نصير فليح - جماليات الفلسفة في أدب بورخس..

من السمات المميزة لأدب بورخس، أكان نثرا أم شعرا، تلك اللمحات التي تتوهج فيها وفرة معارفه وعمقها بشكل يقل نظيره. وفي مجال الفلسفة، فان السمة الأبرز تظهر في تجسيمه للفكر الفلسفي المجرد، تلوينه ونفخ الحياة فيه حتى لا تعود الفكرة الفلسفية او الفيلسوف نفسه صورة رمادية في المفاهيم العقلية الصرف. هذه السمة تعكس عمق التوغل البورخسي بالفلسفة نفسها، وتشربه باجوائها حتى باتت لديه مفردة نابضة بالحياة، تجد مكانها بيسر وتلقائية في سياق كتابته. في هذا المقال أتناول بعض كتاباته الشعرية والنثرية من هذا المنظار، وابتدئ من قصيدتين كنت ترجمتهما في كتابي الأخير عن شعره، وهما قصيدتان بتوجه فلسفي صريح بدءا من العنوان، إحداهما بعنوان "ديكارت" والاخرى بعنوان " باروخ سبينوزا" ، اكتفي بايراد نص القصيدة الاولى:
ديكارت:
انا الإنسان الوحيد على الارض، ولكن ربما ليس ثمة ارض ولا انسان./ ربما اله يخدعني./ ربما حكمَ الهٌ علي بالزمن، هذا الوهم الدائم./ أحلمُ بالقمر وأحلم ان عيني تتحسسانه./ حلمتُ بالصباح ومساء اليوم الاول./ حلمت بقرطاجة، والفيالق التي انزلت بها الدمار./ حلمت بلوكان./ حلمت بغولغوثا والصلبان الرومانية./ حلمت بالهندسة./ حلمت بالنقطة، الخط، السطح، والحجم./ حلمت بالأصفر، والازرق، والاخضر./ حلمت بطفولتي المريضة./حلمت بالخرائط والممالك، وتلك الكآبة في الفجر./حلمت باحزان لا يمكن تصورها./ حلمت بسيفي./ حلمت باليزابيث ملكة بوهيميا./ حلمت بالشك واليقين./حلمت بكامل الامس./ربما لم يكن هناك امس، ربما لم أولد أبدا./ربما أحلم اني حلمت./أشعر بوخزة برد، بوخزة خوف./على الدانوب، انه الليل./ سأمضي حالما بديكارت وبايمان آبائه.
هكذا يتحول ديكارت، بتأملاته الفلسفية، المؤسسة على الشك المنهجي، لتصل الى الكوجيتو الديكارتي المعروف "أنا افكر اذا انا موجود"، يتحول هذا الصرح الميتافيزيقي، الى ديكارت الانسان، في حياته اليومية، في لحظات تأمله، وفي نبرة الحزن التي تغلف صوته، ليعود صرح الفكر المجرد الذي تأسس معه الى جذوره التي تمتد عميقا في وجود الكائن- الانسان نفسه، وبحثه المحموم، والمشوب بالاسى، واليأس احيانا، عن يقين مطلق، في عالم يعطينا من الاسئلة اكثر بكثير من اجاباته. كل هذا بالطبع لا ينفصل عن صورة (المتاهة) الأثيرة في ادب بورخس، والتي كثيرا ما يصور الحياة والتاريخ والانسان على اساسها. اما تضمين عناصر مثل (النقطة، الخط، السطح، الحجم) في القصيدة، وهي عناصر علمية هندسية محضة بعيدة عن الشعر بمفهومه المتعارف عليه، فتوحي بقدرة مميزة على زج العلم في تيار السياق الشعري، حتى لا يعود نافرا. كما ان هذه العناصر، بالاضافة الى السطر اللاحق الذي يشير الى الالوان، هي عناصر مكونة لفلسفة ديكارت نفسها ونظرته للمادة، بجوهرها، وهو (الامتداد)، وصفاتها الثانوية كالالوان.
وبالطريقة عينها، في القصيدة الثانية، نرى سبينوزا، بنظامه الفلسفي الهندسي الميتافيزيقي الصارم، يعود الى الحياة الملموسة في قصيدة بعنوان "باروخ سبينوزا" تبدأ بما يلي: (غشاوة من الذهب، الغرب يضي النافذة./ الان، المخطوطة الجادة تنتظر/ مرهقة باللانهائي.) لنرى، الى الاعياء الشديد الكامن في السعي العنيد لتأسيس اليقين الميتافيزيقي على براهين تحاكي الهندسة في دقتها، وهو يتحول الى صورة شعرية تشي بالعبء الإنساني المحمل بفلسفة كهذه، لتفتح نافذة على صعوبة ولا جدوى هذا السعي، حيث تنتهي القصيدة - بعد اصداء متنوعة من فلسفة سبينوزا - بالجملة التالية: (الحب الذي لا أمل له بان يُحَب.)
هذه السمة في تناول الفلسفة، وبعثها بشخوصها ومفاهيمها الى الحياة الفعلية الملموسة، تنعكس ايضا في كتابات بورخس النثرية. في قصة بعنوان "ثيمة البطل والخائن"، (وهي قصة سبق ان ترجمتها ونشرت في جريدة الصباح)، يبتدئ بورخس بالفقرة التالية:
بفعل التأثير الذائع الصيت لتشيسترتون (مخترع ومنمق حكايا غامضة رائعة)، وليبنتز، مستشار المحكمة (الذي اخترع التناغم المسبق)، تصورت في مساءاتي الشاغرة هذه الحبكة (والتي ربما سأضعها على الورق، ولكنها أصلا تكمل السطورَ في داخلي على نحو ما). إنها تحتاج الى التفاصيل، التصحيحات، التعديل. هناك مناطق في القصة لم تكشف نفسها أبدا لي. اليوم، الثالث من يناير، 1944، أراها بالطريقة التالية:
هنا ايضا نرى الى ليبنتز كمستشار المحكمة أولا، قبل ان يكون الفيلسوف الميتافيزيقي الشهير صاحب "المونادولوجيا" ومخترع "التناغم المسبق" ، ومع تطور الاحداث اللاحق، نرى الصلة العميقة التي تتجلى في القصة، وتمثلها المدهش لافكار لايبنتز، وتأسيس كامل البناء السردي على اساس تصميم قدري مسبق للاحداث، يعيد نفسه في سياقات مختلفة في مراحل مختلفة من التاريخ. طبعا كل هذا في ثنايا الاسئلة العميقة التي يفتحها فكر بورخس نفسه، حيث لا نعود نعرف في نهاية القصة ان كان بطل القصة بطلا ام خائنا، وكأنه يريد ان يسخر من التوصيفات الجاهزة الطنانة في كل الحالات التي لا يكون فيها التوصيف ممكنا. (أما اذا اردنا التوقف عند بناء العمل نفسه وسماته الحداثية، فان فقرة الاستهلال نفسها تفتت الزمن واليقين العادي المصاحب لصوت الراوي في السرد التقليدي، والقصة التي يرويها هنا ينبهنا من البداية الى انها ليست النسخة النهائية، وأنها في تحول وتشكل مستمر).
في قصة اخرى، (وانا استعمل تعبير "قصة" هنا تجوزا، لان النثر البورخسي صعب التجنيس) وهي بعنوان "بحث ابن رشد"، يبدأ بورخس بتصوير ابن رشد في حياته اليومية، في كتابته لـ"تهافت التهافت" وفي رده على الغزالي، وايضا وهو يعمل بجهد عظيم لترجمة ارسطو، ليس عن السريانية او الاغريقية، اللتين لا يعرفهما، بل عن ترجمة لترجمة اخرى، وعناءه في ايجاد مقابل لمصطلحي "التراجيديا" و"الكوميديا" اللتين يصادفهما في كتاب ارسطو "فن الشعر" واللتين لا مقابل لهما في اللغة العربية. لتنتهي القصة، بعد مشاهد مختلفة متخيلة من حياة هذا الفيلسوف، بفقرة مفاجئة و(بتر) مفاجئ بارع، حيث يتوقف الكاتب (أي بورخس) عن عملية التصوير هذه لانها ، كما يصارحنا، عبث محض، لانه يستحيل تخيل حياة اخرى في عصر آخر، ويتعذر عليه بالتالي تخيل ابن رشد تماما كحال ابن رشد نفسه في سعيه لتمثل ارسطو المنفصل عنه ببحر اربعة عشر قرنا.
في ادب بورخس، ليست الشخصيات الفلسفية وحدها هي التي تكتسي باللون والنبض لتعود الى الحياة الفعلية فقط، بل الافكار الفلسفية ايضا، تولد في سياق ادبي جمالي يسحبها من عالم المفاهيم المجرد. وهذه سمة اخرى تنم عن عمق عظيم من الاستيعاب. في مقطوعة قصيرة بعنوان "البرهان الطيوري" في كتابه (الصانع)، يصور بورخس محاولة عقلية لاثبات وجود الله، والعنوان يحاكي بجلاء البراهين الثلاثة الشهيرة في تاريخ الفكر الفلسفي واللاهوتي عن اثبات وجود الله، أي البرهان الوجودي، والبرهان الغائي، والبرهان الكوني. في هذه المقطوعة القصيرة جدا يتصور بورخس سربا من الطيور، يمر امامه للحظة خاطفة، بحيث يجزم من جهة بانه رأى السرب، ولكنه، من الجانب الاخر، لا يستطيع تحديد عدد الطيور فيه، ليفاجأنا فورا بعد ذلك بان هذا التساؤل ينطوي على التساؤل عن وجود الله نفسه!!، اذ يقودنا في نهاية هذه المقطوعة القصيرة التي لا تتجاوز عدة سطور، وبعد جملة من الاستنتاجات الطريفة والبارعة الى الجملة النهائية في النص: "اذن الله موجود".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى