صلاح فضل - هالة البدري.. وتجربة العراق (1)

احتاجت الروائية المبدعة والكاتبة المتمرسة هالة البدري ثلاثين عاما كي تخمر تجربتها‏,‏ وتجربة ملايين المصريين‏,‏ في العراق في سبعينيات القرن الماضي في عمل فني بديع‏,‏ يسد دين تلك الفترة الحرجة في ضمير الأدب العربي‏.‏
ويسجل ملحمة هذا الاحتضان القاسي للإنسان وأحلامه في رواية ضخمة بعنوان مطر علي بغداد أصدرتها مؤخرا, والتزمت فيها تأريخ الفصول كي توثق الأحداث والأشخاص والمشاعر, من منظور راوية صحفية, تكاد تتماهي مع الكاتبة في ظروف عملها في مكتب مجلة الزهرة ـ المعادل لمكتب روزاليوسف ـ في بغداد, علي طريقة الاسترجاع المحكوم برؤية الفترة الزمنية ذاتها, فتؤرخ للفصل الأول في ديسمبر9791 لتخطف انتباه القراء لاختفاء زميلتها العراقية من المكتب في ظروف غامضة, قبل أن تسترجع ذكري بداية ذهابها قبل أربع سنوات إلي مطار القاهرة في ثياب العرس كي تزف إلي خطيبها المهندس المصري الذي سبقها في السفر, وتتجلي خفة دم الرواية في الإيقاع المتسارع للأحداث والأقوال, حيث أخذ أهلها في تزويدها بالمأكولات والنصائح, وعند باب الطائرة يقبلها والدها المستشار ويسلمها حقيبة ورقية بها زجاجتا ويسكي وزجاجة شمبانيا هدية خاصة للعريس حاتم كانت قد تعرفت به في عيد ميلاد صديقتها سلوي بعد عودته من دراسة الهندسة في ألمانية, حين رآها قال: تركت ألمانيا لسبب واحد, أن أتزوج فتاة مصرية, سمراء, لها عيونك العسلية وشعرك الكستنائي, هل تصدقين أنك من كنت أبحث عنها؟ فردت عيله ضاحكة: لكنني قابلتك منذ دقائق فحسب, معظم المصريات سمراوات ولهن عيون عسلية وشعر كستنائي حتي لو كان
clip_image002.jpg
مصبوغا, فرد عليها قائلا: لا تستهيني بفراستي وعندما جاء إليه ترشيحان للسفر, أحدهما إلي السعودية والثاني الي العراق, قررا معا بلا تردد قبول العقد العراقي علي الرغم من أنه كان بنصف الأجر السعودي, حيث الحياة الطبيعية في بغداد الحضارة, مدينة ألف ليلة وليلة, وزبيدة والفارابي وحمورابي وأنكيدو وعشتار وليتأمل معي القارئي كيف تنهمر عليه من هذه السطور القليلة عشرات المعلومات الإنسانية والتاريخية والجمالية, وكيف يتساقط علي روحه ندي خفة الروح وسرعة الإيقاع, وحلاوة السرد المتدفق للحيوات والمواقف, والإشارات اللماحة التي لا تجرح حسه مهما كانت استجابته للإيماءات الحميمة.
أنثوية السرد:
عجيب أمر هالة البدري, بطريقتها العفوية في السرد, ودقتها في الملاحظة, وقدرتها علي التقاط التفاصيل التي لا يمكن أن تترسب في ذاكرة الرجال, لأنها لا تدخل في نطاق تجربتهم, بما يقيم من مخيلتها شاهدا بالغ الصدق علي حساسيتها وهي تسجل بكفاءة رؤيتها لهذه الفترة التاريخية واللافت في الرواية العربية الآن هو غلبة هذا الطابع التسجيلي عليها, وكأن المبدعين والمبدعات لدينا عندهم نهم مؤرق لتوثيق هذه المرحلة من التطوير الحضاري لتقديم شهادتهم عنها وبلورة منظومة القيم التي يدينون لها, وإن احتاجوا إلي فترات متفاوتة من التباعد الزمني عنها حتي تكون رؤيتهم شاملة وعميقة, إلي جانب قلة الأعمال التخييلية الرامزة البعيدة عن الواقع المباشر, الضاربة في مجال الفانتازيا أو الخيال العلمي أو حيوات الآخرين المختلفين في الزمان أو المكان ولعل الموتيفة الفريدة التي تتكرر في هذه الرواية أن تكون نموذجا لرفاعة الحس الأنثوي في تخييله المباشر, فالراوية نورا سليمان تضطر لترك رضيعها في حضانة جوته كي تذهب الي مؤتمر نسوي يعيد علاقتها بعوالم بغداد التي تركتها منذ شهور قليلة, إلي جانب حساسية أخري تتمثل في رصدها برهافة بالغة لدقائق تفاصيل الحياة الزوجية للعاملين في الخارج فلا أحسب أن أسرة واحدة منهم قد نجت من هذا الشجار الحتمي الذي يشب عندما يعن للزواج أن يبعث ببعض المال لأهله.
وينشب الصراع علي مدي أحقيتهم في الاستمتاع بحصيلة جهده أو ضرورة إعطاء الأولوية لأولاده وزوجته المغتربة معه, كما أحسب أنه علي كثرة الأدباء والشعراء الذين شاركوا في خوض هذه التجربة العراقية فإن كثيرا من ملامحها المميزة غير معروفة حتي الآن, مثل مشروع محو أمية النساء, حيث تحولت مدرسة محو الأمية ـ بعد العصر ـ الي فرصة خروج إجبارية تركت فيها النساء كل مسئوليات الأسرة الكبيرة, وعشن الحالة وكأنها رحلة جميلة, عدن فيها صبيات يافعات تذكرت سيارة ركبتها مع زوجي حاتم إلي سوريا, والنساء فيها يتضاحكن علي راشد بطل كتاب محو الأمية, وقمن بتركيب جمل مختلفة تعرض رأيهن بصراحة في الرجال, فتقلن: شرب راشد ثلاثين بطلا من البيرة, عاد راشد من المشرب في الثانية صباحا, باع راشد ذهب أمه وزوجته ليشرب بثمنه, ركب راشد التيوتا وترك زوجته تعمل في البستان أحببت هؤلاء النسوة وتعلمت منهن الكثير وبلمسات مكثفة, وضربات فرشاة رسامة محترفة ترسم نورا صورة بغداد من منظور مصري وضعنا خطة في المكتب لزيارة المقدسات العراقية في النجف وكربلاء وعواصم الحضارات من سامراء وبابل وأور, بلاد الأكراد ومستنقعات البصرة, من إيوان كسري سلمان باك إلي بابا جرجر حيث نار سيدنا إبراهيم تابعت مشاكل العمال المصريين وأعدادهم المتزايدة في العراق.
كنت أمر بعدد منهم في ساحة التحرير صباحا أثناء انتظارهم وصول سيارات المقاولين لنقلهم الي مواقع العمل التي تقوم علي قدم وساق في أنحاء العراق ولكن تجربة خاصة تستحق الوقوف عندها في هذا السياق هي قرية الفلاحين المصريين الخالصة لم أكن أتخيل حين دخلت إليها عصر أحد الأيام أنها ستصبح جزءا من عالمي أهتم به وأرعاه وأتابع عبره ما كنت أصدقه من أن عالمنا العربي هو وحده حقيقية يجب أن تتكامل.. كانت زيارتي لهم مبهجة ودودة, رحت أراقب نمو الحياة في قرية مصرية عراقية, وقلبي يخفق خوفا عليها من تقلبات السياسة, كانت صورة مصغرة من مصر بجذورها التاريخية الأصيلة, وفقر أهلها, وحنانهم الذي يختفي خلف ثقل الحاجة للقمة العيش.
بنية الزمن:
تعمل هالة البدري علي تشكيل عالمها الروائي بجدية بالغة, فتجهز الملفات, وتوثق المعلومات, وأعلنت الظن أنها تعود لتوظيف بعض المقولات والتحقيقات الصحيفة التي أعدتها من قبل, لكنها تجد نفسها مضطرة لكي تضع كل ذلك في قالب سردي متسق أن تحل مشكلة الهيكل الزمني للرواية, فلديها من التفصيلات والقضايا ما يملأ مئات الصفحات, لكن: بأي نظام؟ في هذه الرواية علي وجه التحديد تفضل تقنية الاستدعاء الذي يمتح من معين الذكريات بعنوان متكرر هو طرقات الذاكرة بينما تركز خط الزمن في لحظات محددة, تبدأ كما ذكرنا باختفاء أنهار خيون وهي فتاة عراقية جميلة, أوقعها في حباله صحفي مصري عجوز يدير مكتب المجلة في بغداد يسمي حلمي أمين وهو بدوره معادل لشخصية حقيقية ـ فيما يبدو ـ عملت معها الراوية, ومن ورائها الكاتبة ذاتها, حيث يأتي ذكرها أحيانا ضمن الفريق الصحفي المتأدب الذي يعمل من المصريين في العاصمة العراقية ثم لا يلبث أن تعود لسياق السرد خلال رحلة المؤتمر لتذكر مقامها في بغداد الذي يمتد طيلة السنوات الأخيرة من السبعينيات, وهي سنوات تطابق بالتحديد ظروف الكاتبة الفعلية.
تتذكر مثلا قصة أول رحلة مهنية لها إلي أربيل لمعايشة قضية الأكراد العائدين, وكيف تعرضت لغزل فج من المراسل السوفييتي إيزاك الذي كان يصر علي تسميتها نفرتيتي ويتحرش بها علنا, حيث أوشك أن يهاجم حجرتها في الفندق ليلا, مما جعلهم يضعون حارسا علي بابها, وكيف أن هذا التصرف قد عرفه المسئولون الروس فحرموه بعدها من السفر في رحلات صحفية, وأهم من ذلك كيف طبعت هذه الحادثة بقية حياتها بالتحفظ في التعامل مع الرجال عندما تختلط بهم حيث يميلون الي تخطي حدود الزمالة إلي العبث ويظل احتفاظ ذاكرة الكاتبة ـ أو أوراقها ـ بهذا الكم الهائل من تفصيلات الحياة العراقية معجزة العين الثاقبة للروائية الموهوبة, وإن كانت المفارقة التي تنجم عن المسافة بين قفزات الذاكرة من ناحية, وزمن السرد من ناحية أخري تلعب دورا في تجسيد منظور الأحداث في بنية أشبه بالسيرة الشخصية للراوية, حيث تصبح كل الملاحظات والوقائع التاريخية في الحروب والصراعات والشخوص والمواقف مادة صالحة للتعبئة في إهاب هذه الذكريات, دون أن تمضي علي نسق عضوي متنام خارج التاريخ المعروف يسمح بتشكيل نسيج درامي مستقل عنه, أو تعمد إلي شخصيات بذاتها فتتبع مسار حياتهم بلحظاتها المكثفة ونموها الطبيعي السببي المتصل, ليس في الرواية شيء كثير من ذلك بقدر ما تضم أشتاتا مبعثرة غير متماسكة, وإن كانت تترك في حلق القاريء مذاقا لطيفا من خبرة الراوية/ الكاتبة ورؤيتها للحياة العريضة, ومحاولتها تؤلف كتاب موضوعية من مشاكل الأكراد والفلاحين المصريين والمرأة العراقية, والأمر الذي يحصي المسافة الفاصلة والواصلة بين الراوية والكاتبة المجتهدة, ويطرح اسئلة لابد من الحديث عنها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى