ان ما املكه من قناعة في بعض الأحيان قد لا يستند الى تأكيد علمي ، اكثر من كونه يستند الى منطق او ملاحظة متكررة . لكن مسألة الدماغ البشري ليست مسألة بسيطة ، هذا الدماغ هو سر اسرارنا ، السر الذي لا نفهم كيف يعمل ويمنحنا تنوعا في الحواس وتنوعا في الفهم ، وتنوعا في التحليل. كيف يستقبل الوجود وكيف يهضمه ويعيه ثم يترجمه ثم يعيد انتاجه رمزا او بمفهوم اكثر جدة ، وهذه هي قضية الابستمولوجيا منذ افلاطون. يفرز الدماغ هرمونات مختلفة تحدد شعورنا ، هرمونات للخوف ، واخرى الغضب ، وثالثة للحب ، ورابعة للسعادة ، وخامسة وسادسة ، وكل هذا بعيدا عن وعينا به ، حتى انني لأكاد ان اعتبر الدماغ موضوعا خارج الذات ، او ذات داخل الذات ، اذا كان الدماغ يعمل خارج الذات او كذات مستقلة داخل الذات ، فهذا ينفي اي معنى لكلمة (إرادة) ، بل وينفي معنى الاختيار ، ويؤكد لنا دكتاتورية تخضعنا لجبرية ثقيلة الوطأة وان كنا لا نشعر بها لأنها تتخفى في وهم الارادة والاختيار . تتخفي بذاتها داخل ذاتنا ، وتندمج معها دون ان تذوب فيها ، وتحدد سلوكنا ونشاطنا المادي والذهني ونحن نعتقد توهما اننا من نحدد هذا النشاط . وإذا كان الأمر هكذا كما اتصور ، فإن فكرتنا عن القراءة يجب ان تتغير ايضا ، لأن القراءة بذاتها قد لا تعني اي شيء ، وانما القراءة تعني شيئا حينما يمنحها الدماغ المتلقي هذه القيمة . قد يقرأ عشرة اشخاص نفس الكتاب ، وتخرج لنا عشرة تقييمات مختلفة ، وعشرات التأويلات ، وربما من خلال العشرة قراءات لا نربح سوى تحليا وتفكيكا واحدا منطقيا لهذا الكتاب ، ناهيك عن ان نحصل على تساؤلات جوهرية ودقيقة منبثقة عن القراءة. فالقراءة في ذاتها لا تعني شيء ، وانما القراءة ليست اكثر من عامل مساعد ، وان كانت القراءة في ذاتها هي كل شيء لعنى ذلك تساوي مفاهيم البشر وتوحدها رغم تنوعهم. او على الاقل لتطابقت المخرجات وهذا في الواقع اشبه بالمستحيل. ما اعتقده هو ان الدماغ فوق القراءة ، الدماغ هو الذي ينمي القراءة وليس العكس ، القراءة قد تكسبنا معلومات ، كما يفعل قوقل او اي محرك بحث آخر ، لكن القراءة لا تكسب الدماغ قدرات اضافية للتحليل ، وهنا يمكن ان يكون الدماغ مجرد مخزن للمعلومات ، او قاعدة بيانات ، ولكنه لا يستفيد من مجموع هذه المعلومات ولا يستطيع ان يستخلص منها منتجا فكريا هجينا او حتى خارج رحمها. ومن هنا يأتي التميز والابداع ، خاصة في مجالي البحث العلمي والنقد الأدبي. فعلى سبيل المثال هناك مئات الآلاف من الابحاث العلمية التي تصدر كل يوم ، لكن كم نسبة اضافتها المعرفية؟ انها قليلة جدا ، ومن جهة اخرى ؛ نجد ان النقد الادبي نفسه قد يتسم بالعمق وبالسطحية لنفس النص الأدبي ، دون اي اهمية للدرجة العلمية للناقد ولا لعدد ما قرأه من كتب. ان الدماغ هو الملك دائما ، وهو الذي يتحكم بنا اكثر مما نتحكم به ، هذا إذا كنا نستطيع ان نتحكم بها اساسا. ان الدماغ الذي يعمل في شكل شبكات معقدة ومتداخلة ومتقاطعة ، ويستطيع ان يخوض في هذه المتاهات ، هو الذي يمكن ان يمنح القراءة قيمتها الكبرى ، العقل الذي يكتشف العلل ، لأن العلل هي مربط الفرس في مقارنة ومقاربة المدخلات المعلوماتية. ان ما يسمى بالعقل النقدي هو في الحقيقة ليس اكثر من عقل يتقصى اختفاءات العلل ، ومسيرة الانسان المعرفية لم تتجه ابدا الى التسليم المطلق ، بل الى الغوص من اجل الوصول الى العلل ، حتى بلوغ العلة الأولى التي لم يبلغها أحد حتى الآن. واذا كانت القراءة تأويلا للنص ، فهذا التأويل ليس أكثر من اكتشاف العلل التي يمكن ان تمنحنا مكنة التعميم بين الدوال والمدلولات ، بين المفردة ومجازها ، ومكنة معرفة حكم المسكوت عنه من خلال حكم المنطوق به . وما يسمى بقراءة ما بين السطور ليس اكثر من عملية ربط بين ظاهر النص واشارته عبر علة مشتركة ، فحتى القرائن او ما نسميه بقرينة ادراك شيء غير مدرك من خلال ما هو مدرك انما يتم عبر خاصية التشارك العلي. ليست القراءة المفيدة اكثر من قدرة ادمغتنا على القيام بوظيفتها الرئيسية وهي اكتشاف العلل ، ولكن هذا لا يتأتى لكل البشر ، انما هي خاصية يمكن ان نسميها حظا من الموهبة التي وهبتها الطبيعة للقلة وحجبتها عن الكثرة.