أولا: من فاشية الإمبراطورية إلى فاشية الديمقراطية
لا يمكن فهم تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع التمويل الفيدرالي عن مدينة نيويورك في حال انتخاب زهران ممداني عمدة لها، أو استخدام السلطة وأدوات القمع والتمويل الفيدرالي، بمعزل عن البنية الأعمق التي تحكم علاقة الديمقراطية الأمريكية بذاتها وعالمها الخارجي.
المسألة لا تتعلق بمجرد وعي سياسي منحرف أو تراجع أخلاقي في الممارسة الديمقراطية، ولا تقتصر على ترامب أو الحزب الجمهوري فحسب، بل تمتد إلى آلية بنيوية راسخة تتكرر عبر الزمن، تعيد إنتاج نفسها بطريقة منظمة.
ثانيا: السياق التاريخي للضغوط الفيدرالية على الولايات والمدن
يمكن النظر إلى هذا الحدث في سياق تاريخ طويل من ممارسة الضغوط الفيدرالية على الولايات والمدن والمؤسسات، بدءًا بسياسات قمع الاحتجاجات في ستينيات القرن الماضي، مرورًا بتدخلات ريغان في الثمانينيات، وإدارة بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، وسياسات أوباما وبايدن، وصولًا إلى إدارتي ترامب الأولى والحالية.
إن ما يبدو كحادثة سياسية معزولة هو في الواقع تجلٍّ مكثف لبنية سلطوية متجذرة داخل النظام النيوليبرالي الأمريكي وعموم النظام النيوليبرالي الغربي وامتداداته العالمية.
وفقًا لتقارير مكتب الميزانية الفيدرالية في نيويورك لعام 2022، شهدت المدينة انخفاضًا في المنح الفيدرالية بنسبة 15.18% مقارنة بعقد مضى، ما يعكس مدى تأثير سياسات القمع المالي على المؤسسات المحلية الكبرى.
ثالثا: الفاشية الأمريكية: الانتقال من العنف الإمبراطوري الخارجي إلى السيطرة الداخلية
السلوك الإمبراطوري الأميركي، سواء في عهد الجمهوريين أو الديمقراطيين، يظهر عنفًا منظّمًا خارج حدود البلاد، كما في حرب الإبادة في غزة. هذا العنف يتسرب لاحقًا إلى الداخل الأميركي متخذًا أشكالًا جديدة من السيطرة والانضباط. الدولة التي ترعى الإبادة خارج حدودها وتبرّرها أخلاقيًا، تُعيد إنتاج نفس منطق الإقصاء والعقاب داخل مؤسساتها.
أبرز مظاهر هذا الانتقال:
1. الآخر الخارجي يتحوّل إلى رمز للآخر الداخلي: الفلسطيني أو العربي أو المسلم يصبح نموذجًا رمزيًا للآخر الداخلي، بما في ذلك المهاجر، المسلم الأميركي، الأسود، اللاتيني، الطالب المحتج، المثقف والحزبي المتمرّد.
2. العنف المبرَّر يتحول إلى منطق داخلي للقمع: العنف الذي يُمارس ضد الشعب الفلسطيني أو الشعوب الأخرى يتحول إلى أداة مشروعية داخلية لقمع الأصوات المعارضة، وإخضاع المدن والجامعات والمؤسسات السياسية للهيمنة الاقتصادية والسياسية للقوى المتنفذة.
وفقًا لدراسة جامعة هارفارد (2023)، بلغت نسبة الأمريكيين الذين عانوا من قيود مباشرة على نشاطهم السياسي أو التعليمي بسبب مواقفهم المتعلقة بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة 12% في خمس ولايات كبرى، وهو مؤشر على التوسع البنيوي لهذه الظاهرة.
في هذا السياق، يصبح تهديد ترامب لمدينة نيويورك ليس مجرد حادثة سياسية عابرة، بل تعبيرًا عن بنية سلطوية مركزية متكاملة، تربط بين السياسة الخارجية والفاشية الإمبراطورية والسيطرة الداخلية، مع إعادة تعريف الديمقراطية الأمريكية من “إرادة الشعب” إلى “إرادة الطاعة”، في اختبار صارخ لقيم الحرية والعدالة المعلنة.
رابعا: التحليل الفلسفي: الهيمنة والطاعة بين غرامشي وفوكو
يمكن قراءة التحوّل السلطوي في الولايات المتحدة من منظور فلسفي عبر مفهومي الهيمنة البنيوية لغرامشي والسلطة الانضباطية لفوكو:
1. غرامشي:
السيطرة لا تقوم بالقهر المباشر فحسب، بل من خلال استبطان المواطنين للطاعة ضمن المؤسسات المدنية. الولايات المتحدة تمارس هذا عبر فرض الولاء السياسي من خلال التمويل والإدارة. الهيمنة الثقافية الأمريكية تتجلى في الإعلام، الثقافة الشعبية، والتعليم، حيث تصبح الطاعة جزءًا من الانتماء الوطني، وليس مجرد فرض خارجي.
2. فوكو:
السلطة تتغلغل عبر شبكات معقدة، فتُحوّل المؤسسات والمال والخطاب إلى أدوات ضبط (biopolitical control)، وتعيد إنتاج الطاعة من داخل الأجسام الاجتماعية نفسها. شبكات المراقبة الرقمية، الشرطة العسكرية، والتمويل المؤسسي هي أدوات معاصرة لهذه السلطة، تُحوّل الحياة اليومية لمجتمع بأكمله إلى مجال للمراقبة والانضباط.
وفقًا لتقرير Privacy International لعام 2024، تجاوز عدد كاميرات المراقبة الذكية في الولايات المتحدة 7 ملايين وحدة تغطي أكثر من 120 مدينة، وهو جزء من الآليات التي تمكّن الدولة من ضبط الحياة اليومية داخليًا.
بهذه الطريقة، يصبح العنف الخارجي شرطًا بنيويًا لتماسك النظام الداخلي: لا يمكن للديمقراطية الليبرالية الحفاظ على صورتها كنظام للحرية إلا عبر تحديد “آخر” يُمارس عليه العنف بوصفه ضرورة لحماية تلك الحرية. ومن هنا، فإن الاستعمار الخارجي ليس نقيض الديمقراطية، بل شرطها البنيوي.
خامسا: السلطوية الداخلية: القوانين والقوة الميدانية كأدوات ضبط
1. القوانين الداخلية وتقييد النقد
التحول السلطوي في الولايات المتحدة لا يقتصر على القوة الميدانية أو التهديد المالي، بل يشمل إطارًا تشريعيًا وقانونيًا يشرعن القمع ويحوّل الدولة إلى أداة ضبط فكري وسياسي متكامل.
• إعادة تعريف اللاسامية ودمج اليهودية بالصهيونية وإسرائيل: عدة ولايات أصدرت تعريفات موسعة للاسامية تشمل أي نقد للصهيونية ولإسرائيل أو سياساتها، ما يجعل النشاط السياسي أو الأكاديمي المؤيد للفلسطينيين عرضة للملاحقة القانونية.
• تجريم النقد الأكاديمي والسياسي: الجامعات التي تنتقد السياسات الأمريكية أو تضامنت مع الفلسطينيين تواجه تهديدات قانونية وإدارية ومالية.
وفقًا لدراسة American Progress 2025، أكثر من 4,000 منحة جامعية في أكثر من 600 جامعة مهددة بالإلغاء أو التخفيض، بما يقارب 8 مليارات دولار، ما يوضح استخدام التمويل كأداة ضغط على المؤسسات الأكاديمية.
• ربط السياسة الخارجية بالقانون الداخلي: القوانين تعمل بالتوازي مع السياسات الإمبراطورية في الخارج، ليصبح الولاء السياسي والإداري شرطًا للبقاء داخل المؤسسات أو المجتمع المدني.
2. القوة الميدانية ونشر الجيش والحرس الوطني
وجود الجيش والحرس الوطني خلال الاحتجاجات يمثل إعادة إنتاج للقوة الإمبراطورية داخليًا، ويُرسّخ منطق الطاعة: “من يخالف الإرادة المركزية يُواجه بالقوة”.
بحسب بيانات وزارة الدفاع الأمريكية 2020، تم نشر أكثر من 43,350 فردًا خلال احتجاجات ما بعد وفاة جورج فلويد في 23 ولاية، وهو مثال على كيفية تحويل القوة الإمبراطورية الميدانية إلى أداة ضبط داخلي.
تفاوت الاعتماد الفيدرالي
بعض الولايات أكثر هشاشة أمام تهديدات قطع التمويل الفيدرالي حسب اعتمادها المالي. فمثلًا، مونتانا تعتمد بنسبة 31.8٪ من إيراداتها على المنح الفيدرالية، بينما فيرمونت 12.8٪ فقط.
تفاوت انتشار الجيش والحرس الوطني
بعد وفاة جورج فلويد، تم نشر قوات الحرس الوطني في 23 ولاية، مع اختلاف كثافة التواجد وعدد الأفراد حسب حجم الاحتجاجات والمخاطر.
توضح هذه الفروق أن الفاشية الداخلية الأمريكية ليست موحدة، بل تتحدد شدتها ومداها بحسب العلاقة بين كل ولاية والمؤسسات الفيدرالية، والفوارق الاقتصادية والجغرافية والسياسية، مما يعكس العمق البنيوي للتباين في ممارسة الضبط والانضباط داخل الديمقراطية الأمريكية. ويؤكد أن النظام المركزي لا يعمل بطريقة متساوية على الجميع، بل يوزع أدوات العقاب والضغط وفق الأولويات الإمبراطورية وحسابات القوة المحلية.
3. الجامعات والمؤسسات الدولية: العقاب السياسي وأدوات السيطرة
معاقبة الجامعات الأمريكية
الجامعات التي تنتقد سياسات الإدارة الأمريكية أو تطالب بوقف الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تتعرض لضغوط أمنية وإدارية ومالية، ما يحوّل مؤسسات التعليم إلى أدوات قمع، ويجبر الأكاديميين والطلبة على الامتناع عن النقد خوفًا من العقاب.
مثال ملموس: جامعة كاليفورنيا، بيركلي عام 2024، حيث تم تهديد الجامعة بقطع منح فيدرالية تصل إلى 35 مليون دولار بسبب استضافة فعاليات داعمة للحقوق الفلسطينية. أفضت الضغوط إلى تعديل بعض برامج الدعم الطلابي والبحثي، مما يوضح استخدام التمويل كأداة ضغط على المؤسسات التعليمية.
4 . التدخل في المؤسسات الدولية
قطع التمويل عن الأمم المتحدة أو التدخل في تأشيرات الوفود المشاركة في الاجتماعات الدولية يعكس منطق العقاب السياسي ذاته: الولاء لمصالح الإمبراطورية شرط لاستمرار عمل المؤسسات الدولية ، ويعيد إنتاج السيطرة على المستوى الدولي والمحلي في آن واحد.
5. الولاء الحزبي مقابل الانتخابات الداخلية
مثال آخر على التحول البنيوي في المجتمع الأمريكي هو موقف الحزب الديمقراطي ضد مرشح الحزب زهران ممداني الذي فاز بالانتخابات الداخلية، بسبب مواقفه المناهضة للإبادة وانحيازه للطبقات الشعبية. يُظهر هذا كيف يتحول الولاء السياسي للحزب إلى امتثال للسياسة الإمبراطورية، وليس مجرد ممارسة ديمقراطية شكلية.
سادسا: الديمقراطية الأمريكية في طور التحول إلى جهاز انضباطي
تتواصل مظاهر السيطرة السلطوية الأمريكية من المؤسسات والجامعات إلى المدن والنظام الفيدرالي، مما يشير إلى أن التحوّل ليس مؤقتًا، بل بنيوي في طبيعة الديمقراطية نفسها. تتحول الديمقراطية من نظام تداولي قائم على التعدد والتنافس إلى نظام إداري-أمني يركز على الانضباط والخضوع.
أهم مظاهر هذا التحوّل تشمل:
1. تمركز النظام الفيدرالي: تتحول السلطات التقليدية للولايات إلى نظام مركزي، وتفقد الولايات استقلاليتها النسبية في اتخاذ القرارات.
2. الضغط المالي على المدن: تُهدد المدن بقطع التمويل الفيدرالي في حال مخالفة السياسات الرسمية، ما يجعل التمويل أداة لإجبار الالتزام بالخط الفيدرالي.
3. إقصاء الأصوات المعارضة في الجامعات: يتم تقييد حرية الأكاديميين والطلبة، وتحويل الجامعات إلى أدوات للرقابة والتأديب.
4. السيطرة الإعلامية: الإعلام يُحاكم الضحايا قبل الجناة، ويعيد إنتاج السلطة الرمزية، مما يعزز ثقافة الطاعة والامتثال داخل المجتمع.
وفقًا لتقرير مكتب الشؤون الداخلية الأمريكية لعام 2024، واجهت حوالي 17 ولاية تهديدًا رسميًا بقطع التمويل الفيدرالي عن أكثر من 52 مدينة خلال العقد الماضي بسبب سياسات محلية مخالفة للخط الفيدرالي، مما يوضح أن هذا التحوّل الإداري - الأمني ليس مجرد حادث عرضي، بل جزء من بنية السلطة المركزية.
سابعا: المقارنة الدولية: نموذج عالمي للضبط السلطوي
هذا النموذج الأمريكي ليس فريدًا، بل يمكن ملاحظته في بعض الديمقراطيات الأوروبية. على سبيل المثال:
• فرنسا: خلال احتجاجات السترات الصفراء 2018-2019، شهدت المدن الفرنسية تدخلًا أمنيًا كثيفًا من الشرطة والجيش، مع فرض قيود على التجمعات وإيقاف الدعم المالي لبعض البلديات التي دعمت المحتجين.
• بريطانيا: في عام 2020، فرضت الحكومة البريطانية قيودًا على الجامعات وبعض الجمعيات المدنية التي انتقدت سياسات الدولة خلال أزمة فيروس كورونا، بما في ذلك تهديدات بخفض التمويل الحكومي، ما يوضح استخدام الأدوات المالية كوسيلة للضغط على المؤسسات الأكاديمية والمدنية.
ومنذ بدء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة قبل عامين يواجه المحتجون والمطالبون بوقف الإبادة عقوبات في جميع الدول الغربية.
توضح هذه الأمثلة أن الضبط السلطوي الداخلي هو جزء من ظاهرة عالمية، حيث تستخدم الدول الديمقراطية أدوات مالية وإدارية وأمنية للتحكم في المؤسسات والمجتمع المدني، بما يضمن ولاءها للخط السياسي الرسمي.
ثامنا: أمريكا والفاشية السلطوية: مفترق طرق داخلي وخارجي
ما يحدث في الولايات المتحدة اليوم لا يقتصر على السياسة الداخلية، بل يمثل نموذجًا يمكن ملاحظته أيضًا في كافة الديمقراطيات الأوروبية، حيث تتعرض هذه الدول لضغوط خارجية وداخلية على حد سواء. في هذا السياق، لم تعد الفاشية نقيض الديمقراطية، بل تتحول إلى وجهها الآخر عندما تفقد توازنها الخارجي.
فالإبادة والهيمنة الممارسة خارج الحدود الوطنية تُمهّد دائمًا لنظام مراقبة وسيطرة داخلي، كما يشير فانون: “الاستعمار لا يستعمر الأرض وحدها، بل يستعمر وعي المستعمِر أيضًا.”
أمام هذا الواقع، يطرح سؤال حاسم: هل تستطيع الديمقراطية الليبرالية حماية نفسها من الانزلاق نحو السلطوية الداخلية، أم أن بنيتها الإمبراطورية تجعل هذا التحوّل أمرًا شبه محتوم؟
هذا التساؤل يفتح الباب أمام التفكير في دور الوعي الشعبي والمجتمعي في مواجهة التحولات السلطوية قبل أن تتجذر بالكامل.
تاسعا: العقل الأداتي والفاشية: من الهيمنة الخارجية إلى القمع الداخلي
ما نشهده اليوم من تحوّل في بنية الديمقراطيات الأمريكية والغربية ليس مجرد انحراف طارئ، بل هو امتداد للمنطق الأداتي الذي حكم مشروع الحداثة الغربية منذ نشأته. هذا العقل الذي جعل من الإنسان وسيلة لا غاية، ومن الطبيعة موردًا للاستغلال، ومن الحرية أداة للهيمنة، هو نفسه الذي أعاد إنتاج الفاشية داخل الديمقراطيات الأمريكية والغربية.
فالعنف المادي والعنصري الذي ينبثق من الإمبراطورية الأمريكية وحلفائها يولّد نظامًا إداريًا وأمنيًا يبرّر القمع ويحوّل القيم الأخلاقية إلى أدوات سياسية.
في هذا السياق، ليست الفاشيات الأمريكية والغربية انقطاعًا عن الحداثة، بل اكتمالها الأداتي؛ حيث يبلغ العقل المادي ذروة قدرته على التدمير باسم التقدم، وعلى الإبادة باسم الدفاع عن الحرية.
ما يحدث في نيويورك اليوم يمثل صدى داخليًا للإبادة التي تُمارس في غزة، وما يُقمع في الجامعات الأمريكية والأوربية خصوصا، وعلى النطاق العالمي عموما، هو امتداد طبيعي لما يُقصف في المخيمات. العقل الذي يبرّر قتل الفلسطيني هو نفسه الذي يقمع المحتج الأمريكي والغربي والعربي والفلسطيني، والعقل الذي يرى العالم من منظور المصلحة هو نفسه الذي ينفي الإنسان من معادلة السياسة.
لذا، يصبح من الخطأ التاريخي والسياسي الرهان على تبدّل الإدارات الحكومية أو على صحوة الضمير لإيقاف حرب الإبادة أو تحقيق العدالة. البنية التي تنتج الإبادة في الخارج هي نفسها التي تنتج القمع في الداخل، ولا تملك في ذاتها إمكانية إصلاح أخلاقي أو تحوّل إنساني حقيقي.
الرهان الحقيقي يكمن في الذات، في وعي الشعوب وقدرتها على إعادة تعريف الحرية والعدالة خارج منظومة الحداثة المادية العنصرية والعقل الأداتي، لأن الخلاص لا يأتي من داخل الفاشية، بل من وعي يتجاوزها ويكشف جوهرها.
عاشرا: الولايات المتحدة كنموذج للحداثة الإمبراطورية والفاشية البنيوية
الولايات المتحدة الأمريكية ليست حالة منفردة، كما سبقت الإشارة، بل تمثل نموذجًا مكثفًا لنظام الحداثة الغربية المادي العنصري المهيمن، الذي يجمع بين الإمبراطورية في الخارج والفاشية البنيوية في الداخل، ويعيد إنتاج ذاته في كل زمان ومكان يُتاح له النفوذ فيه.
1.الأقليات العرقية والدينية
تظهر الدراسات أن الأقليات، بما في ذلك الأمريكيون من أصول أفريقية، اللاتينية، والمسلمون، كانوا أكثر عرضة لتجارب القمع والرقابة المباشرة. وفقًا لتقرير Pew Research Center لعام 2023:
• 41% من الأمريكيين من أصل أفريقي أبلغوا عن شعورهم بالمراقبة أو التضييق في أماكن العمل أو أثناء المشاركة في احتجاجات سلمية.
• 36% من اللاتينيين و33% من المسلمين أشاروا إلى تجارب مماثلة، بما في ذلك تهديدات أمنية أو رفض الحصول على تمويل لمشاريع مجتمعية.
هذا يشير إلى أن السياسة السلطوية الداخلية تعمل بطريقة تركز على استهداف الفئات التي يُنظر إليها على أنها “الآخر الداخلي”، وفقًا لمنطق السيطرة المستمد من الممارسة الإمبراطورية الخارجية.
1.الطلاب الجامعيون والمؤسسات التعليمية
الجامعات تعد ساحة رئيسية لممارسة الضبط على الأصوات المعارضة. وفقًا لتقرير مؤسسة American Progress 2025، كان هناك:
• أكثر من 4,000 منحة جامعية مهددة بالإلغاء أو التخفيض في أكثر من 600 جامعة، بما يقارب 8 مليارات دولار.
• 27 جامعة كبرى شهدت تدخلات مباشرة أو تهديدات بقطع التمويل بسبب برامج تعليمية أو نشاط طلابي ينتقد السياسات الأمريكية أو يظهر تضامنًا مع الفلسطينيين.
توضح هذه الأرقام أن الطلاب والأكاديميين يُجبرون على ممارسة الرقابة الذاتية، مما يقلل من مساحة النقاش الحر ويحوّل الجامعات إلى أدوات للانضباط السياسي.
1. العمال والفئات الاقتصادية منخفضة الدخل
يظهر تأثير السياسات السلطوية أيضًا على العمال والفئات منخفضة الدخل الذين تعتمد مدنهم على التمويل الفيدرالي لتقديم الخدمات الأساسية. على سبيل المثال، بحسب بيانات Bureau of Labor Statistics 2022:
• 18 ولاية شهدت تهديدًا بقطع التمويل عن برامج دعم العمال أو التعليم المهني، ما أثر على حوالي 4.7 مليون موظف وعامل مؤقت.
• في نيويورك، المدينة التي تواجه تهديدات التمويل، يعتمد نحو 29% من سكانها على برامج مدعومة فيدراليا، ما يجعلهم عرضة مباشرة لتقلبات السياسة المركزية.
1. التركيز الجغرافي والفوارق بين الولايات
تُظهر البيانات أن الفئات المهمشة في الولايات التي تعتمد بشكل أكبر على التمويل الفيدرالي تكون أكثر هشاشة أمام الضغوط السلطوية. على سبيل المثال:
• ولاية مونتانا تعتمد بنسبة 31.8% من إيراداتها على المنح الفيدرالية، فتتعرض أقلياتها وطلابها وضمانات العمال لمخاطر مباشرة أكبر مقارنة بولاية فيرمونت التي تعتمد بنسبة 12.8%.
• هذه الفروقات تُظهر أن توزيع القوة السلطوية ليس عشوائيًا، بل يتماشى مع الحسابات الاقتصادية والجغرافية لكل ولاية، ويؤكد أن الفاشية الداخلية تستهدف بشكل أكبر الفئات الأقل قدرة على المقاومة.
1. التداعيات طويلة المدى
تترك هذه السياسات آثارًا متعددة على المجتمع:
• تراجع الحرية الأكاديمية والسياسية: حيث يحد القمع من النقاش الحر داخل الجامعات والمجتمع المدني.
• تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي: حيث تصبح الفئات المهمشة أكثر اعتمادًا على التمويل الفيدرالي، ما يجعلها أداة ضغط مستمرة.
• إعادة إنتاج منطق التبعية والامتثال: الفئات الأكثر ضعفًا تصبح مرآة لتوسيع السلطة المركزية، مما يعيد إنتاج نمط السيطرة الإمبراطورية داخليًا.
كما تقول الحكمة: «الفاشية التي تُمارس هناك، على الشعوب المستضعفة، لا تلبث أن ترتدّ هنا، على المجتمعات التي تنتجها.»
حادي عشر: الفاشية الإمبراطورية كتحذير عالمي
ما يُمارَس اليوم من فاشية إمبراطورية خارج حدود الولايات المتحدة - من إبادة واستغلال وتهجير - لا يبقى حبيس الخارج. هذه السياسات تعود سريعًا إلى الداخل الأمريكي، لتترسخ في مؤسسات الدولة، الجامعات، المدن، وحتى الحياة اليومية للمواطنين.
ما يحدث في نيويورك، وما يواجهه الأكاديميون والطلاب، يمثل صورة مكثفة لما يمكن أن يواجهه أي مجتمع يستضعف أمام هيمنة الإمبراطورية. هذه الأحداث ليست مجرد قضايا محلية أو سياسية، بل تمثل تحذيرًا عالميًا: الفاشية التي تُمارس ضد الفلسطينيين والشعوب المستضعفة ستعود لتؤثر على كل شعوب العالم، بما في ذلك من يعيشون في قلب الديمقراطيات الحديثة.
ثاني عشر: غزة، اختبار للضمير الإنساني وضرورة وعي الشعوب
مصير غزة اليوم يشكل اختبارًا صارخًا للضمير الإنساني، ويقيس قدرة العالم على التكاتف ضد المنطق الإمبراطوري والفاشي. إذا لم تتوحد إرادات أحرار العالم لدعم العدالة والحرية، فإن ما يحدث في قطاع غزة وعموم فلسطين وجوارها العربي لن يبقى مأساة فلسطينية وعربية فحسب، بل سيصبح مؤشرًا على ما قد يتهدد البشرية جمعاء.
الرهان الوحيد الممكن يكمن في وعي الشعوب، وقدرتها على إعادة تعريف الحرية والعدالة خارج منظومة الحداثة المادية والعقل الأداتي.
الخلاص لا يأتي من داخل الفاشية، بل من الوعي الذي يتجاوزها ويعرّي جوهرها.
إن معركة الوعي هي معركة التحرر الأولى، لأن من يملك الوعي يملك القدرة على تفكيك الفاشية في كل صورها، داخلية كانت أم خارجية.
غانية ملحيس
4/11/2025
لا يمكن فهم تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع التمويل الفيدرالي عن مدينة نيويورك في حال انتخاب زهران ممداني عمدة لها، أو استخدام السلطة وأدوات القمع والتمويل الفيدرالي، بمعزل عن البنية الأعمق التي تحكم علاقة الديمقراطية الأمريكية بذاتها وعالمها الخارجي.
المسألة لا تتعلق بمجرد وعي سياسي منحرف أو تراجع أخلاقي في الممارسة الديمقراطية، ولا تقتصر على ترامب أو الحزب الجمهوري فحسب، بل تمتد إلى آلية بنيوية راسخة تتكرر عبر الزمن، تعيد إنتاج نفسها بطريقة منظمة.
ثانيا: السياق التاريخي للضغوط الفيدرالية على الولايات والمدن
يمكن النظر إلى هذا الحدث في سياق تاريخ طويل من ممارسة الضغوط الفيدرالية على الولايات والمدن والمؤسسات، بدءًا بسياسات قمع الاحتجاجات في ستينيات القرن الماضي، مرورًا بتدخلات ريغان في الثمانينيات، وإدارة بوش بعد أحداث 11 سبتمبر، وسياسات أوباما وبايدن، وصولًا إلى إدارتي ترامب الأولى والحالية.
إن ما يبدو كحادثة سياسية معزولة هو في الواقع تجلٍّ مكثف لبنية سلطوية متجذرة داخل النظام النيوليبرالي الأمريكي وعموم النظام النيوليبرالي الغربي وامتداداته العالمية.
وفقًا لتقارير مكتب الميزانية الفيدرالية في نيويورك لعام 2022، شهدت المدينة انخفاضًا في المنح الفيدرالية بنسبة 15.18% مقارنة بعقد مضى، ما يعكس مدى تأثير سياسات القمع المالي على المؤسسات المحلية الكبرى.
ثالثا: الفاشية الأمريكية: الانتقال من العنف الإمبراطوري الخارجي إلى السيطرة الداخلية
السلوك الإمبراطوري الأميركي، سواء في عهد الجمهوريين أو الديمقراطيين، يظهر عنفًا منظّمًا خارج حدود البلاد، كما في حرب الإبادة في غزة. هذا العنف يتسرب لاحقًا إلى الداخل الأميركي متخذًا أشكالًا جديدة من السيطرة والانضباط. الدولة التي ترعى الإبادة خارج حدودها وتبرّرها أخلاقيًا، تُعيد إنتاج نفس منطق الإقصاء والعقاب داخل مؤسساتها.
أبرز مظاهر هذا الانتقال:
1. الآخر الخارجي يتحوّل إلى رمز للآخر الداخلي: الفلسطيني أو العربي أو المسلم يصبح نموذجًا رمزيًا للآخر الداخلي، بما في ذلك المهاجر، المسلم الأميركي، الأسود، اللاتيني، الطالب المحتج، المثقف والحزبي المتمرّد.
2. العنف المبرَّر يتحول إلى منطق داخلي للقمع: العنف الذي يُمارس ضد الشعب الفلسطيني أو الشعوب الأخرى يتحول إلى أداة مشروعية داخلية لقمع الأصوات المعارضة، وإخضاع المدن والجامعات والمؤسسات السياسية للهيمنة الاقتصادية والسياسية للقوى المتنفذة.
وفقًا لدراسة جامعة هارفارد (2023)، بلغت نسبة الأمريكيين الذين عانوا من قيود مباشرة على نشاطهم السياسي أو التعليمي بسبب مواقفهم المتعلقة بالسياسات الخارجية للولايات المتحدة 12% في خمس ولايات كبرى، وهو مؤشر على التوسع البنيوي لهذه الظاهرة.
في هذا السياق، يصبح تهديد ترامب لمدينة نيويورك ليس مجرد حادثة سياسية عابرة، بل تعبيرًا عن بنية سلطوية مركزية متكاملة، تربط بين السياسة الخارجية والفاشية الإمبراطورية والسيطرة الداخلية، مع إعادة تعريف الديمقراطية الأمريكية من “إرادة الشعب” إلى “إرادة الطاعة”، في اختبار صارخ لقيم الحرية والعدالة المعلنة.
رابعا: التحليل الفلسفي: الهيمنة والطاعة بين غرامشي وفوكو
يمكن قراءة التحوّل السلطوي في الولايات المتحدة من منظور فلسفي عبر مفهومي الهيمنة البنيوية لغرامشي والسلطة الانضباطية لفوكو:
1. غرامشي:
السيطرة لا تقوم بالقهر المباشر فحسب، بل من خلال استبطان المواطنين للطاعة ضمن المؤسسات المدنية. الولايات المتحدة تمارس هذا عبر فرض الولاء السياسي من خلال التمويل والإدارة. الهيمنة الثقافية الأمريكية تتجلى في الإعلام، الثقافة الشعبية، والتعليم، حيث تصبح الطاعة جزءًا من الانتماء الوطني، وليس مجرد فرض خارجي.
2. فوكو:
السلطة تتغلغل عبر شبكات معقدة، فتُحوّل المؤسسات والمال والخطاب إلى أدوات ضبط (biopolitical control)، وتعيد إنتاج الطاعة من داخل الأجسام الاجتماعية نفسها. شبكات المراقبة الرقمية، الشرطة العسكرية، والتمويل المؤسسي هي أدوات معاصرة لهذه السلطة، تُحوّل الحياة اليومية لمجتمع بأكمله إلى مجال للمراقبة والانضباط.
وفقًا لتقرير Privacy International لعام 2024، تجاوز عدد كاميرات المراقبة الذكية في الولايات المتحدة 7 ملايين وحدة تغطي أكثر من 120 مدينة، وهو جزء من الآليات التي تمكّن الدولة من ضبط الحياة اليومية داخليًا.
بهذه الطريقة، يصبح العنف الخارجي شرطًا بنيويًا لتماسك النظام الداخلي: لا يمكن للديمقراطية الليبرالية الحفاظ على صورتها كنظام للحرية إلا عبر تحديد “آخر” يُمارس عليه العنف بوصفه ضرورة لحماية تلك الحرية. ومن هنا، فإن الاستعمار الخارجي ليس نقيض الديمقراطية، بل شرطها البنيوي.
خامسا: السلطوية الداخلية: القوانين والقوة الميدانية كأدوات ضبط
1. القوانين الداخلية وتقييد النقد
التحول السلطوي في الولايات المتحدة لا يقتصر على القوة الميدانية أو التهديد المالي، بل يشمل إطارًا تشريعيًا وقانونيًا يشرعن القمع ويحوّل الدولة إلى أداة ضبط فكري وسياسي متكامل.
• إعادة تعريف اللاسامية ودمج اليهودية بالصهيونية وإسرائيل: عدة ولايات أصدرت تعريفات موسعة للاسامية تشمل أي نقد للصهيونية ولإسرائيل أو سياساتها، ما يجعل النشاط السياسي أو الأكاديمي المؤيد للفلسطينيين عرضة للملاحقة القانونية.
• تجريم النقد الأكاديمي والسياسي: الجامعات التي تنتقد السياسات الأمريكية أو تضامنت مع الفلسطينيين تواجه تهديدات قانونية وإدارية ومالية.
وفقًا لدراسة American Progress 2025، أكثر من 4,000 منحة جامعية في أكثر من 600 جامعة مهددة بالإلغاء أو التخفيض، بما يقارب 8 مليارات دولار، ما يوضح استخدام التمويل كأداة ضغط على المؤسسات الأكاديمية.
• ربط السياسة الخارجية بالقانون الداخلي: القوانين تعمل بالتوازي مع السياسات الإمبراطورية في الخارج، ليصبح الولاء السياسي والإداري شرطًا للبقاء داخل المؤسسات أو المجتمع المدني.
2. القوة الميدانية ونشر الجيش والحرس الوطني
وجود الجيش والحرس الوطني خلال الاحتجاجات يمثل إعادة إنتاج للقوة الإمبراطورية داخليًا، ويُرسّخ منطق الطاعة: “من يخالف الإرادة المركزية يُواجه بالقوة”.
بحسب بيانات وزارة الدفاع الأمريكية 2020، تم نشر أكثر من 43,350 فردًا خلال احتجاجات ما بعد وفاة جورج فلويد في 23 ولاية، وهو مثال على كيفية تحويل القوة الإمبراطورية الميدانية إلى أداة ضبط داخلي.
تفاوت الاعتماد الفيدرالي
بعض الولايات أكثر هشاشة أمام تهديدات قطع التمويل الفيدرالي حسب اعتمادها المالي. فمثلًا، مونتانا تعتمد بنسبة 31.8٪ من إيراداتها على المنح الفيدرالية، بينما فيرمونت 12.8٪ فقط.
تفاوت انتشار الجيش والحرس الوطني
بعد وفاة جورج فلويد، تم نشر قوات الحرس الوطني في 23 ولاية، مع اختلاف كثافة التواجد وعدد الأفراد حسب حجم الاحتجاجات والمخاطر.
توضح هذه الفروق أن الفاشية الداخلية الأمريكية ليست موحدة، بل تتحدد شدتها ومداها بحسب العلاقة بين كل ولاية والمؤسسات الفيدرالية، والفوارق الاقتصادية والجغرافية والسياسية، مما يعكس العمق البنيوي للتباين في ممارسة الضبط والانضباط داخل الديمقراطية الأمريكية. ويؤكد أن النظام المركزي لا يعمل بطريقة متساوية على الجميع، بل يوزع أدوات العقاب والضغط وفق الأولويات الإمبراطورية وحسابات القوة المحلية.
3. الجامعات والمؤسسات الدولية: العقاب السياسي وأدوات السيطرة
معاقبة الجامعات الأمريكية
الجامعات التي تنتقد سياسات الإدارة الأمريكية أو تطالب بوقف الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تتعرض لضغوط أمنية وإدارية ومالية، ما يحوّل مؤسسات التعليم إلى أدوات قمع، ويجبر الأكاديميين والطلبة على الامتناع عن النقد خوفًا من العقاب.
مثال ملموس: جامعة كاليفورنيا، بيركلي عام 2024، حيث تم تهديد الجامعة بقطع منح فيدرالية تصل إلى 35 مليون دولار بسبب استضافة فعاليات داعمة للحقوق الفلسطينية. أفضت الضغوط إلى تعديل بعض برامج الدعم الطلابي والبحثي، مما يوضح استخدام التمويل كأداة ضغط على المؤسسات التعليمية.
4 . التدخل في المؤسسات الدولية
قطع التمويل عن الأمم المتحدة أو التدخل في تأشيرات الوفود المشاركة في الاجتماعات الدولية يعكس منطق العقاب السياسي ذاته: الولاء لمصالح الإمبراطورية شرط لاستمرار عمل المؤسسات الدولية ، ويعيد إنتاج السيطرة على المستوى الدولي والمحلي في آن واحد.
5. الولاء الحزبي مقابل الانتخابات الداخلية
مثال آخر على التحول البنيوي في المجتمع الأمريكي هو موقف الحزب الديمقراطي ضد مرشح الحزب زهران ممداني الذي فاز بالانتخابات الداخلية، بسبب مواقفه المناهضة للإبادة وانحيازه للطبقات الشعبية. يُظهر هذا كيف يتحول الولاء السياسي للحزب إلى امتثال للسياسة الإمبراطورية، وليس مجرد ممارسة ديمقراطية شكلية.
سادسا: الديمقراطية الأمريكية في طور التحول إلى جهاز انضباطي
تتواصل مظاهر السيطرة السلطوية الأمريكية من المؤسسات والجامعات إلى المدن والنظام الفيدرالي، مما يشير إلى أن التحوّل ليس مؤقتًا، بل بنيوي في طبيعة الديمقراطية نفسها. تتحول الديمقراطية من نظام تداولي قائم على التعدد والتنافس إلى نظام إداري-أمني يركز على الانضباط والخضوع.
أهم مظاهر هذا التحوّل تشمل:
1. تمركز النظام الفيدرالي: تتحول السلطات التقليدية للولايات إلى نظام مركزي، وتفقد الولايات استقلاليتها النسبية في اتخاذ القرارات.
2. الضغط المالي على المدن: تُهدد المدن بقطع التمويل الفيدرالي في حال مخالفة السياسات الرسمية، ما يجعل التمويل أداة لإجبار الالتزام بالخط الفيدرالي.
3. إقصاء الأصوات المعارضة في الجامعات: يتم تقييد حرية الأكاديميين والطلبة، وتحويل الجامعات إلى أدوات للرقابة والتأديب.
4. السيطرة الإعلامية: الإعلام يُحاكم الضحايا قبل الجناة، ويعيد إنتاج السلطة الرمزية، مما يعزز ثقافة الطاعة والامتثال داخل المجتمع.
وفقًا لتقرير مكتب الشؤون الداخلية الأمريكية لعام 2024، واجهت حوالي 17 ولاية تهديدًا رسميًا بقطع التمويل الفيدرالي عن أكثر من 52 مدينة خلال العقد الماضي بسبب سياسات محلية مخالفة للخط الفيدرالي، مما يوضح أن هذا التحوّل الإداري - الأمني ليس مجرد حادث عرضي، بل جزء من بنية السلطة المركزية.
سابعا: المقارنة الدولية: نموذج عالمي للضبط السلطوي
هذا النموذج الأمريكي ليس فريدًا، بل يمكن ملاحظته في بعض الديمقراطيات الأوروبية. على سبيل المثال:
• فرنسا: خلال احتجاجات السترات الصفراء 2018-2019، شهدت المدن الفرنسية تدخلًا أمنيًا كثيفًا من الشرطة والجيش، مع فرض قيود على التجمعات وإيقاف الدعم المالي لبعض البلديات التي دعمت المحتجين.
• بريطانيا: في عام 2020، فرضت الحكومة البريطانية قيودًا على الجامعات وبعض الجمعيات المدنية التي انتقدت سياسات الدولة خلال أزمة فيروس كورونا، بما في ذلك تهديدات بخفض التمويل الحكومي، ما يوضح استخدام الأدوات المالية كوسيلة للضغط على المؤسسات الأكاديمية والمدنية.
ومنذ بدء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة قبل عامين يواجه المحتجون والمطالبون بوقف الإبادة عقوبات في جميع الدول الغربية.
توضح هذه الأمثلة أن الضبط السلطوي الداخلي هو جزء من ظاهرة عالمية، حيث تستخدم الدول الديمقراطية أدوات مالية وإدارية وأمنية للتحكم في المؤسسات والمجتمع المدني، بما يضمن ولاءها للخط السياسي الرسمي.
ثامنا: أمريكا والفاشية السلطوية: مفترق طرق داخلي وخارجي
ما يحدث في الولايات المتحدة اليوم لا يقتصر على السياسة الداخلية، بل يمثل نموذجًا يمكن ملاحظته أيضًا في كافة الديمقراطيات الأوروبية، حيث تتعرض هذه الدول لضغوط خارجية وداخلية على حد سواء. في هذا السياق، لم تعد الفاشية نقيض الديمقراطية، بل تتحول إلى وجهها الآخر عندما تفقد توازنها الخارجي.
فالإبادة والهيمنة الممارسة خارج الحدود الوطنية تُمهّد دائمًا لنظام مراقبة وسيطرة داخلي، كما يشير فانون: “الاستعمار لا يستعمر الأرض وحدها، بل يستعمر وعي المستعمِر أيضًا.”
أمام هذا الواقع، يطرح سؤال حاسم: هل تستطيع الديمقراطية الليبرالية حماية نفسها من الانزلاق نحو السلطوية الداخلية، أم أن بنيتها الإمبراطورية تجعل هذا التحوّل أمرًا شبه محتوم؟
هذا التساؤل يفتح الباب أمام التفكير في دور الوعي الشعبي والمجتمعي في مواجهة التحولات السلطوية قبل أن تتجذر بالكامل.
تاسعا: العقل الأداتي والفاشية: من الهيمنة الخارجية إلى القمع الداخلي
ما نشهده اليوم من تحوّل في بنية الديمقراطيات الأمريكية والغربية ليس مجرد انحراف طارئ، بل هو امتداد للمنطق الأداتي الذي حكم مشروع الحداثة الغربية منذ نشأته. هذا العقل الذي جعل من الإنسان وسيلة لا غاية، ومن الطبيعة موردًا للاستغلال، ومن الحرية أداة للهيمنة، هو نفسه الذي أعاد إنتاج الفاشية داخل الديمقراطيات الأمريكية والغربية.
فالعنف المادي والعنصري الذي ينبثق من الإمبراطورية الأمريكية وحلفائها يولّد نظامًا إداريًا وأمنيًا يبرّر القمع ويحوّل القيم الأخلاقية إلى أدوات سياسية.
في هذا السياق، ليست الفاشيات الأمريكية والغربية انقطاعًا عن الحداثة، بل اكتمالها الأداتي؛ حيث يبلغ العقل المادي ذروة قدرته على التدمير باسم التقدم، وعلى الإبادة باسم الدفاع عن الحرية.
ما يحدث في نيويورك اليوم يمثل صدى داخليًا للإبادة التي تُمارس في غزة، وما يُقمع في الجامعات الأمريكية والأوربية خصوصا، وعلى النطاق العالمي عموما، هو امتداد طبيعي لما يُقصف في المخيمات. العقل الذي يبرّر قتل الفلسطيني هو نفسه الذي يقمع المحتج الأمريكي والغربي والعربي والفلسطيني، والعقل الذي يرى العالم من منظور المصلحة هو نفسه الذي ينفي الإنسان من معادلة السياسة.
لذا، يصبح من الخطأ التاريخي والسياسي الرهان على تبدّل الإدارات الحكومية أو على صحوة الضمير لإيقاف حرب الإبادة أو تحقيق العدالة. البنية التي تنتج الإبادة في الخارج هي نفسها التي تنتج القمع في الداخل، ولا تملك في ذاتها إمكانية إصلاح أخلاقي أو تحوّل إنساني حقيقي.
الرهان الحقيقي يكمن في الذات، في وعي الشعوب وقدرتها على إعادة تعريف الحرية والعدالة خارج منظومة الحداثة المادية العنصرية والعقل الأداتي، لأن الخلاص لا يأتي من داخل الفاشية، بل من وعي يتجاوزها ويكشف جوهرها.
عاشرا: الولايات المتحدة كنموذج للحداثة الإمبراطورية والفاشية البنيوية
الولايات المتحدة الأمريكية ليست حالة منفردة، كما سبقت الإشارة، بل تمثل نموذجًا مكثفًا لنظام الحداثة الغربية المادي العنصري المهيمن، الذي يجمع بين الإمبراطورية في الخارج والفاشية البنيوية في الداخل، ويعيد إنتاج ذاته في كل زمان ومكان يُتاح له النفوذ فيه.
1.الأقليات العرقية والدينية
تظهر الدراسات أن الأقليات، بما في ذلك الأمريكيون من أصول أفريقية، اللاتينية، والمسلمون، كانوا أكثر عرضة لتجارب القمع والرقابة المباشرة. وفقًا لتقرير Pew Research Center لعام 2023:
• 41% من الأمريكيين من أصل أفريقي أبلغوا عن شعورهم بالمراقبة أو التضييق في أماكن العمل أو أثناء المشاركة في احتجاجات سلمية.
• 36% من اللاتينيين و33% من المسلمين أشاروا إلى تجارب مماثلة، بما في ذلك تهديدات أمنية أو رفض الحصول على تمويل لمشاريع مجتمعية.
هذا يشير إلى أن السياسة السلطوية الداخلية تعمل بطريقة تركز على استهداف الفئات التي يُنظر إليها على أنها “الآخر الداخلي”، وفقًا لمنطق السيطرة المستمد من الممارسة الإمبراطورية الخارجية.
1.الطلاب الجامعيون والمؤسسات التعليمية
الجامعات تعد ساحة رئيسية لممارسة الضبط على الأصوات المعارضة. وفقًا لتقرير مؤسسة American Progress 2025، كان هناك:
• أكثر من 4,000 منحة جامعية مهددة بالإلغاء أو التخفيض في أكثر من 600 جامعة، بما يقارب 8 مليارات دولار.
• 27 جامعة كبرى شهدت تدخلات مباشرة أو تهديدات بقطع التمويل بسبب برامج تعليمية أو نشاط طلابي ينتقد السياسات الأمريكية أو يظهر تضامنًا مع الفلسطينيين.
توضح هذه الأرقام أن الطلاب والأكاديميين يُجبرون على ممارسة الرقابة الذاتية، مما يقلل من مساحة النقاش الحر ويحوّل الجامعات إلى أدوات للانضباط السياسي.
1. العمال والفئات الاقتصادية منخفضة الدخل
يظهر تأثير السياسات السلطوية أيضًا على العمال والفئات منخفضة الدخل الذين تعتمد مدنهم على التمويل الفيدرالي لتقديم الخدمات الأساسية. على سبيل المثال، بحسب بيانات Bureau of Labor Statistics 2022:
• 18 ولاية شهدت تهديدًا بقطع التمويل عن برامج دعم العمال أو التعليم المهني، ما أثر على حوالي 4.7 مليون موظف وعامل مؤقت.
• في نيويورك، المدينة التي تواجه تهديدات التمويل، يعتمد نحو 29% من سكانها على برامج مدعومة فيدراليا، ما يجعلهم عرضة مباشرة لتقلبات السياسة المركزية.
1. التركيز الجغرافي والفوارق بين الولايات
تُظهر البيانات أن الفئات المهمشة في الولايات التي تعتمد بشكل أكبر على التمويل الفيدرالي تكون أكثر هشاشة أمام الضغوط السلطوية. على سبيل المثال:
• ولاية مونتانا تعتمد بنسبة 31.8% من إيراداتها على المنح الفيدرالية، فتتعرض أقلياتها وطلابها وضمانات العمال لمخاطر مباشرة أكبر مقارنة بولاية فيرمونت التي تعتمد بنسبة 12.8%.
• هذه الفروقات تُظهر أن توزيع القوة السلطوية ليس عشوائيًا، بل يتماشى مع الحسابات الاقتصادية والجغرافية لكل ولاية، ويؤكد أن الفاشية الداخلية تستهدف بشكل أكبر الفئات الأقل قدرة على المقاومة.
1. التداعيات طويلة المدى
تترك هذه السياسات آثارًا متعددة على المجتمع:
• تراجع الحرية الأكاديمية والسياسية: حيث يحد القمع من النقاش الحر داخل الجامعات والمجتمع المدني.
• تفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي: حيث تصبح الفئات المهمشة أكثر اعتمادًا على التمويل الفيدرالي، ما يجعلها أداة ضغط مستمرة.
• إعادة إنتاج منطق التبعية والامتثال: الفئات الأكثر ضعفًا تصبح مرآة لتوسيع السلطة المركزية، مما يعيد إنتاج نمط السيطرة الإمبراطورية داخليًا.
كما تقول الحكمة: «الفاشية التي تُمارس هناك، على الشعوب المستضعفة، لا تلبث أن ترتدّ هنا، على المجتمعات التي تنتجها.»
حادي عشر: الفاشية الإمبراطورية كتحذير عالمي
ما يُمارَس اليوم من فاشية إمبراطورية خارج حدود الولايات المتحدة - من إبادة واستغلال وتهجير - لا يبقى حبيس الخارج. هذه السياسات تعود سريعًا إلى الداخل الأمريكي، لتترسخ في مؤسسات الدولة، الجامعات، المدن، وحتى الحياة اليومية للمواطنين.
ما يحدث في نيويورك، وما يواجهه الأكاديميون والطلاب، يمثل صورة مكثفة لما يمكن أن يواجهه أي مجتمع يستضعف أمام هيمنة الإمبراطورية. هذه الأحداث ليست مجرد قضايا محلية أو سياسية، بل تمثل تحذيرًا عالميًا: الفاشية التي تُمارس ضد الفلسطينيين والشعوب المستضعفة ستعود لتؤثر على كل شعوب العالم، بما في ذلك من يعيشون في قلب الديمقراطيات الحديثة.
ثاني عشر: غزة، اختبار للضمير الإنساني وضرورة وعي الشعوب
مصير غزة اليوم يشكل اختبارًا صارخًا للضمير الإنساني، ويقيس قدرة العالم على التكاتف ضد المنطق الإمبراطوري والفاشي. إذا لم تتوحد إرادات أحرار العالم لدعم العدالة والحرية، فإن ما يحدث في قطاع غزة وعموم فلسطين وجوارها العربي لن يبقى مأساة فلسطينية وعربية فحسب، بل سيصبح مؤشرًا على ما قد يتهدد البشرية جمعاء.
الرهان الوحيد الممكن يكمن في وعي الشعوب، وقدرتها على إعادة تعريف الحرية والعدالة خارج منظومة الحداثة المادية والعقل الأداتي.
الخلاص لا يأتي من داخل الفاشية، بل من الوعي الذي يتجاوزها ويعرّي جوهرها.
إن معركة الوعي هي معركة التحرر الأولى، لأن من يملك الوعي يملك القدرة على تفكيك الفاشية في كل صورها، داخلية كانت أم خارجية.
غانية ملحيس
4/11/2025