رشيد لمهوي - المقاهـي.. كوجيطو الجلوس: أنا أجلس، إذاً أنا موجود

أربعة كراسي وحيدة تتوسطها طاولة على سطحها النقي اللامع توجد منفضة سجائر موضوعة بعناية فائقة وبلمسة فنية عالية وساحرة. النادل يعدو من ركن إلى آخر، من الأعلى إلى الأسفل، بخفته المعهودة يتفحص أحوال الطاولات للتأكد من هل الوسخ اجتاحها أم حافظت على نقائها الناصع. يجول النادل بابتسامة عريضة حاملا الطلبات بخفة ورشاقة، خفة تصل في أحايين كثيرة إلى إبداء ألعاب تميل إلى البهلوانية، كيفية حمله لصينيته وجعلها تلتف على نفسها في شكل دائري فوق سبابته. على يمين الكراسي ينتصب تلفاز من نوع البلازما تتدفق من ينابيعه مختلف الصور وكتلة من الأخبار المستعجلة. تلك الكراسي هي وجود الزمان بالقوة. الكرسي هو القابلية المتاحة والمفتوحة لحضور الزمان. وجلوس الفرد عليها هو وجود الزمان بالفعل. فالكراسي وحدها لا تغيب عنها الزمانية لكنها هي جاهزية الزمانية. إذاً، امتلاء تلك الكراسي الأربعة هو حضور الزمان الممتلئ. في جلسة حميمية يعلن الكلام عن نفسه ويتوالد. هنا الزمان يمتطي حصان الكلام ويمضي؛ كلام يسترسل ذاته ويتناسخ عبر ثنايا وأمواج متلاطمة. وبين الرشفة وأخرى يحل الكلام ونسيان الكلام. الزمان ينفق ذاته في كلام مهدور، مستسلما لإنفاق مقصود.
ولا يستنزف الزمان ذاته في صيرورة الكلام فحسب، بل يتعداه إلى النظرة؛ فيها يتمدد ويطول متباهيا بنفسه. في النظرة يرتبك الزمان ويتيه ولا يعرف من أين ابتدأ وأين سينتهي ولا إلى أين المصير. النظر جوهر المقهى ولبها الوجودي؛ في عمقها يبني الأفراد مساراتهم وفي فجواتها وبين نتوءاتها المخفية يتصرفون، وفي ضبابيتها غير المرئية يتجادلون. هناك قاعدة للنظرة. على هذا الأساس تحاول مجمل المقاهي بناء جدار زجاجي من مميزاته الأصلية حجب الرؤية ليس في وجه من يتواجدون في الداخل لكن في وجه من يتواجدون في الخارج، على هؤلاء المارة الذين ينسحبون تباعا كتيار جارف. وقد فطنت شركات عالمية كبرى لهذه المسألة؛ التي ستجني من ورائها أرباحا طائلة وهي صنع زجاج فوميه «مبخر» يكشف الآخرين ويحجب الناظرين. لعبة الخفاء والتجلي هي المضمون الذي يسطو على طبيعة هذا الصنف من الزجاج. قلنا ان الجلوس بالمقاهي يعكس تجربة خاصة مع الزمان. جلوس يكرس للزمان الميت وللثقالة والعطب. لماذا؟ لأنه جلوس يثمن السكون والثبات، الكائن فيه يبحث عما يحفظ ويثبت وليس عما يتحرك ويندفع. هنا يغزو الزمان الراكد. فعملية الترحال بين أروقة المقاهي لا تتغيا البحث عن مصادر القوة والتجدد في مظاهر الحياة بقدر ما هو بحث يتأسس على القبض على ما هو ثابت وراسخ وجاهز. والكرسي من طبيعته المتأصلة جاهزيته المنقادة والسلسة، حيث بروز شعار عريض " كرسي جاهز في متناول الجميع"؛ كرسي يقدم كرم حاتم، كرسي خشبي يلصق أظافره بالوافد الجديد وضيفه المحبوب.

أما الرحل على العكس من ذلك فهم يرتحلون ليس بنية البحث عن الاستقرار والركود، بل عما يعطي للحياة وثبة ودفعة حيوية تخول لهم القدرة على البقاء. نحن الآن بين نقيضين يسبحان في تيارات متضاربة. تيار يرتحل بين مقاه ينكشف فيها الخلود الدائم في حضن الكرسي المخملي، وتيار يرتحل عبر الصحراء من أجل خلق متجدد ودؤوب. اتخذ المقهى في الوجود الإنساني المعاصر سمة المنزل. ومن خصائص المنزل الجوهرية هو عمله المتخصص في امتصاص التيه الذي يتجذر في الكائن الإنساني بحيث ان المنزل هو التجلي الملموس للعود الجبري. على هذا الأساس يكون وجود الكائن الإنساني مرتهنا في يد المقهى الذي يختفي عنه لحظات ويعود من ثمة أدراجه إليه مغمض العينين وبوعي معطل، علما بأن المنزل هو ما يجعل الحركة رسوا والترحال استقرارا.

بناء على ذلك، فالمقهى صار في زمننا الراهن أكثر ألفة وأكثر عددا. والفرد لم يعد بإمكانه أن يدبر حياته اليومية ويضع مشروعاته المستقبلية ويعقد قراناته ويؤسس صداقاته ويخطط لطموحاته ويعلن تمرداته ويفصح عن ميولاته ويزكي انتماءاته إلا في المقهى التي غدت منزلا مضاعفا. بالمقهى توضع أحلام وتولد أفكار وتنشأ تنظيمات وتيارات وتتخذ زمام مبادرات وقرارات وتنفصم عرى علاقات. يمكن القول إن الكائن اليوم هو كائن يميل إلى الجلوس أكثر من ميله إلى المشي والحركة. لكن يبدو لي أننا الآن بصدد مفارقة صارخة ترمي بظلالها على المشهد الحياتي اليومي بقوة ضاغطة. وهي في الوقت الذي نعاين فيه الانتشار الكاسح للمقاهي وتصنع بانتشارها هذا أفرادا ميالين إلى الجلوس، نجد في الواجهة المقابلة حياة مشمولة بمنطق السرعة التي غدت نبض الحياة والمفصل الذي تتقاطع فيه إرادات وحيوات الأفراد. السرعة لغة العصر المسكوكة في الأذهان والأبدان والسلوكيات. لقد اخترقت أغلب المجالات وانسلت إلى تطلعات الأفراد وأحلامهم. ويظهر لنا جليا أن الفرد لم يعد له النفس الطويل في تسلق السلم الاجتماعي درجة درجة، خطوة بخطوة، بل يسعى إلى أن تتحقق طموحاته وأمانيه بسرعة وبأي منوال مقصيا مبادئه ملوحا بها في سلة المهملات، تاركا إرادته مشدودة بكاملها لإيقاع السرعة. فمشاهد السياقة هي حالة مجهرية لواقع السرعة الذي يدب في عروق حياتنا المعاصرة. في كنف هذا الواقع السريع يسكن الثبات والاستقرار في ما تقدمه المدينة بمقاهيها من إمكانات الجلوس .

كوجيتو الجلوس اليوم غدا الجلوس بمثابة ضريبة على الفرد أن يدفع ثمنها. ليست رغبتي في تمييع الكوجيتو الديكارتي إن تجرأت على القول إن الصيغة التي أضحت تفرض نفسها هي " أنا أجلس، إذاً، أنا موجود"، فموجودية الفرد هي قدرته اللامتناهية على الجلوس، فالفرد محاصر بنبتة المقاهي التي تنتشر في أمكنة المدينة شبيهة بنبتة الجذمور في انتشارها الأفقي الكاسح. وهي منذورة لعدم التوقف ما دام فائض الزمان ساري المفعول. لا شيء يردعها ويعيدها إلى رشدها، ويلزمها بضبط النفس والكف عن التناسل غير المشروع. حقيقة من سخريات الوجود هي التي تدفعني للتساؤل ترى من أي رحم خرجت علينا هذه المواليد دفعة واحدة؟ لا يجب التنكر لهذا الواقع الذي لا ينفك يفصح عن حقائق وغرائب الأشياء. ماذا عساه الواقع يكون سوى أنه مسكون باللاواقع والغرابة وطفرات ومفاجآت تتبادل المواقع وتتناضد؛ من واقع إلى لاواقع إلى فوق - واقعي إلى اصطناعي، هي مفاهيم باتت تخترق وجودنا وتستفزنا بمعطياتها وبمعانيها ودلالاتها المخبوءة.

لا يجب التنكر لواقع المقهى الذي هيمن بطبيعة الحال على وجود الفرد المعاصر بكامله وتجذرت كضرورة، ومجرد النية في الانقطاع أو التملص من هذه الضرورة يضحى مستحيلا. ولنفترض جدلا أنه حتى لو كانت ثمة عملية حسم في اتخاذ المبادرة فإنك ستجد نفسك أمام أسطول ضخم من المقاهي التي تفاجئك في كل خطوة تخطوها. إن لم تجتحك الرغبة في الجلوس في مقهى معينة ستلفي ذاتك عرضة وفريسة مباشرة للمقهى الموالي، وهكذا دواليك. لن تنفلت من هيمنتها الشمولية لسبب بسيط هو أنها اقتحمت باب المشروطية والضرورة. المقاهي اليوم هي الصيغة التي يتبدى من خلالها مفهوم الزمان وينكشف. ليس الزمان بمفهومه النيوتوني أو الإنشتايني، بل هو زمان الكائن الذي يتدبره ويكيّفه على سطح اليومي. لا نبحث عن الزمان في معانيه من مرجعيات نظرية، بل في كينونات تنقش آثار أقدامها على رمال المقاهي. هذه الأخيرة بمثابة المعقل الأصلي لبروز اليومي في تجلياته المتنوعة؛ هي إخبار معلن عن علاقة الكينونة بالزمان. لن نذهب بتحليلاتنا بعيدا إلى الأقاصي مهملين هذا المعقل الذي يشكل بالنسبة إلينا الرسالة المسروقة اللاكانية، والذي لم تنتبه إليه حواسنا اليقظة.

هوامش:
1ـ عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين. دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 2008، صفحة 83.
2ـ نفسه، ص 84.



* عن جريدة السفير 29/1/2010





مشاهدة المرفق 3880

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى