سعيد يقطين - الدارجة المغربية أمازيغية معربة

أثارني هذا العنوان في بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وسبق لي أن رأيت ما يتصل بمحتواه مرات، ولكن فضولي لم يدفعني لمتابعة ما يقال لأني أعرف «خروب البلاد». لكني هذه المرة قررت الاستماع تحصيلا لفائدة أطلبها، رغم كون العنوان لم يبد لي ملائما ولا منطقيا، إذ كيف للهجة ما أن تكون ترجمة للهجة أخرى؟ فالمعروف أن أي لغة كيفما كان نوعها تقترض من غيرها كلمات وتدمجها في استعمالها الجاري، وتصبح من ثمة جزءا من رصيدها اللغوي، وإن كانت من أصل لغة أخرى. وهذا طبيعي ويقر به كل علماء اللغة. أما اللغات التي لم تتفاعل مع غيرها، فليس ذلك دليلا على أصالتها ونقائها، ولكن على عزلتها عن العالم، وعدم قدرتها على التبادل والشيوع.
الدارجة المغربية أمازيغية معربة
لن أتساءل عن الأسباب الكامنة وراء اتخاذ هذا الموضوع في وسائل التواصل، لأن من حقه أن يكون في دراسات موثقة، وفي معاجم خاصة. وهو بالمناسبة طريف وجليل لأنه يعكس عمق العلاقات بين الشعوب. ولكن أن يتحول للتفاخر بلغة بهدف التنقيص من أخرى، فإنه يندرج في سياق نهايات أسطورة البخاري، وخرافات العرب والعربية في المغرب، وتمزيغ التراث الأندلسي، والهجوم على الإسلام والتاريخ العربي ورموزه، وما شابه ذلك من الأراجيف والأباطيل التي لا تصمد أمام أي نقاش حقيقي. فلم تبق لهؤلاء سوى الدارجة المغربية العربية التي تتكلمها الأغلبية الساحقة من المواطنين، للكشف عن كونها ترجمة للأمازيغية، وأن ما هو «عربي» فيها ليس إلا تحويلا أمازيغيا. وتقدَّم الأمثلة الدالة على ذلك من بعض المفردات في الدارجة لتأكيد أنها أمازيغية، ومعرفة بسيطة بالعربية تكشف زيف الادعاء. كما يُبرهن على ذلك من خلال حضور أسماء بعض المدن بالأمازيغية، وصولا إلى زعم أن بنية الدارجة أمازيغية؟ وما شابه هذا من اللغو الذي يدعيه من نسميهم بـ»اللَّغويين» تمييزا لهم عن اللُّغويين ذوي الاختصاص العارفين بقضايا اللغة ومشاكلها.
إن التفاعل الذي حصل خلال عدة قرون بين مكونات المجتمع المغربي، جعل بالضرورة مفردات وصيغا تتبادل الحضور بين اللهجات العربية والأمازيغية. كما أن ما حصل بين العربية والأمازيغية طرأ مع لغات المستعمر الإسباني والفرنسي، وما يحدث الآن مع الإنكليزية في لغتنا اليومية. ولم يجرؤ أحد من اللغويين الأجانب على القول، إن الدارجة المغربية إسبانية أو فرنسية معربة، رغم أن ما هو متداول من اللغتين يكشف أن حضورهما في الدارجة أكثر بكثير مما هو متداول من أصل أمازيغي. ما طبيعة المفردات الأمازيغية التي نستعملها في تواصلنا اليومي؟ وما رصيدها اللغوي؟ ويمكن طرح السؤال نفسه عن الأمازيغية وحضور ما هو عربي فيها؟ وهذا عمل العلماء، وليس مدعي المعرفة لأسباب لا علاقة لها بالبحث. لا أحد يختلف في أسماء بعض الأماكن المغربية وأن أصلها أمازيغي، ولكن إلى جانبها أسماء عربية، وأخرى إسبانية وفرنسية: أهرمومو، مارتيل، جبل بويبلان، الويجانطي، جمعة فوكو… والشيء نفسه نقوله عن المفردات. لقد صرنا الآن نتحدث عن الأفوكا، والكيوي، والكاكي واليوتوب. الدارجة المغربية حية، ولغة الحياة اليومية في المغرب، ولذلك نجد لها القدرة على التعبير عن الحاجات الضرورية في الحياة. وما دخل إليها من أي لغة أخرى يصبح من رصيدها اللغوي مهما كانت أصوله. وهي بذلك لا تختلف عن أي لغة.
يتم اللجوء إلى المقارنة بين الدارجة المغربية وبعض اللهجات العربية في بعض الأقطار العربية لنزع طابعها العربي. وهذا مجرد لغو لا فائدة منه. فهل العراقي عندما لا يفهم كلمات، أو تعابير أو صيغا مسكوكة من الدارجة المغربية سبب ذلك أنها «أمازيغية»؟ ألا نجد هذا في كل اللهجات العربية التي تتطور باطراد، وتتجدد صيغها، ويتم الابتكار فيها باستمرار. لكن ما لا يفهمه المدعون أن اللغة استعمال. وأي جديد عني يبدو غريبا وغير مفهوم. لكن الاستئناس بأي لهجة عربية يجعل فهم تلك الدارجة متناولا لكل عربي في وقت وجيز، وهذا لا يحدث إلا في اللغات ذات الأصل الواحد. يمكن للمغربي أو العربي من أي قطر أن يصبح قادرا على فهم أي لهجة عربية والتواصل بها. وهذا لم يحصل داخل المغرب، حيث لا يفهم الناطقون بالدارجة العربية الأمازيغيةَ، رغم القرون الكثيرة التي تجمع بينهما، وهو ما يبين زيف ادعاء أنها الأصل، وأن دارجتنا معربة عنها؟ لو كانت الدارجة المغربية معربة، لكان التواصل مع الأمازيغية أكثر من أي تواصل مع أي لهجة عربية.
إن نشر الأباطيل والأكاذيب لا يثبت أمام الواقع والتاريخ والعلم. أتحدى اللَّغويين أن يعودوا إلى الأغنية الشعبية المغربية في مختلف لهجاتها، ويتابعوا فقط برنامج «ريحة الدوار» حيث الدارجة المغربية محافظة على أصالتها، ويستخرجوا لنا منها ما هو أمازيغي كلمات وأماكن وبنيات، من أوائل النصوص بالدارجة المغربية المحفوظة «ملعبة الكفيف الزرهوني» من العصر المريني، وهي قصيدة من خمسمئة بيت، ومؤلفها من بلاد جبالة الريفية، أتحدى اللَّغويين الكشف عن أمازيغيتها المعربة فقط بإحصاء عدد المفردات، لقد وظفت فيها كلمات أمازيغية كما هي، وهي قليلة جدا بالمقارنة مع ما فيها من مفردات عربية فصيحة، وأخرى من الدارجة في جبالة، التي يبرز فيها أثر الدارجة العربية الأندلسية بجلاء.
إن التطاول على الموضوعات التي تتطلب الاستقصاء مضيعة للوقت، ونشر للجهل والأكاذيب، وحبل الكذب قصير.
أعلى