جواد علي - الفلسفة الاسلامية المتاخرة - 3 -

ترك الملا صدرا طائفة من الطلاب والمتعلمين كان أبرزهم تلميذه الملا محسن فيض الكاشاني وهو محمد بن مرتضى المعروف بمحسن فيض (توفي سنة 1091هـ). درس على الشيخ ماجد بن علي بن مرتضى البحراني المتوفى سنة (1028 هـ) والشيخ ماجد عالم مشهور وشاعر معدود تخرجت عليه طائفة من علماء إيران والعراق اشتهر بالفقه والحديث والأصول. ودرس على الملا صدرا وعلى نفر من العلماء البارزين.

غلبت على الفيض نزعتان النزعة إلى الفلسفة العالية والنزعة إلى التصوف. فدرس كتب الفلاسفة واصبح فيلسوفا من كبار الفلاسفة ومارس التصوف حتى أصبح صوفيا من جماعة المتصوفين فاتهم لذلك بنفس التهمة التي اتهم بها أستاذه الملا صدرا من قبل. (فنسب إليه الشيخ علي الشهيدي العاملي في ذيل رسالته في تحريم الغناء وغيرها كثيراً من الأقاويل الفاسدة والآراء الباطلة العاطلة التي تفوح منها رائحة الكفر).

وقد ذهب مذهب أستاذه في تقديس ابن العربي والثناء عليه والثقل من كتبه. وهذا ما أهاج رجال الدين عليه. وهو صوفي بالطبع ومشربه يشبه مشرب أبي حامد الغزالي وقد توصل إلى نفس ما توصل إليه هذا العالم الأخلاقي الكبير ولكنه غالى في التصوف وفي الدفاع عن عقائد المتصوفة حتى تسمى (بالشيخ والدرويش) وحتى انتسب إليه (القلندرية) وقال (بوحدة الوجود). وكتب أكثر كتبه على طريقة المتصوفة والمتفلسفة حتى تلك الكتب التي ألفها في الفقه والأصول والتفسير يقول عنه صاحب روضات الجنات (ولاشتهار مذهب التصوف في ديار العجم وميلهم إليه بل غلوهم فيه صارت له المرتبة العليا في زمانه والغاية القصوى في أوانه رفاق عند الناس جملة أقرانه حتى جاء على أثره شيخنا المجلسي، فسعى غاية السعي في سد تلك الشقائق الفاغرة وإطفاء نائرة تلك البدع الباترة).

والمحسن فيض فيلسوف صوفي، فمن المعقول إذا أن يكون لسلطان العقل عنده المقام الأول بالنسبة إلى سلطان النقل. على أننا لا نلاحظ ذلك عنده لا في كتاباته ولا في تفكيره. نراه يقدم الأخبار على الرأي ويأخذ بالحديث بدلا من الاجتهاد. ويتهجم على (الأصولية) القائلين بمبدأ الاجتهاد في الفقه وأصوله. وقد كان (أخبار يا صلبا كثير الطعن على المجتهدين ولا سيما في رسالته سفينة النجاة حتى أنه يفهم منها نسبة جماعة من العلماء إلى الكفر فضلا عن الفسق).

والأخبارية على نقيض (الأصولية) تعتقد بالأخبار الواردة عن الرسول اللائمة الاثني عشر المعصومين على رأي الشيعة ألاثني عشرية وتقدم الخير مهما كانت درجته على الدليل العقلي وحجتهم في ذلك أن الاجتهاد رأي والرأي لا يجوز في الدين ولذلك لم يعترفوا إلا بالكتاب وبالأخبار المروية عن النبي والأئمة واختلفوا عن الأصولية في درجات الحديث، أما الأصولية فأخذت بالأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل. وقد رفضت القياس لأن القياس في نظرها رأي والرأي لا يجوز في العبادة والدين. ونسب إلى المحسن فيض القول (بوحدة الوجود) وقيل أنه ألف رسالة في هذا الموضوع. ولكنه من جهة أخرى يتحامل على الدراويش والصوفية تحاملا قاسيا وله (مقامات) على طريقة مقامات الحريري في وصف حالة زمانه وأوضاعه السياسية وقد تحامل فيها على المتصوفة وأصحاب الطرق تحاملا شديدا يكاد يجعله في عداد المقاومين للصوفية على أنه نفسه من المتصوفة. غير أن تصوفه من قبيل تصوف الملا صدرا بلا ذكر ولا ملابس وعلامات.

ومن الذين تأثروا بمدرسة الملا صدرا عالم آخر وفيلسوف صوفي هو الملا عبد الرزاق بن علي بن الحسين اللاهيجي المتكلم الشاعر وصاحب التصانيف في الحكمة والكلام. وكان كالمحسن فيض صهرا للملا صدرا وخليفة من خلفائه في الفلسفة الإشرافية وله في هذه الفلسفة كتاب (شرح الهياكل في حكمة الإشراق) وكتاب (الشوارق في الحكمة) تلك الفلسفة التي ارتبطت بالصوفي الشهير السهروردي على الأخص والتي أصبحت ذات لون إسلامي خاص - والظاهر أنه لم يصل إلى مرتبة الفلاسفة المتقدمين بدليل ما قاله البعض عنه (من أنه كان قلندراً قبل أن يكون فيلسوفا).

أما الحاج ملا هادي السبزوادي (ولد سنة 17971798م

وتوفي سنة 1295هـ) فقد كان آخر رجل من هذه الزمرة

وهو شاعر فيلسوف طبعت أكثر كتبه في إيران. مثل مدرسة الملا صدرا خير تمثيل.

رفض الملا هادي مبدأ (الاتحاد) أي اتحاد الله في المخلوقات وفرق بين الاتحاد والحلول. فسر فكرة الاتحاد تفسيرا جديداً. . . أن (عقلي كل) (العقل الكلي) معناه اتحاد (الموضوع بالمحمول) ويتمثل الله الذي هو (العقل الكلي) في (العقل) الذي يشع من نور (المبدأ) أو (العقل الكلي) فالعقل الكلي هو (العقل) أو (الكون) بنفس الوقت. ولكن ذلك لا يعني على رأيه بأن الكون ذاته هو (الله). ولا يمكن أن يكون الكون بجملته شيئاً يقابل (العقل الكلي).

أن الله بحد ذاته لم يتحد بهذا العالم اتحادا تاما ولم يجل فيه لأن الله مستقل بذاته والكون مستقل بذاته ولكنه لا شيء بالنسبة إلى ذات الله. أن الكون حجاب لا يمثل الحقيقة والحقيقة هي الله والله هو أساس المخلوقات. ولولاه لكان الكون لا شيء - ولكن الله يرسل نوره على هذا العالم فيشع عليه ويشرق الكون ولا يكون هنالك (إشراق) لولا (النور) الذي هو الله.

وقد مزج الملا هادي على ما يظهر بين فلسفة الإشرافيين وبين فكرة (المايا - البراهمية وتكون من هذا المزيج فلسفته الخاصة. فالكون على نظرية البراهميين خداع في حد ذاته يظهر لنا كأنه الستار المنقوش على المرسخ الذي يرى الناظر من بعيد كأنها أشياء واقعية، ويفضل (المايا) التي هي اسم آلهة من آلهة البراهميين التي تشرق بالمعارف على العالم تتم معارف الإنسان.

أن النفس الإنسانية واحدة وقديما قال البراهمة بوجود نفس عامة للعالم من إشعاع تكون نفوس الأفراد

وقد فسر ابن رشد نظرية أرسطو طاليس عن (النفس الكلية) نفس هذا التفسير. فمن النفس الكلية تتشعب النفوس الجزئية. وقد أيد السبزوادي هذا الرأي وصرح به أن المادة هي التي تتجزأ في الأفراد أما الروح أو النفس فيها (كلية) عامة وهي وحدها التي تتصف بهذه الصفة، صفة العموم.

(انتهى)

د. جواد علي



مجلة الرسالة - العدد 634
بتاريخ: 27 - 08 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى