مصطفى معروفي ــ معروف الرصافي

أقول في إحدى قصائدي العمودية وأنا أتحدث عن الشاعر ـ الشاعر بوصفه إنسانا و واحدا من الناس ـ مخاطبا إياه هكذا:
آهِ لــو أنــصف الــزمان لــحرٍّ
كــنتَ أولــى بــأرفع الدرجاتِ
يــا أخــا الإلــهام الرقيقِ لتسلمْ
إنك الضوء في دجى الحالكاتِ
معروف الرصافي( 1875 - 1945م) شاعر عراقي معروف ، وهو من أوائل الشعراء الذين عرفتهم عن طريق المدرسة بقصيدته الشهيرة "الأرملة المرضعة" التي يقول في بدايتها:
لــقــيتها لــيتني مــا كــنت الــقاها
تــمشي وقد أثقل الأملاق ممشاها
أثــوابــها رثّـــةٌ والــرجل حــافية
والــدمع تــذرفه فــي الخدّ عيناها
بــكت من الفقر فاحمرّت مدامعها
واصفرّ كالورس من جوع محيّاها
ونحن في المدرسة كنا نحفظ الأبيات المقررة علينا منها،ونرددها أحيانا في مرح ظاهر مع أن القصيدة يخيم عليها جو الحزن والأسى.
معروف الرصافي كان يعيش في وقت من الأوقات العوز والفاقة ،وهو ما أشار إليه الأديب العراقي السيد مهدي القزاز في أحد أعداد مجلة "الأديب"البيروتية،فروى أن الرصافي صار يتوكأ على عصا من جريد النخل ،ويحدث أن قرأ المقال شخص كان يعيش في بغداد واسمه مظهر الشاوي ،فيقول الشاوي بأن شعر رأسه وقف واقشعر جلده ،وخجل من أن يعجز العراق عن إعاشة شاعر واحد من أبنائه في قيمة ومستوى الرصافي علما وشعرا وثقافة،المهم في الأمر هو أن أحدهم ويسمى مظهر الشاوي طلب شراء ثلاث كسوات عربية للرصافي وأن تصنع له عصا من الآبنوس مفضض ومطعّمة بالذهب ويكتب عليها :
هدية الشاوي لصديقه الرصافي
وخصص له راتبا شهريا ما دام على قيد الحياة ، ولكن الرصافي مات ومظهرالشاوي في المعتقل.
وقد نظم الرصافي قصيدة مدح في الشاوي ،والمدح لا عيب فيه إن كان صادقا لا تصنع فيه ولا نفاق،يقول الرصافي:
أمــظهر قــد أخرستني إذ شــملتني
بــعاطفة قــد ضــاق عنها التصور
عــلى حين كان الناس شتى قلوبهم
وكــــل لــــكــل كـــاره مــتــنكر
فــأطــلقت بــالإحسان حــرا مــقيدا
بــــه يــتــرامى جَـــده الــمــتعثر
فـــوالله لا أدري وإنـــي لــحــائر
بـــأي لــســان نــاطق لــك أشــكرُ
ســأشكرك الــشكر الذي أنت أهله
وإن كان شكري عن نوالك يقصر
وأجعل قرص الشمس عند طلوعها
عــلامــة شــكر كــل يــوم يــكرر
إذا ذر قــرص الشمس كل صبيحة
تــلا قــرنَها شــكر كوجهك مزهرُ
وقال في الحلة التي أهداها له :
أهــديت لــي حــلة غيظ الحسود بها
لأنــهــا تــحفة مــن أنــفس الــتحفِ
فــرحت أرفــل فــيها وهْــي ضافيةٌ
وأنــت ترفل في ضافٍ من الشرفِ
وصــار عــيشي بــما أوليتني رغدا
وكان من قبل رهن البؤس والشظَفِ
وقال في العصا:
أنـــا شــيخ وذي عــصاي َفــتيّةْ
قــد أتــتني مــن مــظهرٍ لي هديةْ
صــاغة الــصابئين قــد ألــبسوها
حــلــيةً ذات صــنــعة عــبــقريّةْ
وشــحــوهــا مــنــظــهرٍ بــكــلامٍ
مــعــرب عـــن مـــودة أخــوية
هي تحكي عصا ابن عمرانَ قدْرا
فــلــذا رأســهــا كـــرأس الــحيةْ
فــســأمشي بــهــا ســويــا قــويــا
بــعــدما كــنــت مــاشيا كــالحنيّةْ
وســتــبقى الــذكرى بــها لإخــاءٍ
مّــــوثــق بــالــوشــائج الأدبــيــة
شـــرف قـــد أفــاد فــيه إخــائي
لــكــريم مـــن أســـرة حــميرية
رحم الله معروف الرصافي ، شربنا الشعر من يديه عذبا زلالا وتشربناه محبة وشغفا،وما تزال الأجيال واحدا تلو الآخر تهب إلى نبعه تروي ظمأها مرارا وتكرارا.
اللهم أعنا وكن لنا وليا ونصيرا.
ــــــــــــــــــ
على الهامش:
ونحن في مرحلة الدراسة الثانوية كنا في غرفة ومعنا الصديق وزير الثقافة السابق حسن عبيابة الذي كان يدرس معي آنذاك في نفس المستوى وفي نفس الحجرة ،وحدث أن سألني أحد الإخوة الطلاب الخليجيين الجامعيين وكان محبا للشعر عن اسمي الكامل فقلت له اسمي الكامل هو:
مصطفى معروفي
فقال على الفور وما زلت أتذكر ذلك وبالحرف:
لا تخافي لا تخـــافي
إنه معروفْ الرصافي

تعليقات

التحيات الطيبات اخي السي مصطفى

جميل هذا العرض الوافي الذي يتناول شخصية الشاعر المعروف معروف الرصافي، الشاعر الفحل بتوصيف أهل الزمن الاول، فقد طبقت شهرته الآفاق معية صديقه جميل صدقي الزهاوي، وكانت بينهما صداقة، وخصومة، ومراسلات، ومماحكات وممازحات وطرائف. ومواقف ساخرة مثل ما كان بين شوقي وحافظ. حافظ هذا الذي عاش بدوره في ضيق وشدة لولا عناية شوقي به، وبين حافظ وعبالعزيز البشري من جهة اخرى.
كما اندلعت بينه الشاعرين خصومه أدبية، اشبه بالنقاءض الشهيرة بين الفرزدق والاخطل وجرير. حول الأفضلية في كتابة الشعر، مثل احمد شوقي وحافظ ابراهيم، لكن دون قطيعة، إذ ظلا يحفظان الود والمحبة والاحترام لبعصهما البعض.
ولعل علاقتنا بقصيدته الإنسانية (الأرملة المرضعة) كانت صلتنا بشعره، وهي الأكثر رقة، وشهرة وانتشارا من ىبن اشعاره، ولها قصة يرددها الدارسون لسيرته، وتعتبر نموذجا لروح الشاعر ومعدنه، ومسمار أصالته.
لم يكتف الشاعر الرصافي على قرض الشعر فحسب، بل امتد اهتمامه إلى الدراسات ولعل أهمها كتابه الإشكالي "الشخصية المحمدية"، الذي آثار لغطا وجدلا واسعا، ووجهت إليه أصابع الاتهام، إذ انكر العديد من المسلمات، ونفى بعض الصفات التي اتصلت بالرسول، وهو كتاب عميق بنفس عصري وأسلوب فاحص، ورؤية عصربة، بل يصنف من الدراسات ذات الاتجاه المادي التنويري في تناول القصايا والمسائل الدينية والدنبوبة..
كل التقدير
 
تحية طيبة لك أستاذنا المحترم والجميل السي المهدي:
يشرفني جدا ويسعدني كثيرا أن يحاورني شخص مثلك السي المهدي وهو أديب وعلى درجة عالية من الثقافة والكياسة.
عندما نقول الرصافي فإنما نقصد به الشعر ذاته يمشي على قدمين، وعبد ربه منذ عرف الرصافي وحفظ الأبيات المقررة من "الأرملة المرضعة" كما قلت في المقال كان يحلو له أن يردد ما حفظ من الشعر على أسماع بعض الأصدقاء الذين يوقن أنهم سيسمعون.ومرة كنت أردد بعض الأبيات فعرف أحد الأصدقاء بأنها للرصافي وأنه يتوفر على قصيدة أخرى للشاعر نفسه ووعدني بأنه سيجلبها معه لي في فرصة قادمة.
الصديق وفى بوعده وأحضر القصيدة وكان عنوانها هو"الحرية في سياسة المستعمرين"،وبما أنني كنت احفظ ما يروقني من الشعر فقد حفظتها وبقيت ثاوية بذاكرتي لفترة طويلة، وأحب أن أثبتها لك أخي المهدي ولمن تفضل بقراءة التعقيب من أهل الأنطولولجيا،وها هي القصيدة:

الحرية في سياسة المستعمرين
يـــا قـــومُ لا تــتــكلموا إن الــكلامَ مــحَرّمُ
نــامــوا ولا تــستيقظوا مــا فــاز إلا الــنوّم
وتــأخروا عــن كــل ما يقضي بأن تتقدموا
ودعــوا الــتفهم جــانبًا فالخيرُ أن لا تفهموا
وتــثّــبتوا فــي جــهلكم فــالشر أن تــتعلموا
أمـــا الــسياسة فــاتركوا أبــدًا وإلا تــندموا
ان الــسياسة ســرها لــو تــعلمون مُــطَلسم
واذا أفضتم في المباح من الحديث فجَمْجموا
والــعدلَ لا تــتوسموا والــظلمَ لا تــتجهموا
مــن شــاء منكم أن يعيش اليوم وهو مكرّم
فــليُمْسِ لا ســمعٌ ولا بــصرٌ لــديه ولا فــم
لا يــســتحق كــرامــةً إلا الأصـــمُّ الأبــكم
ودعــوا الــسعادة إنــما هي في الحياة توهّم
فــالعيش وهــو مــنعّمٌ كــالعيش وهــو مذمّم
فــارضَوا بــحكم الدهر مهما كان فيه تحكّم
واذا ظُــلمتم فــاضحكوا طــربًا ولا تتظلموا
وإذا أُهــنتم فــاشكروا وإذا لُــطمتم فابسموا
إن قــيــل هــذا شــهدُكم مــرٌّ فــقولوا عــلقم
أو قــيــل إن نــهــاركم لــيلٌ فــقولوا مــظلم
أو قــيــل إن ثِــمــادَكم ســيلٌ فــقولوا مُــفعَم
أو قــيل إن بــلادكم يــا قــوم ســوف تُــقسَّم
فــتــحمّدوا وتــشكّروا وتــرنّحوا وتــرنّموا
دمت في رعاية الله مولانا.
 
تحية مجددة صديقي
نعم بالفعل اخي الشيء بالشيء يذكر، فهذه القصيدة أيضا تعتبر من ضمن قصائده السياسية الذائعة الصيت، إلى جانب قصائد عديدة تناولت عدة محاور اجتماعية ووطنية وسياسبة، وتربوية، وفلسفية، ما يلفت الانتباه في القصيدة التي سقتها في تعقيبك النير تميزها بروح الدعابة السوداء، والسخرية اللاذعة والنقمة من تقاعس الناس عن الكفاح من أجل تحرير البلاد من ربقة الاستعمار. واستنهاض الهمم، والتحذير من الخوف الذي الجم الالسنة عن المقاومة، ومن مغبة الركون للنوم.
كما نجد له نصوصا ذات نفس فلسفي وروحاني بوصفه مهتما بالدراسات الفلسفية والإسلامية، أسوة بمواقفه الوطنية المشرفة مما كلفه العديد من المضايقات وصلت إلى نفيه خارج البلاد.
 
أعلى