استمعت للقاء مع احد المفكرين على اليوتيوب ؛ قال بأنه حتى الآن لا يملك لاب توب . وأنه لا يزال يكتب بآلة كاتبة تقليدية. ليس لأنه ضد التكنولوجيا ولكن لأنه لا يستطيع التأقلم معها. اعتقد انه فقط لم يجرب . وربما مع قليل من التجربة و الاستمرارية كان سيتأقلم معها وربما لا يتمكن من الاستغناء عنها بعد ذلك. لكن المهم في الأمر هو ان التكنولوجيا غيرت تماما من عالم الكتابة... وخاصة التأثير النفسي ، واقصد بذلك تداعيات الكتابة من الدماغ الى الحامل الالكتروني. انا شخصيا لم استخدم ورقة وقلم منذ سنوات ، بل وفوق هذا لم اعد اكتب على اللاب توب بل فقط على الهاتف المحمول. رغم ان امكانيات الهاتف المحمول اضعف ورغم ان الضغط على الحروف الصغيرة قد ينتج اخطاء مثل عدم كتابة همزة الوصل والاستغناء عن ذلك التشدد الاملائي ، بحيث صار هناك اهتمام بالتواصل اكبر من الاهتمام بتقديس القانون اللغوي. لقد انتجت التكنولوجيا في الواقع لغتها الخاصة ، ثم انتجت الاجيال الشابة لغة من داخل لغة التكنولوجيا ، عند بداية تعاملي مع الانترنت وجدت حوارات كثيرة تدور بين الشباب العربي بلغة كانت شديدة الصعوبة وربما لا زالت. حيث يقومون باستخدام الاحرف اللاتينية والارقام للحديث باللغة العربية ؛ فحرف الحاء مثلا يتحول الى رقم 7 ؛ وهكذا تجد نفسك امام نص عجيب هو خليط من ارقام وحروف لا رابط بينها سوى تلك المواضعة الجماعية بين الشباب على مدلولاتها. العلامة المرئية فقدت صرامتها التقليدية وصارت قابلة للتحور متى ما اردنا ذلك فالحاء ليس بالضرورة ان يظل متمتعا برسمه التاريخي ، وليصبح الرقم 7 . أين المشكلة في ذلك؟ طرحت هذا السؤال على نفسي مرارا وتكرارا بعد ان شاهدت كتابات الشباب الصغار على وسائل التواصل الاجتماعي. بعضهم اخبرني انه لا يستطيع الكتابة الا بهذه الطريقة لاعتياده عليها. وهذا ما اصبح يؤثر فينا جميعا بشكل ما ؛ انه تأثير نفسي ، وأضيف الى ذلك انه بات يؤثر على التداعي الابداعي في الكتابة. ربما لا اكون الشخص الوحيد الذي يتعطل عقله عندما يحمل قلما وأمامه ورقة بيضاء ؛ في حين تتدفق الافكار من دماغي حينما احمل جوالي واضغط على ازرار الحروف الضوئية. فأداة الكتابة تؤثر حقيقة على الفكر. الميل الى الكتابة نفسه اصبح اكبر بفضل التكنولوجيا. ان الناس الآن يمارسون الكتابة بشكل مكثف جدا ، خاصة عبر الحوارات في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وهذا ما احدث نقلة كبيرة في ميول الافراد ؛ ففيما كان حمل قلم وورقة ثم الكتابة شيء ممل جدا بالنسبة لهم ، صارت الكتابة اليوم امرا حتميا والزاميا عليهم كل يوم. منذ الصباح ستستقبل رسالة من احد اقاربك او اصدقائك وسترد عليها كتابة ايضا. ستدخل لتكتب تعليقا على الفيس او الواتس او تويتر ، ولذلك تحسنت الكتابة بشكل ملحوظ وازدادت الرغبة في ممارستها بشكل محترف. ارتفعت معدلات الكتابة الادبية بشكل ملحوظ منذ ظهور الحاسوب ، ففي السابق كنا نكتب على الورق وننفق مئات الجنيهات لنقل ما على الورق بشكل رسمي جدا عبر الالة الكاتبة. اليوم لا يخلو منزل من لاب توب وطابعة ليزر ، بل وصار النشر الالكتروني سهل جدا مما اظهر ابداعات كتاب ما كانوا ليظهروا الى النور لولا هذه التكنولوجيا. صار هناك من تشتهر كتاباتهم ومقالاتهم وتغريداتهم ومنشوراتهن المكتوبة ، وارتفعت معدلات النقاش المكتوب والنقد والنقد المضاد ونقد النقد للكثير من الاطروحات والنظريات الأدبية و الفلسفية والعقائد والعلوم. ان اداة الكتابة الحديثة حقا رفعت مستوى الاستعداد النفسي للافراد لكي يكتبوا. صاروا يكتبون باللغة الفصحى او العامية ، بالحروف العربية او اللاتينية ، بالشكل التقليدي او بالخلط بين كل علامة وأخرى. المهم انهم يكتبون بشغف وبدون توقف. قبل الحاسوب كانت الكتابة وظيفة ؛ بل وظيفة شديدة الملل ، كانت تندرج ضمن الاعمال المكتبية ، وكان من يمارسونها موظفون بائسون تحيط بطاولاتهم الارواق والاقلام والمحابر واصباغ محو الحبر ، والصمغ والمقصات ...الخ. كل هذا انتهى اليوم. يمكنك ان ترسل طلبك لمديرك في العمل من جوالك بكل سهولة وتتلقى الرد بكل سهولة. يمكنك ان تنشيء صفحتك الخاصة على الفيس او مدونتك او موقعك على الانترنت لتمارس الكتابة (شعرا ورواية وقصة وسياسة ورياضة ..الخ) . فالتأثير النفسي لأداة الكتابة كان عظيما جدا على الافراد ، ويمكننا ان نسمي عصرنا هذا بعصر الكتابة بكل تأكيد.