أ. د. عادل الأسطة - هواجس من وحي ما جرى... تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج5- (68--69)

ج(5)

68- هوامش من وحي ما جرى في غزة
تزاحم الأحداث وضياع بعض الأفكار


في الحرب أردت أن أكتب عن رواية «ما تبقى لكم» (١٩٦٦) فما قرأته فيها شاهدته في أشرطة الفيديو التي تبث. كأن المشهد الذي أشاهده تجسيد لما كتبه غسان في روايته، والمشهد ليس من فيلم سينمائي أخذ عنها. إنه مشهد مما يجري في غزة في الحرب.
مئات الشبان الغزيين مجردون من ملابسهم، إلا ملابسهم الداخلية. يجلسون على الأرض، في أجواء شتوية شديدة البرودة، وأيديهم موثقة خلف ظهورهم، يحيط بهم جنود ويخاطبهم أحدهم بالعربية:
- ألم نطلب منكم مغادرة شمال قطاع غزة إلى الجنوب؟ لماذا لم تغادروا؟
يجيبه أحدهم:
- لقد حاولت، ولكنكم لم تسمحوا لنا.
- هذا غير صحيح، فالناس غادرت عبر شارع صلاح الدين.
بم يجيب الضعيف القوي؟
وعندما يسألهم عن رأيهم فيما جرى وعن حماس ويحيى السنوار وعدم الاحتجاج على ما فعلوه، يشتم الرجل السنوار ويقلل من قيمته.
في «ما تبقى لكم» التي تجري أحداثها في ١٩٥٦- أي فترة العدوان الثلاثي على مصر؛ الفرنسي والبريطاني والإسرائيلي، وفيه احتل قطاع غزة - نقرأ عن حدث مشابه وشخصية مشابهة.
كان الجيش الإسرائيلي يبحث عن فدائي اسمه سالم، ولأجل إلقاء القبض عليه، فقد جمع عشرات الشبان وطلب منهم أن يدلوه على سالم، وهددهم بأنه سيقتلهم إن لم يعترفوا على مكانه، وكان سالم بينهم. رفض الشبان الاعتراف حتى ضعف زكريا خوفاً من القتل، فصاح:
- أنا أدلكم على سالم.
ولكن سالم فوت عليه فرصة أن يكون خائناً حقيقياً. «أقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة، وقد رأيناه يغسلنا بنظرة الامتنان التي لا تنسى فيما كانوا يقتادونه أمامهم. إلا أنه عاد والتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت: باردة وقاسية وتعلن عن ولادة شبح.... «وسيغيب سالم وراء الجدار هنيهة» ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما أخذنا ننظر إلى زكريا وكأننا جميعاً متفقون على ذلك. زكريا. زكريا».
وأنا أنظر في شريط الفيديو وأصغي إلى المتكلم فيه تساءلت إن كان زكريا بعث من جديد، وتساءلت أيضاً عما كان المعتقلون يشعرون به في تلك اللحظات وبم كانوا يفكرون.
ليس زكريا وحسب هو من استحضرته من روايات كنفاني وقصصه. لقد استحضرت أيضاً نادية في قصة «ثلاث أوراق من فلسطين: ورقة من غزة».
لم يمر يوم من أيام المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة، إلا في أيام الهدن القليلة، دون أن نشاهد شريط فيديو يظهر فيه جريح غير مبتور عضو من أعضائه. بعض الأشرطة عرضت لحالات مرعبة لن يشفى من أثرها أصحابها إلا ساعة موتهم. خمسون عاماً. ستون. سبعون. الله أعلم. وسيظل هؤلاء يعانون ويتذكرون ويستحضرون مشاهد الحرب.
في قصة «ورقة من غزة» كتب كنفاني عن نادية. عما قصه عنها عمها المدرس في الكويت العائد في الإجازة لزيارة غزة.
يزورها عمها في المشفى وقد أحضر لها معه هدية هي بنطال أحمر:
« - قولي يا نادية.. ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها، وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:
- يا عمي!
ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ».
نادية في إحدى غارات ١٩٥٦ صارت، في الـ ٤٧١ يوماً للحرب، مائتي ألف حالة.
هل انتهت الحرب؟
من قصص كنفاني التي ألحت، في الحرب وقبلها، على ذاكرتي «الصغير يذهب إلى المخيم».
كلما كتب كتاب غزة عن مشاكل أهلهم التي ستبدأ بعد انتهاء الحرب وجدتني أستعين بالقصة التي ميز فيها كاتبها بين زمن الحرب وزمن الاشتباك، ووجدتني أكتب لهم:
- ستنتقلون من زمن الحرب إلى زمن الاشتباك.
وصرت أكرر نفسي. صرت أشعر بأن كثيراً مما أكتبه ليس سوى تكرار، وغالباً ما كنت آخذ برأي إميل حبيبي في رده على من هاجموه بأن روايته «المتشائل» ليست إلا تقليداً لرواية (فولتير) «كنديد»:
- إنها الحياة التي تتكرر أحداثها أو تتشابه. تتكرر على شكل مأساة أو على شكل ملهاة.
يميز غسان في قصته بين زمن الحرب وزمن الاشتباك. في الأول هناك هدنة يلتقط فيها المحارب أنفاسه، وفي الثاني أنت تشتبك يومياً مع الحياة والناس، وفيه «كان الجوع - الذي تسمع عنه - همنا اليومي. ذلك اسميه زمن الاشتباك. أنت تعلم. لا فرق على الإطلاق. كنا نقاتل من أجل الأكل، ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا، ثم نتقاتل بعد ذلك».
كم من كاتب في غزة كتب عن مشاكل الناس أمام الطوابير والتكايا؟!
عبد الكريم عاشور «يحدث في غزة الآن» وشجاع الصفدي ومريم قوش و... و... وهل ننسى الطفل عبد الرحمن نبهان الذي سقط، في ٩/ ١/ ٢٠٢٥، في طنجرة الطبيخ ومات. هذا هو زمن الاشتباك الذي سيستمر عقوداً من الزمان. كما لو أن غسان كنفاني تنبأ به. وللكتابة بقية.

***

69- هواجس من وحي ما جرى في غزة... هوامش أدبية في زمن الحرب

في فترة الحرب تنظر في أعمال أدبية سابقة تحكي قصصاً تشبه اللحظة التي نمر بها.
إن قرأت عن احتمالية تهجير أهل قطاع غزة - فقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوم الطوفان الثاني أنه سيخوض حرب وجود - تتذكر معين بسيسو وما كتبه عن مظاهرات غزة في ١٩٥٥ التي رفع فيها على الأكتاف يهتف:
«لا توطين ولا إسكان
يا عملاء الأمريكان».
وتمعن النظر في المفردات التي استخدمها الكتاب في خمسينيات وستينيات القرن ٢٠. هل كانوا يستخدمون دوال «إسرائيل» و»إسرائيلي» و»دولة إسرائيلية» و»جيش إسرائيلي»؟
ولأنني ركزت على كتابات كنفاني أكثر من غيره، فقد أخذت، وأنا أقرأ بعض قصصه، ألتفت إلى الدوال التي يستخدمها، فلم ألحظ ورود الدوال السابقة. الدال الذي استخدمه، وغالباً على لسان الشخوص، هو دال «اليهود».
عندما قرأت رواية إبراهيم نصر الله «زمن الخيول البيضاء» التي يقف زمنها الروائي عند العام ١٩٤٨ كنت أقرأ الدوال المذكورة لا دال يهود، فأدركت أنه من تأثير الزمن الروائي على الزمن الكتابي، وأن الكاتب حين يكتب عن زمن لم يعش فيه لا ينجو من الكتابة عن زمنه هو. بمعنى آخر: إنه يسقط ما في زمنه - دون وعي غالبا - على الزمن الذي يستحضره.
في أثناء جدلي حول الرواية المذكورة قلت ما سبق، وأتيت بأدلة أخرى، ففي صفحتين متقابلتين كان الشخوص يستخدمون عملة الجنيه الفلسطيني وعملة الدينار الأردني الذي صك في العام ١٩٥١.
ولأن إبراهيم أدرج غير مرة فقرة من روايته «أعراس آمنة» (٢٠٠٩/ط٢) وأشار إلى أنه كتبها عن غزة، فقد عدت إليها أبحث عن غزة فيها، فقد أقتبس منها فقرة أدرجها في يومياتي، وعبثاً وجدت، ما جعلني أكتب أنك لو استبدلت اسمي أي مدينتين فلسطينيتين بغزة ورفح اللتين ورد ذكرهما لما ترك ذلك أي أثر على الرواية.
وحين عدت إلى شهادة إبراهيم التي ألقاها في مؤتمر القدس السابع الذي عقدته جامعة البتراء في ٢٠١٩ قرأت ما يدعم وجهة نظري.
لم ير إبراهيم القدس. إن مدينته هي عمان التي كتب عنها في عدد من رواياته ومنها «حارس المدينة الضائعة» و «طفولتي حتى الآن».
وعندما قرأت رواية محمود شقير «منزل الذكريات» التي دار موضوعها حول الشيخوخة وأتى فيها على ما يجري في غزة لاحظت أن ما كتبه كان ملامسة خفيفة، بل ولاحظت أنه لم يتعمق في الكتابة عن الشيخوخة.
هل اقتصر الأمر على ما سبق؟
في الحرب دار جدل بين الكتاب الفلسطينيين حول الترشح لجائزة الرواية العربية (بوكر). ترشح لها كتاب فلسطينيون ورفض آخرون، بل إن ربعي المدهون الذي كان حصل عليها لروايته «مصائر» التي أثارت جدلاً واسعاً، أعلن عن تخليه عن الجائزة، فالدول التي تمنحها تقيم علاقات تطبيع مع دولة الاحتلال، بل وتمدها بمواد غذائية تحتاج إليها.
وفي المقابل فقد ترشح إليها الأسير باسم الخندقجي المحكوم بالمؤبد وأكثر، فعقبت بعبارة واحدة فقط «فلسطين تعيد الجائزة.. فلسطين تتسلم الجائزة» وهات نقاشات في الموضوع الذي آثرت عدم الخوض فيه والانصراف إلى كتابة يوميات الحرب.
ومثل الجدل السابق الجدل حول رواية السنوار «الشوك والقرنفل» التي خصصتها منذ أسبوع الحرب الأول بـ ٣٦ خربشة وغير مقال. لقد سخرت كاتبة أردنية ممن عدها رواية، ولما قرأت فقرتها والتعليقات عليها أعدت إدراج كتابتها وطلبت من القراء أن يقرؤوا التعليقات التي تبعث على الضحك، فعقب قرائي وسخروا من الكاتبة التي عدت الكتابة تعرضاً لشخصها، ما دفعها لأن تهددني برفع قضية جرائم إلكترونية في بلدها الأردن ضدي.
هل سأقدم إن زرت الأردن إلى المحكمة، فأسجن عدة أشهر وأدفع غرامة مالية مقدارها عشرون ألف دينار!!
يا للفضيحة!
لم تكن اللحظة الآنية تستحضر مثيلتها في النصوص الأدبية في خمسينيات وستينيات القرن ٢٠ وحسب، فالجيل الذي ولد في النصف الأول من خمسينيات ق ٢٠ عاش في الخيام وعانى معاناة شديدة من ثلج تلك الأعوام وبردها وقرصه الجوع وعضه الفقر وأقام في مدارس وجوامع قبل أن يقيم في الخيمة حتى ١٩٥٨.
عندما قرأت رواية السنوار وكتبت عنها توقفت أمام الطفولة الفقيرة المعذبة وأمام احتلال غزة في العام ١٩٦٧ ومعاناة أهلها وفقدان كثيرين من أبنائها، ومن قبله كتب معين بسيسو وهارون هاشم رشيد عن احتلال غزة في ١٩٥٦ والمجازر التي ارتكبت بحق الجيش المصري والفدائيين الفلسطينيين.
استحضرت الحرب الدائرة حالياً الحروب السابقة واستحضرت مع استحضارها النصوص الأدبية التي كتبت فيها، فاكتنزت اليوميات بمعلومات تقول تاريخ قطاع غزة في القرنين ٢٠ و ٢١.
وللكتابة بقية.

***


=============
68- هوامش من وحي ما جرى في غزة... تزاحم الأحداث وضياع بعض الأفكار
69- هواجس من وحي ما جرى في غزة... هوامش أدبية في زمن الحرب


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى