الدكتور مزوار محمد سعيد - حين يُكسَّر المعنى قبل أن يُكسَر الجسد

هذا النص ليس مجرد حكاية تربوية، بل هو نص يعبّر عن أزمة ظهور وظاهرة انهيار المكانة الرمزية داخل الفضاء المدرسي، بوصف المدرسة قطعة من العالم المعيش حيث يتجلّى المعنى لا بوصفه فكرة نظرية، بل بوصفه تجربة عيانية يُعايَش فيها التوتر بين سلطة التربية وسلطة القانون وسلطة الأسرة، وبين الظهور الراسخ للمعلم بوصفه مرجعًا معرفيًا، وبين انكسار هذا الظهور وذوبانه أمام أعين التلميذ. الوجود هنا متوتر بين قطبين: ظهور المعلم بوصفه حاملًا للردع المؤسس، وظهور ولي الأمر بوصفه سلطة خارجة مزاحمة تدخل لتعيد تركيب السلطة على نحو فوضوي. المعنى في الفينومينولوجيا لا ينشأ من القاعدة القانونية، بل من كيفية الظهور في الوعي، ولذلك فإن الإشكال في النص لا يتعلق بفعل الضرب في ذاته، بل بانهيار “صورة السلطة” بوصفها أعلى طبقات التجسد الرمزي. فالمتعلم يتلقّى المعلم أولًا بوصفه استمرارًا للسلطة الأبوية في البيت، لأن الأسرة تمارس الردع أصلًا، والمدرسة تواصل هذا النسق تمفصلاً وتوسيعًا في فضاء اجتماعي عام. وعندما يأتي ولي الأمر ليهدم هذا النسق أمام أعين الطفل، فإن الجريمة hermeneutically ليست في الاعتراض، بل في قتل التجلي الرمزي للسلطة داخل الوعي. إن استخدام الكاتب لفكرة “الصورة المنكسرة” Det ødelagte billede ليس مجرد استعارة، بل هو تحديد إصطلاحي لمستوى الانهيار الذي يحدث داخل مسار intentionality عند الطفل: المعلم لم يعد يظهر بوصفه الضابط أو الحامل للمعنى أو المرجعية، بل يظهر بوصفه جسدًا ضعيفًا مهانًا، ومعنى السلطة بعد ذلك لا يعود ممكنًا أن يُستنبت، لأن الصورة الساقطة تصبح أصلًا جديدًا في الذاكرة. وهنا يتحول التمرد من نتيجة إلى بنية، فيتحول السلوك التربوي العادي إلى مقاومة داخلية، ويتحوّل التوجيه إلى صدام، وتنزلق العملية التربوية من عقلنة الفعل إلى عبث الفعل. وهذا ما يجعل الضرب في النص لا يُقرأ hermeneutically بوصفه عقابًا جسديًا، بل بوصفه نصًا من نصوص البناء الرمزي الاجتماعي، بينما يصبح تدخل ولي الأمر الذي يهاجم المعلم أمام ابنه بمثابة تدخّل في نَصّ المعنى ذاته، لا في الحدث الفيزيائي. إن الفينومينولوجيا هنا تكشف أن أصل الإشكال ليس عنفًا جسديًا ولا قضية قانونية، بل هو تفكيك لبنية المعنى قبل أن يبدأ التعلم، لأن التعلم في بداياته لا يقوم على المعرفة، بل يقوم على الهيبة، ولا يقوم على المعادلة، بل على الطبقة الأولى من الظهور. إن انهيار صورة الردع هو انهيار مقولة التربية ذاتها، لأن التربية ليست نقل معلومات، بل نقل تراتبية المعنى عبر نظام رمزي جماعي. وما يقدمه النص هو تشريح لهزيمة المعلم قبل أن يبدأ الدرس، وهزيمة المتعلم قبل أن يفتح الكتاب، فحين يُقتل المعنى التربوي في مستوى الصورة الأولى، فإن كل معلومة لاحقة تصبح بلا جذور، بلا سند، بلا حضور، وتتحول المدرسة إلى ساحة صراع بين “صور مخذولة” لا بين عقول تتعلم. بهذا يصبح النص رثاءً لمشهدٍ لا يسقط فيه الجسد، بل يسقط فيه المعنى، وتسقط فيه الظاهرة من مستوى التجلّي إلى مستوى التشوه، وتسقط فيه سلطة التربية من مقام الأصل إلى مقام الفراغ. هكذا تجري جنازة الصورة قبل جنازة الطفل وقبل جنازة الأستاذ.​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى