غفت وفيقة على الصليب
\+++غفا هومير الاعمى في دار جدي
غفا جدي الكِلدي على طمي بويب
غفا لوركا في منزل الاقنان
............................
غفوا كلهم في منفاي
وانا في قيلولتي ارتجف .
في كل قصيدة من قصائده يحاول وليد وضع بداية مستأنفة وضخ دفقة دم رهيفة في معايشاته دون اهمال حبل السرة الذي يشدها إلى رحم التأريخ الكلداني ، فقصائده تتنفس الحضور التام رغم الحيز الضيق المتاح لها ، كونه حضوراً مدعماً بتجارب ومعايشات عريضة ماضية ، نصوصه تلوح وكأنها بدهية أما قصيدته فتتحرك في منطقة حدودية وعرة بين الحضور الطاغي والبداهة من جانب وبين العوارض المتشبحة والمكفنة بغبار التأريخ المتراكم:
فلأركع لك على ركبتيّ الراجفتين امام مذبحك الحجري
مذبحك المصقول بحجر خصية ابليس
انثرهُ كي اطرد من انذروني ، ان اسقط ( لارسا)من نشيدي الناقص
اطردهم بهدوء ، لاهندس لنشيد انشادي الرابع
ظهيرة اربعاء المشيئة ..
فوليد هرمز في قصائده يسترضي التاريخ جمالياً لكي يبعثه حياً ناطقاً ، وحتى عندما يتناول المرأة والمنفى فهما عنده آتيان من عمق أعماق التأريخ ناصعين وكأنه يستعيدهما للتو حاملين جمالهما السرمدي معجوناً بسحنة هذا التاريخ وأبهته الموشحة تلابيبها بنواقيس الكلدان وقفاطينهم المذهبة :
هي فداحة منفى ، بلا مدى
فداحة قرصانٍ أبله
بلا مقايضات رميت غنائمي
للغرباء منذ قرون
على شطآن الاُبلة.
العبور من مضمون إلى آخر داخل قصيدته يتم بشكل مطاوع ومرن وبدون سحب حدود ناتئة وخادشة وبهذا تذوب المضامين والصور المختلفة مع بعضها إلى كلية واحدة يشملها طعم خاص فيوحدها على اختلاف اشكالها وإيحاءاتها ودلالاتها وكأن ما مقحم عليها من عناوين جانبية لامبرر له البتة .
يضع وليد هرمز مناديله الشفافة على نهارات التأريخ دون ان تكون حجبا أو كهانات ويخلع عنه معطفه المشتعل ثلجاً اسكندنافيا متدفئاً برنين التأريخ منبعثا من نواقيس الكلدان ومتدفئاً بجمر مباخرهم وبدمهم الفوار في كنائس العراق:
.تعال ياسليل قلاع الكلد ، تعال
يا ابن لوعتي ، تعال
افتح لك خزانة غوايتي
أسمعني سهو غزلك
المدعوك بلوز الشمال
بملح دموع صبايا الكِلد
خضبهُ بخمرة الشهوة .
في قصائد وليد تجارب حياتية ناجزة لكنها من النوع الذي يتطامن حتى كانه يعاش ثانية ، فهي تجارب متقنة التشكل ولذا فهي بهذه الصفة قد تركت آثارها وبصماتها على معظم قصائده خاصة في مضموني الموت والاغتراب الذين غالبا مايذكرانا كما قلنا في البدء بهذا( الإهتزاز الشفيف الذي يبعث هزته في الروح) رغم أن المادة الشعرية لديه تعطي انطباعاً عن مساحة واسعة منفلتة غير أنها محكومة دوما بإحالات من الإبهار والمفاجئة تتمظهر في ثنايا عديدة في قصائده المتوازنة والمصفاة بعناية بعد زمن اختمار طويل كما هو النبيذ المعتق:
ومَنْ سواي السائر على الجمر
السائر بخفٍ مثقوب من جلد الديناصورات
في قدمي نارٌ تهيج ماءً يؤتمنُ على مطري
في فمي سؤالها المر :
- ايكفيك ثلاثون نأياً ؟
- ايكفيك ثلاثون جنوناً ؟
- ثلاثون توبة عرّت خطاياك الجسورة
يحاول وليد بتناوله للعابر واليومي ان يضفي عليه روحا ملحمية منبعثة من قلب التاريخ ونابضة بنبضه وبمقاطع شعرية قصيرة محتشدة ومضمخة بعطر التاريخ حتى يصبح كسارق النار يحضى بها من كف التاريخ ليعرضها لنا بالعدد القليل من الكلمات ، ودون الحاجة الى ايقاعات ملحمية قد تضفي على النصوص سردية غير ملزمة، بسبر اغوار الاشياء والوقائع وتعيين تفاصيلها المعادة ، وعلى العكس فوليد يحيلنا الى حنين غامض وميلانكوليا تحثنا على المتابعة في ظل تلقائية وأسلبة فنية تتماهى مع جلجامشية معاصرة ، دون ان تطأ حدود الملحمية بشروطها كما اسلفت ، واذا اردنا ان نكون اكثر دقة نقول انها تمتح فقط من روح ملحمية غير مبذرة بلغتها او حماستها :
انا الاعمى
ادوّن بوح المدائح
وأمضي
ادوّن وصايا جدي هرمس الكِلدي
وأمضي
انا الاعمى
دليلي غانية اور
سيدة المعشوقات
أنخيدوانا
ربة النواح وفحولة البخور
انا الاعمى
دليلي خطيئة المعمدان يهيا يوهانا
وجسارة سالومي
شدت المئزر الكتان على خصرها ومالت ..
واذا كنّا قد الفنا في اغلب الكتابات الشعرية المعاصرة بان الحاضر والمستقبل يبدوان كالحلم الشفيف بالنسبة للكثيرين من الكتّاب والشعراء ، فان هذا الامر معكوس تماما عند وليد هرمز حيث دراما الحاضر المأساوي تجعل الماضي لديه هو مايبدو حلميا بشكل لايضاهى ، ويتضاعف هذا الاحساس بجعله ( اي الماضي) نقيضا زمنيا لحاضر متآكلٍ ومهتريء ودون الانكفاء اليه ( اعني الماضي) وانما بتوظيفه آنياً ، وهذا نابع بالتاكيد من اغتراب الشاعر روحيا وحسيا حيث تتراكم الصور الاليفة وتتزاحم الذكريات بتلافيف ذاكرته لدرجة يصبح معها اللامحسوس وكأنه موجودا وكائنا ومتجسدا ، بينما هو في حقيقة الامر مجرد روائح واصوات ومشاهد تكدست في ذاكرة الشاعر :
سأحمل افلاكي السبعة
اطوف بشعلة القرميد المدعوك
ببرق ندامى الكلد
ارضع من حليب لوزهم
ونبيذ فاكهتهم
انا انشودة اساطيرهم
عراقة مدائحهم
تُرس رعاة ممالكهم
قرص قربانهم الابيض
قيافة مسالكهم
نصفي منهم ، ونصفهم مني
زعفران عنفوانهم يسري في كبدي
عنقود صرتي معقودٌ بخيط وترهم
وصيتي مدونة بحبر دمعهم
رفيف نفسي بخارٌ
من ريحان نعمتهم .
الخلاصة ، فاذا كانت ( نواقيس الكلدان ) مجموعة شعرية تكتنه الدلالية الزمانية والتاريخانية بابعادها وافرازاتها العالقة في الذاكرة الحيّة للشاعر ، فان ( سالميتي ) تعتبر بحق رحلة وجدانية في تخوم الروح المعمدة بالاستلاب والاغتراب.


سلام صادق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى