محمد فايز جاد - يحيى الطاهر عبدالله.. القدرة على إثارة الدهشة رغم الغياب المفاجئ

"في آخر مرة التقيت فيها يحيى الطاهر عبدالله، قال لي: لا أريد أن أموت أبدًا، ولكن يحيى استجاب لغواية رسول الموت، المخادع القادر، بعد أسابيع قلائل".

هكذا قال الكاتب والناقد الراحل إدوار الخراط، عن صديقه يحيى الطاهر عبدالله، الذي رحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم 30 إبريل، عام 1981، عن عمر ناهز 43 عامًا، بعد أن باغته حادث سيارة على طريق الواحات، أمام عيني ابنته أسماء.

عبدالفتاح يحيى الطاهر عبدالله (واسمه هو عبدالفتاح يحيى اسم مركب)، ولد في 3 إبريل 1934 بالكرنك بمحافظة الأقصر، لأب معمم، وتوفيت والدته في صغره لتربيه خالته، التي ستصير زوجة أبيه.

ابن الكرنك والحساسية الجديدة

شكل جيل الستينيات، مستجيبًا للتغيرات السياسية والاجتماعية والفكرية التي شهدها المجتمع المصري، محاولة للخروج على الأطر السائدة، التي وصفها الخراط بـ"الحساسية القديمة"، وتمخض هذا الجيل عن العديد من الأسماء مثل: إبراهيم عبدالمجيد، علاء الديب، أمل دنقل، وغيرهم، غير أن منتج يحيى الطاهر عبدالله شكل وحده تجربة مختلفة لم تحظ بالاهتمام الكافي في حينها، غير أنها صارت محل اهتمام النقاد ربما بعد وفاة الكاتب بسنوات.

فيحيى الطاهر، المحب المتحمس للعقاد، قدم منذ مجموعته الأولى "ثلاث شجيرات كبيرة تثمر برتقالًا" تمردًا على أشكال القص المعتادة، مقدمًا صوته الخاص الذي يمزج بين التشبع بالقرية، بخاصة مع خصوصية قرية الكرنك الموغلة في الابتعاد في عمق جنوب مصر، وبين لغة شاعرية – جعلت الأبنودي نفسه يحمد الله أن يحيى لم يكتب الشعر لأنه "يستمد كتابته من النبع نفسه- صنعت عوالم قصصية متفردة.

القرية حاضرة رغم الرحيل

تحضر القرية بأعرافها الصارمة، وشخصياتها المميزة التي صبغتها قسوة الجنوب الحار وقليل الموارد بصبغة متقشفة، حضورًا واضحًا في أعمال صاحب "أنا وهي وزهور العالم"، غير أن يحيى، ابن القرية والباحث عنها حتى في دروب العاصمة ومقاهيها الثقافية، لم يقدم القرية ذلك التقديم الواقعي، بقدر ما استند على موروث خرافي تشبعت به القرية البعيدة عن كل محاولات التحديث، طارحًا واقعية هي أشبه بواقعية سحرية تستحضر الجنوب بكل خصوصيته الاجتماعية، في إطاره الثقافي المستمد من أصول عدة.

القارئ لأعمال الأديب الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز (1927 – 2014)، يستطيع أن يلمح سمة مميزة لتلك الأعمال، وهي أنه يستطيع أن يجد حكايات وشخصيات رواياته في قصصه القصيرة المتناثرة، فحكايات وشخصيات "مئة عام من العزلة" تخرج من مجموعته "أم الكبير"، الأمر نفسه يفعله يحيى الطاهر عبدالله، الذي قدم "الطوق والأسورة" في قصتين سابقتين نشرتا في مجموعته "الدف والصندوق" وهما: "الشهر السادس من العام الثالث"، و"الموت في ثلاث لوحات"، فهل يمكن أن يفسر ذلك بأننا أمام نوعية من الكتاب الذين لا يتعاملون مع "أعمال" أو "أفكار" بقدر ما يتعاملون مع "عالم" يطوفون فيه ويكتبون ما يشاءون؟

التجريب لإثارة الدهشة

امتلك يحيى الطاهر عبدالله قدرة جريئة على التجريب، بالرغم من صغر سنه، ليقدم "حكاية على لسان كلب"، و"الحقائق القديمة صالحة لإثارة الدهشة"، اللتين قدم فيهما سردًا يمتزج برؤية فانتازية، تبلغ ذروتها في الأخيرة، وليقدم في "حكايات للأمير حتى ينام"، مستلهمًا قوالب التراث الشرقي كـ"ألف ليلة وليلة"، مازجًا بين أسلوبها الحكائي، وبين لغة سردية حديثة ومتمردة على المألوف.

في مجموعته "أنا وهي وزهور العالم" يخوض صاحب "الطوق والأسورة" تجربة تعد نموذجًا لما سماه إدوار الخراط بـ"الكتابة عبر النوعية"، تلك الكتابة التي تهدم الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية لتقدم كتابات لا تعبر عن نفسها ككتابات هجينة تجمع نوعين أو أكثر، بقدر ما تقدم نفسها ككتابة مستقلة بذاتها، لتخرج نصوص المجموعة أقرب لما يسميه الخراط بـ"القصة القصيدة"، يمر فيها السرد عبر لغة شعرية شديدة التكثيف، تجعل بعض نصوصها – بخاصة النص الذي استمدت منه المجموعة اسمها- أقرب إلى قصيدة نثر.

ابن القرية، وصاحب الموروث الشفهي شديد الغنى، الذي كان يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويستطيع أن يلقيها على رفاقه في المقاهي دون أن تكون مكتوبة، كان يريد أن يعيش طويلًا، ولكنه، وفي غفلة من الجميع، "استجاب لغواية الموت"، قبل أن تكتمل مشروعات كثيرة جلبها معه من قريته النائية، ولكنه – رغم هذا الغياب السريع وبعد مرور 37 سنة على هذا الغياب- مازال قادرًا على إثارة الدهشة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى