عشقٌ يتطاولُ كالعمر البعيد
تضخّم النور في مسار الفجر، وتحت غصنٍ شديد الاعوجاج يقطر من رأسه زيت شفّاف اللون، ثقيل اللزوجة، تجلس الكاهنة خندريس القرفصاء وهي تدفع أناملها في رأس عاشقها القتيل وتُلاحق قمل شعره يميناً و يساراً.
تنحني أكثر عليه وتزجّ بالقمل في الناحيتين، تنحني أكثر حتى تتكوّر لتنزّ رائحة كريهة من نسمات جلدها الواسعة وتظهر في هيئة شمطاء ضاربة في صميم الكبِر، تتلّوى على الرمل بعد أن أزاحت رأس العاشق تحت الغصن، مساوية رداءها الأسود الرثّ، ومتأمّلة تجاعيد كفّيها الخضراء وجلدها المريب.
أطلّت في ماء النهر وابتسمت عن شفتين سوداوين ولثّة داكنة الزرقة بلا أسنان، وعينين صغيرتين ذات أجفان متهدّمة، على خدين بجلدين متقرحين، استدار حول ساقيها كلب أدهم قصير القوائم مقطوع الذيل، فوق فكّه الأعلى شجّة بارزة، تناديه:
- شميم..
فَعَلى نباحه حتّى أسكتته بباطن كفّها ا لصفراء، وانحدرت نحو المدينة تدفع عربة خشبيّة على عجلتين مطّاطتين، وكلبها يقفز من أمامها ومن خلفها ويهرول.
***
التهبت حرارة الصباح فوق رؤوس السائرين في الأزقة والجالسين أمام الدكاكين ذات الأبواب الصدئة، وأفواه الباعة تنادي المشترين والمارقين:
"الأجود عندنا"
"لا مثيل لما لدينا"
تمرّ العربة يتقدّمها كلبها شميم لتقف عند دكّان عطّارٍ منشغلٍ بتقليب أعشابٍ مطحونة في كيسٍ من الخيوط البنيّة الخشنة وهو ينادي:
- دواء داء العشق لدينا، دواء داء العشق لدينا..
اتسع منخرا العجوز أكثر ممّا هما واسعان:
- أللعشق دواء؟!!..
- لكل داء دواء والعشق مهنتنا أن ننتج دواءه..
وأتبع بابتسامة هازئة من شفةٍ مشرومةٍ فوق ذقنٍ صغيرٍ تَنطُّ من أيسره شامة ثقيلة.
أطلقت مدير العربة من يدها واقتربت بخطوات عاجزة:
- وهل برؤ أحد أُعطي هذه الأعشاب؟!!..
- بالتأكيد
- .......
والتفت يميناً ويساراً:
- وهُم كُثُر..
- لكن عشقي تطاول كتطاول سنواتي البعيدات حتّى مات الكثير ولم أبرؤ!!..
غمس يده في الكيس الأوسط من الأكياس الموقوفة بين يده حتّى غاصت ربع ذراعه خلف يده، ورفع إليها حفنة كبيرة مطحونة:
- خذي هذه سترين بنفسك..
نظرت إلى وجهه ثمّ إلى الحفنة مرّات سريعة:
- أعد الحفنة إلى كيسك، فلست مؤمنةً البتّة بشفاءٍ من العشق..
- .......
- العشق الذي فتّت قلوب الجبابرة والفرسان وألقى الأبطال من على ظهور الخيول..
نَظَرَت في كلبها وهو يشمّ الأكياس ويدور حولها:
- لنذهب يا شميم..
***
وعلى مرتفع صخريّ على شكل قوس طويلة، تعبره خندريس وكأنّها تمشي على أرض الشوك، دافعة عربتها الصغيرة وكلبها شميم يقفز ويهرول من خلفها وأمامها، وهي تغنّي بصوت مشروخ:
"يموت العشّاق ولا عزاء للعشق فيه
يموت العشّاق ولا عزاء للعشق فيهم.."
تجاوزت المرتفع الصخري مُنغمسة في غِشاء ظلامٍ فتّته ضوء القمر، فلا غير صمت الصحراء الفاصلة بن مدينة مينار والنهر، يُخدرها لتراودها فكرة الانقلاب في هيئة حيوان بريّ، لكن هذه الفكرة لم تواصل إصرارها حيث انزلقت إلى سمعها نداءات رجال يتقدّمون قافلة من الجمال البيضاء، المزيّنة بجيوبٍ ذات نقوش وألوان من الخيوط السميكة:
"لنستريح هناك حتّى تطلّ الشمس..".
قال أحدهم وكأنّه أميرهم فالتفّت القافلة نصف دائرة بعد أن تململت الجمال واختارت أن تبرك فوق برودة الرمل الناعم، أنزلوا صاحبهم المريض، وأضجعوه تحت صخرة مُكعّبة، بعد أن أوقدوا نارهم وَصَفّوا صيدهم فوقها، مُتحلّقين حولها ونكاتهم وحكاياتهم الماجنة تعلو فوق صمت الصحراء، وصوت أحدهم مُنادياً:
- رشيد، رشيد..".
انفتحت نافذة الماضي أمامها، فرأت جثمانه المسجّى عند بابها، وأخواته ينحن ويهرشن وجوههن، فينطلق دمعها دون بكاء، مُجرياً كحلها العتيق من جفنيها الأحمرين، تلمع عيناها وهي تتذكّر وتسترجع تلك اللحظة الألم، وتمسح بكمّها الطويل دمعة انزلقت فوق خدّها، وانحصر بصرها في ثقب الماضي: حين وَقَفَت على جثمانه المغطّى بكفنٍ أصفرٍ خشن الملمس، تراقب حرقة أخواته وهنّ يدلقنها فوق رأساه وعند قدميه، واسمه يخرج من أفواههنّ متقطّع الأحرف:
"ر شـ يـ د، ر شـ يـ د.."
تحاول بجهدٍ قصيّ أن تنطقه:
- ر ر ر شـ شـ .. يــ يــ د..".
يَبُس لسانها من ثقل الحزن عليه، تمسح دمعها وماء أنفها بظاهر يدها المحنّاة قبل ليلتين من حنّاء جلبه لها من مدينة الميس جين عاد ظامئاً لعناقها، لم تفلح المحاولات في إقناعه بأن يبقى أسبوعاً لا يخرج من المنزل حتى تروي نهمها منه بعد الغياب الطويل.
تَذْكُرُ حين نَهَضَ وتمسّكت به:
"لا تذهب..".
يسألها مُداعباً:
- لِمَ؟..
- حَلِمت البارحة أنك تغيب في قاعٍ سحيق..
- ........
- لتبقَ اليوم..
مَسَحَ على خدّها برؤوس أصابعه:
- لن أتأخر، سأعود يحملني الشوق..
لكنه عاد يحمله نعشٌ حَمَلَ قبله المئات من رجال ونساء المدينة، تتذكّر الآن صوته والرجال الثمانية الذي التقطوه بنعشه ومضوا به مشيعين، لتستند بيدها على درفة الباب الخشبيّ ذي الطلاء الأخضر، تنظر إليهم وهم يتلاشون في البعيد، وتودّع من لا يسمع وداعها ولا يعرف بحزنها تلك اللحظة.
"رشيد.."
قالتها كاملة هذه المرّة وهي تخرج من الماضي مُستيقظةً لصوت المنادي مرّة أخرى وهو يصيح بصاحبه:
- رشيد، كفّ عن المزاح وأكثر من الحطب..
تتجمّع تجاعيد وجهها وتئن أنين المحرومين المُبعدين، تنظر إلى كلبها شميم وهو يحفر الأرض ويطارد فأراً عابثاً:
- لنمضِ..
وما إن انحدرت بقربهم حتّى مَرَقَ من أمامها (رشيد) عائداً إلى القافلة يحمل فوق متنه كومة من الحطب الغليظ، فهاله منظرها:
- أُمّاه..
-.......
- أتريدين أن آخذك إلى مخدعك؟..
جمعت تجاعيد كفّيها فوق مدير عربتها:
- أبداً يا ولدي، مخدعي ليس ببعيد..
- .......
- لنمضِ يا شميم..
فتجاوزته ليأتي من خلفها صوت مجنون مينار وهو ينفض أسماله ويُؤشِّرِ بسبَّاته اليمنى ذات الأنملة المبتورة إلى قصر الملك، ويُردِّدُ بصوتٍ تطحنه الرّبكة:
- اسجُدوا للحَجَر .. اسجُدوا للحَجَر..
* فصل من رواية "دم يترقرق بين العمائم واللحى" المنتمية إلى الأدب السياسي
تضخّم النور في مسار الفجر، وتحت غصنٍ شديد الاعوجاج يقطر من رأسه زيت شفّاف اللون، ثقيل اللزوجة، تجلس الكاهنة خندريس القرفصاء وهي تدفع أناملها في رأس عاشقها القتيل وتُلاحق قمل شعره يميناً و يساراً.
تنحني أكثر عليه وتزجّ بالقمل في الناحيتين، تنحني أكثر حتى تتكوّر لتنزّ رائحة كريهة من نسمات جلدها الواسعة وتظهر في هيئة شمطاء ضاربة في صميم الكبِر، تتلّوى على الرمل بعد أن أزاحت رأس العاشق تحت الغصن، مساوية رداءها الأسود الرثّ، ومتأمّلة تجاعيد كفّيها الخضراء وجلدها المريب.
أطلّت في ماء النهر وابتسمت عن شفتين سوداوين ولثّة داكنة الزرقة بلا أسنان، وعينين صغيرتين ذات أجفان متهدّمة، على خدين بجلدين متقرحين، استدار حول ساقيها كلب أدهم قصير القوائم مقطوع الذيل، فوق فكّه الأعلى شجّة بارزة، تناديه:
- شميم..
فَعَلى نباحه حتّى أسكتته بباطن كفّها ا لصفراء، وانحدرت نحو المدينة تدفع عربة خشبيّة على عجلتين مطّاطتين، وكلبها يقفز من أمامها ومن خلفها ويهرول.
***
التهبت حرارة الصباح فوق رؤوس السائرين في الأزقة والجالسين أمام الدكاكين ذات الأبواب الصدئة، وأفواه الباعة تنادي المشترين والمارقين:
"الأجود عندنا"
"لا مثيل لما لدينا"
تمرّ العربة يتقدّمها كلبها شميم لتقف عند دكّان عطّارٍ منشغلٍ بتقليب أعشابٍ مطحونة في كيسٍ من الخيوط البنيّة الخشنة وهو ينادي:
- دواء داء العشق لدينا، دواء داء العشق لدينا..
اتسع منخرا العجوز أكثر ممّا هما واسعان:
- أللعشق دواء؟!!..
- لكل داء دواء والعشق مهنتنا أن ننتج دواءه..
وأتبع بابتسامة هازئة من شفةٍ مشرومةٍ فوق ذقنٍ صغيرٍ تَنطُّ من أيسره شامة ثقيلة.
أطلقت مدير العربة من يدها واقتربت بخطوات عاجزة:
- وهل برؤ أحد أُعطي هذه الأعشاب؟!!..
- بالتأكيد
- .......
والتفت يميناً ويساراً:
- وهُم كُثُر..
- لكن عشقي تطاول كتطاول سنواتي البعيدات حتّى مات الكثير ولم أبرؤ!!..
غمس يده في الكيس الأوسط من الأكياس الموقوفة بين يده حتّى غاصت ربع ذراعه خلف يده، ورفع إليها حفنة كبيرة مطحونة:
- خذي هذه سترين بنفسك..
نظرت إلى وجهه ثمّ إلى الحفنة مرّات سريعة:
- أعد الحفنة إلى كيسك، فلست مؤمنةً البتّة بشفاءٍ من العشق..
- .......
- العشق الذي فتّت قلوب الجبابرة والفرسان وألقى الأبطال من على ظهور الخيول..
نَظَرَت في كلبها وهو يشمّ الأكياس ويدور حولها:
- لنذهب يا شميم..
***
وعلى مرتفع صخريّ على شكل قوس طويلة، تعبره خندريس وكأنّها تمشي على أرض الشوك، دافعة عربتها الصغيرة وكلبها شميم يقفز ويهرول من خلفها وأمامها، وهي تغنّي بصوت مشروخ:
"يموت العشّاق ولا عزاء للعشق فيه
يموت العشّاق ولا عزاء للعشق فيهم.."
تجاوزت المرتفع الصخري مُنغمسة في غِشاء ظلامٍ فتّته ضوء القمر، فلا غير صمت الصحراء الفاصلة بن مدينة مينار والنهر، يُخدرها لتراودها فكرة الانقلاب في هيئة حيوان بريّ، لكن هذه الفكرة لم تواصل إصرارها حيث انزلقت إلى سمعها نداءات رجال يتقدّمون قافلة من الجمال البيضاء، المزيّنة بجيوبٍ ذات نقوش وألوان من الخيوط السميكة:
"لنستريح هناك حتّى تطلّ الشمس..".
قال أحدهم وكأنّه أميرهم فالتفّت القافلة نصف دائرة بعد أن تململت الجمال واختارت أن تبرك فوق برودة الرمل الناعم، أنزلوا صاحبهم المريض، وأضجعوه تحت صخرة مُكعّبة، بعد أن أوقدوا نارهم وَصَفّوا صيدهم فوقها، مُتحلّقين حولها ونكاتهم وحكاياتهم الماجنة تعلو فوق صمت الصحراء، وصوت أحدهم مُنادياً:
- رشيد، رشيد..".
انفتحت نافذة الماضي أمامها، فرأت جثمانه المسجّى عند بابها، وأخواته ينحن ويهرشن وجوههن، فينطلق دمعها دون بكاء، مُجرياً كحلها العتيق من جفنيها الأحمرين، تلمع عيناها وهي تتذكّر وتسترجع تلك اللحظة الألم، وتمسح بكمّها الطويل دمعة انزلقت فوق خدّها، وانحصر بصرها في ثقب الماضي: حين وَقَفَت على جثمانه المغطّى بكفنٍ أصفرٍ خشن الملمس، تراقب حرقة أخواته وهنّ يدلقنها فوق رأساه وعند قدميه، واسمه يخرج من أفواههنّ متقطّع الأحرف:
"ر شـ يـ د، ر شـ يـ د.."
تحاول بجهدٍ قصيّ أن تنطقه:
- ر ر ر شـ شـ .. يــ يــ د..".
يَبُس لسانها من ثقل الحزن عليه، تمسح دمعها وماء أنفها بظاهر يدها المحنّاة قبل ليلتين من حنّاء جلبه لها من مدينة الميس جين عاد ظامئاً لعناقها، لم تفلح المحاولات في إقناعه بأن يبقى أسبوعاً لا يخرج من المنزل حتى تروي نهمها منه بعد الغياب الطويل.
تَذْكُرُ حين نَهَضَ وتمسّكت به:
"لا تذهب..".
يسألها مُداعباً:
- لِمَ؟..
- حَلِمت البارحة أنك تغيب في قاعٍ سحيق..
- ........
- لتبقَ اليوم..
مَسَحَ على خدّها برؤوس أصابعه:
- لن أتأخر، سأعود يحملني الشوق..
لكنه عاد يحمله نعشٌ حَمَلَ قبله المئات من رجال ونساء المدينة، تتذكّر الآن صوته والرجال الثمانية الذي التقطوه بنعشه ومضوا به مشيعين، لتستند بيدها على درفة الباب الخشبيّ ذي الطلاء الأخضر، تنظر إليهم وهم يتلاشون في البعيد، وتودّع من لا يسمع وداعها ولا يعرف بحزنها تلك اللحظة.
"رشيد.."
قالتها كاملة هذه المرّة وهي تخرج من الماضي مُستيقظةً لصوت المنادي مرّة أخرى وهو يصيح بصاحبه:
- رشيد، كفّ عن المزاح وأكثر من الحطب..
تتجمّع تجاعيد وجهها وتئن أنين المحرومين المُبعدين، تنظر إلى كلبها شميم وهو يحفر الأرض ويطارد فأراً عابثاً:
- لنمضِ..
وما إن انحدرت بقربهم حتّى مَرَقَ من أمامها (رشيد) عائداً إلى القافلة يحمل فوق متنه كومة من الحطب الغليظ، فهاله منظرها:
- أُمّاه..
-.......
- أتريدين أن آخذك إلى مخدعك؟..
جمعت تجاعيد كفّيها فوق مدير عربتها:
- أبداً يا ولدي، مخدعي ليس ببعيد..
- .......
- لنمضِ يا شميم..
فتجاوزته ليأتي من خلفها صوت مجنون مينار وهو ينفض أسماله ويُؤشِّرِ بسبَّاته اليمنى ذات الأنملة المبتورة إلى قصر الملك، ويُردِّدُ بصوتٍ تطحنه الرّبكة:
- اسجُدوا للحَجَر .. اسجُدوا للحَجَر..
* فصل من رواية "دم يترقرق بين العمائم واللحى" المنتمية إلى الأدب السياسي