د. حسام الدين فياض - نظريات سوسيولوجية... نظرية التفاعل الرمزي (3)

كما نعلم أن النظريات البنائية تهتم في تفسير العلاقة بين الذات والمجتمع من زاوية تأثير المجتمع على الذات أما أنصار نظرية التفاعل الرمزي فإنها تهتم بالدرجة الأولى بكيفية قيام الأفراد والجماعات بتأسيس المجتمع وإضفاء معنى عليه ومعايشة الحياة فيه، بدلاً من الاهتمام بكيفية تأثير المجتمع على الأفراد والجماعات. بمعنى آخر تمثل المعاني التي ينتجها الأفراد في تفاعلاتهم جوهر الأطروحة الأساسية لعلم الاجتماع التأويلي فيمكن اعتباره اتجاهاً في تأويل المعنى أساساً.

تشير الافتراضات الرئيسية لنظرية التفاعل الرمزي إلى أن الإنسان قادر على تحسين ذاته، كما تؤكد بعض هذه الافتراضات أن الإنسان يقوم بصياغة وتشكيل الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه من خلال عملية التفاعل الاجتماعي. ترى هذه النظرية أن الأفراد متفاعلون فيما بينهم بواسطة مجموعة من الرموز وتتوقف الحياة على مدى قدرة الناس على إنتاج الرموز واستخدامها والكيفية التي يرمزون بها إلى بعضهم البعض وإلى غيرهم من الناس أو الأشياء أو الأحداث أو الأفكار أو أي شيء في الوجود وهي ترى أن سلوك الأفراد نتاج لعلاقاته الاجتماعية، ويرى منظرو هذه النظرية أن التشتت الاجتماعي وأن أي خلل في شخصية الفرد أو سلوكه الاجتماعي يؤدي إلى خلل في عملية التفاعل الاجتماعي، لأنها تعتقد أن الحياة الاجتماعية التي نعيشها ما هي إلا حصيلة التفاعلات التي تقوم بين البشر والمؤسسات والنظم الاجتماعية .

ينظر هذا التحليل السوسيولوجي (قصير المدى) إلى الأنساق الاجتماعية باعتبارها نتاجاً إنسانياً يتشكل عملياً بموجب تفاعلات الأفراد مع بعضهم البعض وهذه الفكرة تقف على الجانب الآخر من الوجود الاجتماعي الذي ركزت عليه المدرسة البنائية في علم الاجتماع المعاصر.

تندرج نظرية التفاعل الرمزي تحت نظريات علم الاجتماع الجزئي، حيث تركز على العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع. يُعتقد أن التواصل - تبادل المعنى من خلال اللغة والرموز - هو الطريقة التي يفهم بها الناس عوالمهم الاجتماعية. فقد لاحظ المنظرين هيرمان ورينولدز أن هذا المنظور يرى الناس على أنهم نشيطون في تشكيل العالم الاجتماعي بدلاً من مجرد التصرف بناءً عليه. بمعنى آخر، ترى هذه النظرية أن الناس يتجهون في حياتهم من الذات إلى خارجها مؤكدين أن الأفراد هم الذين يشكلون المجتمع، من خلال التأكيد على أهمية المعاني للاتصال بما يشمله من لغة وإيماءات وإشارات، بالإضافة إلى التوقعات التي تكون لدى الآخرين عن سلوكنا في ظروف مواقف معينة خلال عملية التفاعل الاجتماعي.

يعتبر جورج هربرت ميد ( 1863-1931) مؤسساً لنظرية التفاعل الرمزي على الرغم من أنه لم ينشر أبداً أعماله فيها. صاغ طالب ميد، هربرت بلومر (1900-1987) مصطلح "التفاعل الرمزي" وحدد هذه المقدمات الأساسية: يتفاعل البشر مع الأشياء بناءً على المعاني المنسوبة إلى تلك الأشياء، يأتي المعنى المنسوب للأشياء من تفاعلاتنا مع الآخرين والمجتمع، يتم تفسير معاني الأشياء من قبل الشخص عند التعامل مع الأشياء في ظروف معينة. إذا كنت تحب الكتب، على سبيل المثال، فقد يقترح أحد المتفاعلين الرمزي أنك تعلمت أن الكتب جيدة أو مهمة في التفاعلات التي أجريتها مع العائلة أو الأصدقاء أو المدرسة أو دور العبادة. ربما كانت عائلتك تقضي وقتاً خاصاً للقراءة كل أسبوع، أو أن الحصول على بطاقة المكتبة الخاصة بك كان يعتبر حدثاً خاصاً، أو ارتبطت قصص ما قبل النوم بالدفء والراحة.

يبحث علماء الاجتماع الذين يطبقون مقولات التفاعل الرمزي عن أنماط التفاعل بين الأفراد. غالباً ما تتضمن دراساتهم ملاحظة التفاعلات الفردية على سبيل المثال، في حين أن منظري الصراع الذي يدرس احتجاجاً سياسياً قد يركز على التفاوت الطبقي، فإن التفاعلي الرمزي سيكون أكثر اهتماماً بكيفية تفاعل الأفراد في المجموعة المحتجة، بالإضافة إلى العلامات والرموز التي يستخدمها المتظاهرون لتوصيل رسالتهم.

أدى التركيز على أهمية الرموز في بناء المجتمع إلى قيام علماء الاجتماع مثل إرفينج جوفمان (1922-1982) بتطوير تقنية تسمى التحليل الدرامي. استخدم جوفمان المسرح كمقياس للتفاعل الاجتماعي وأدرك أن تفاعلات الناس أظهرت أنماطاً من " النصوص " الثقافية. ووفقاً لجوفمان يمكن تشبيه التفاعل الاجتماعي بالمسرح، والناس في الحياة اليومية بالجهات الفاعلة أي الممثلين على المسرح، كل منهم يلعب مجموعة متنوعة من الأدوار، ويتكون الجمهور من أفراد آخرين يلاحظون تمثيل الأدوار ويتفاعلون مع العروض.

ففي نظرية التفاعل الاجتماعي كما هو الحال في العروض المسرحية هناك منطقة أمامية حيث يكون الممثلون على المسرح أمام الجمهور، ووعيهم بذلك الجمهور وتوقعات الجمهور للدور الذي يجب أن يلعبوه يؤثر على سلوك الممثل، وهناك أيضاً منطقة خلفية أو خلف الكواليس حيث يمكن للأفراد الاسترخاء ومراجعة الدور أو الهوية التي يلعبونها عندما يكونون أمام الآخرين .ومن الأمور الأساسية في نظرية إرفينج جوفمان فكرة أن الناس وهم يتفاعلون معاً في بيئات اجتماعية يشاركون دائماً في عملية إدارة الانطباع، حيث يحاول كل منهم تقديم أنفسهم والتصرف بطريقة تمنع الإحراج عن أنفسهم أو الآخرين، ويتم ذلك بشكل أساسي من قبل كل شخص يمثل جزءاً من التفاعل الذي يعمل لضمان أن يكون لدى جميع الأطراف نفس تعريف الموقف، وهذا يعني أن الجميع يفهمون ما هو المقصود بحدوثه في هذا الموقف، وما يمكن توقعه من الأطراف المعنية الأخرى وبالتالي كيف ينبغي أن يتصرفوا هم أنفسهم .ولكن في بعض الأحيان قد يكون من غير الواضح ما هو الدور الذي قد يلعبه الشخص في موقف معين، فيجب عليه أو عليها الارتجال في دوره مع تطور الموقف.

تستخدم الدراسات التي تعتمد على المنظور التفاعلي الرمزي طرق البحث النوعي، مثل المقابلات المتعمقة أو ملاحظة المشاركين، لأنها تسعى إلى فهم العوالم الرمزية التي يعيش فيها الأشخاص موضوع البحث.

تعتبر النظرية البنائية امتداداً لنظرية التفاعل الرمزي التي تقترح أن الواقع هو ما يبنيه البشر معرفياً. نحن نطور البنى الاجتماعية بناءً على التفاعلات مع الآخرين، وتلك التركيبات التي تدوم بمرور الوقت هي تلك التي لها معاني متفق عليها على نطاق واسع أو مقبولة بشكل عام من قبل معظم المجتمع. غالباً ما يتم استخدام هذا النهج لفحص ما يتم تعريفه على أنه منحرف داخل المجتمع. لا يوجد تعريف مطلق للانحراف، وقد بنت المجتمعات المختلفة معانٍ مختلفة للانحراف، فضلاً عن ربط السلوكيات المختلفة بالانحراف.

إن أحد المواقف التي توضح هذا التفسير هو ما تعتقد أنك ستفعله إذا وجدت (محفظة نقود) في الشارع. ففي الولايات المتحدة، يعتبر تحويل المحفظة إلى السلطات المحلية الإجراء المناسب، وسيُنظر إلى الاحتفاظ بالمحفظة على أنه سلوك منحرف. في المقابل، تعتبر العديد من المجتمعات الشرقية أنه من الأنسب الاحتفاظ بالمحفظة والبحث عن المالك بنفسك. إن تسليمها إلى شخص آخر، حتى السلطات، سيعتبر سلوكاً منحرفاً.

- نقد نظرية التفاعل الرمزي:
تعرضت نظرية التفاعل الرمزي لبعض أوجه النقد على أساس اهتمامها بدراسة الأنساق أو الوحدات الاجتماعية الصغيرة، وصعوبة التعامل مع الجوانب التنظيمية الكبيرة الحجم داخل المجتمع، بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع العلاقات بين المجتمعات. كما أن هذه النظرية لم تساهم في دراسة المجتمعات والنظم الاجتماعية الكبرى، بالإضافة إلى عدم إسهامها في فهم عملية التغير الاجتماعي على نحو النظرية البنائية الوظيفية أو نظرية الصراع. كما أنها ركزت بدراستها على الشخصية أو الذات الفردية واستبعدت ما يحدث في البناء الاجتماعي مما أدى إلى صرف أنظار الباحثين عن دراسة القضايا الأساسية للمجتمع ونقد الأوضاع القائمة. وعلى الصعيد المنهجي، غالباً ما يتم فحص وتدقيق البحوث التي يتم إجراؤها من خلال هذا المنظور بسبب صعوبة الحفاظ على الهدف. وينتقد آخرون التركيز الضيق للغاية على التفاعل الرمزي. أما المؤيدون، يعتبرون هذا النقد من أعظم نقاط قوتها.
-----------------------------------------

المراجع المعتمدة:

1- نيقولا تيماشيف: نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها)، ترجمة: محمود عودة وآخرون، مراجعة: محمد عاطف غيث، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1978.
2- طلعت إبراهيم لطفي، وكمال عبد الحميد الزيات: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع، دار غريب، القاهرة، ط1، 1999.
3- حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع (من مرحلة التأصيل إلى مرحلة التأسيس)، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، ط1، 2021.
4- مصطفى خلف عبد الجواد: نظرية علم الاجتماع المعاصر، دار المسيرة، عمان، ط2، 2011.
5- عبد العزيز الغريب: نظريات علم الاجتماع – تصنيفاتها، اتجاهاتها، وبعض نماذجها التطبيقية من النظرية الوضعية إلى ما بعد الحداثة، دار الزهراء، الرياض، ط1، 2012.
6- محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008.
7- سمير نعيم: النظرية في علم الاجتماع (دراسة نقدية)، دار المعارف، القاهرة، ط5، 1985.
8- علي ليلة: النظرية الاجتماعية الحديثة ( الأنساق الكلاسيكية )، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الثالث، بدون تاريخ.
9- جوناثان ه. تيرنر: علم الاجتماع النظري – مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية، ترجمة: موضي مطني الشمري، دار جامعة الملك سعود، ط1، 2019.
10- محمد عاطف غيث: دراسات في تاريخ التفكير واتجاهات النظرية في علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 1975.
11- إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسين غلوم، مراجعة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد:244، أبريل/ نيسان، 1999.
12- فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2010.
13- علي ليلة: بناء النظرية الاجتماعية، المكتبة المصرية، الإسكندرية، سلسلة النظريات الاجتماعية، الكتاب الأول، بدون تاريخ.


* د. حسام الدين فياض/ الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة/ قسم علم الاجتماع/ كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى