▪لا شيء اكثر خطورة من الكتابة ؛ كلما كتبت تحليلا او رأيا فستتوقع عشرات من الاعداء ، وعشرات من التهديدات ، وعشرات من محاولات اغتيالك جسديا ومعنويا. وتزداد خطورة الكتابة حينما تقف فوق سماء الكرة الأرضية ؛ متنصلا من اي انتماءات وايدولوجيات وهويات ضيقة ، هنا سيكون قلمك قنبلة نووية ، تنسف ترهات هذه المفاهيم ، لأنك ستكون الاقدر على فحصها بعين مجهرية ذات عدسات شديدة النقاء. والنقاء هو عدو كل الايدولوجيات ؛ حيث لا تخلو فلسفة ما من التخالط والاشتباك والتناقضات والنقص. وفوق ذلك فإن النقاء يهدد المسلمات الانسانية ؛ مزعزعا ذلك الاستقرار اليقيني لها ، وحين تفعل ذلك ينتفض العامة قبل النخبة عن جهالة بنقص وعيوب مقدساتهم. وتنتفض النخبة التي تستمد حظوتها ومزاياها من استقرار العوام على جهالتهم ، ذلك ان النخبة في الواقع ليست اكثر من كاهنة قدس الاقداس والعوام هم حراس معبدها. لذلك ليس هناك ما هو اكثر خطرا من الكتابة على من يكتب ، لكن في الاتجاه الآخر فليس هناك اخطر على هذا العالم من الكتابة. لأن البيان الشيوعي الاول هو من قلب العالم ، وان كتابات كوبرنيكوس وقبله جاليليو وقبلهما ابن رشد وتدوين الانجيل هي التي رسمت قطيعة بين العوالم داخل سيرورة الزمن. لذلك فإذا كنت ترغب في تبني الكتابة فما عليك الا ان ترتدي كفنك بكل شجاعة ، ثم تقتحم تلك الصروح المقدسة لتبدأ في هدمها وكهانها وعبدتها على اثرك يلاحقونك باللعنات والسخط وربما بالسيف. في الحقيقة عليك الا تعتمد على الشعارات التي يتم تصديرها كحقائق مطلقة ، فكما انك على اطلاع بحقيقة وهم الحقيقة فإنك ايضا على وعي بوهم تلك الشعارات ؛ كالحديث عن حرية التعبير. فلا تصدق هذا الشعار الذي ينتهكه اول من يرفعه كسلاح ضد الآخر. لا تصدق ابدا أن هناك حرية تعبير ما دامت هناك مبادئ . سواء عقائدية او نظرية ، وما دامت هناك انظمة وسلطات اجتماعية وقانوية ، وما دام هناك صراع اقتصادي وثقافي ودموي مزمن. لا تصدق ذلك لأنك حين تشرع في صقل قلمك ستشرع في وجهك البنادق ، بنادق الدينيين وبنادق الملحدين.. بنادق الشيوعيين وبنادق الرأسماليين ، بنادق الدكتاتوريات وبنادق اشباه الديموقراطيات (التي تدعي الكمال كذبا) ، بنادق الفقراء وبنادق الاغنياء ، بنادق الذكوريين وبنادق النسويات ، بنادق في كل مكان مستعدة لأن ترديك بدم بارد بل وبارتياح شديد لتخلصها من بعبع قلمك. لا أحد في هذا العالم يحب ان تتفكك مسلماته أبدا ، لأن هذه المسلمات هي التي شكلت هويته ، لا يمكن ان تخبر البان افريكان او العروبيين او اصحاب نزعة الجنس الآري بأن ما يعتنقونه من خلاصة ونقاء الاثنيات مجرد وهم. لا يمكنك ان تطعن في كلاسيكية الفهم الماركسي ثم تترك قلمك دون ان تتوقع السكاكين الطائرة ، لا يمكنك ان تتحدث عن توتاليتارية الرأسمالية كوجه ديكتاتوري مخضب بالمكياج ، لا يمكنك ان تشكك في حقيقة مفردات تائهة المفاهيم ومع ذلك تعامل كآلهة مقدسة ، لا يمكنك ان تشكك في قيم الحداثة ومدى منطقيتها او اعتبارها آلية جديدة للامبريالية ، لا يمكن ان تفكك مصطلحات تم ترسيخها لاخفاء التشوهات الانسانية كمصطلحات العدالة والحرية والاخاء بل والاخلاق بشكل عام. عندما تقف فوق سماء الكرة الارضية ، محاولا اكتشاف الوجود ، بمادياته ومعنوياته ، فأنت اذن ستشكل خطرا على هذا الوجود. فمن قال لك بأن الوجود يريد اكتشاف ذاته. على العكس تماما ، فرغم اننا ادركنا ان القمر ليس اكثر من حجارة رمادية قبيحة ولكننا لا زلنا نصف به حبيباتنا.