محمد نوري جواد - علمية المحقق..

التحقيق مصدر حقّق , وهو لغة : إحكام الشيء وصحته , واصطلاحا : بذل عناية خاصة بالمخطوطات واستقصاء البحث بغية الوصول إلى حقيقة ما قالها مؤلف النص . وبعضهم قال : إن التحقيق هو الاجتهاد في جعل النصوص مطابقة لحقيقتها في النشر ، كما وضعها صاحبها ومؤلفها من حيث اللفظ والخط والمعنى .
الآن انظر إلى ما جاء في تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (طبعة دار الكتب العلمية / لبنان , 1413ه , تحقيق : عادل أحمد , وعلي محمد , ود. زكريا عبد المجيد , ود. أحمد النجولي ) في تفسير قوله تعالى ( يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) [ النساء : 176] ما نصه : ( فقدره البصري والمبرد وغيره : كراهة أن تضلوا . وقرأ الكوفي والفراء والكسائي ، وتبعهم الزجاج : لأن لا تضلوا ) , وفي طبعة دار الفكر , بيروت , 1420ه , تحقيق : صدقي محمد جميل , النص نفسه , وربما في طبعات أخرى كالذي جاء .
الذي يستوقف اللغوي في هذا النص أو القارئ عبارة ( فقدره البصري والمبرد ) , و( قرأ الكوفي والفراء والكسائي ) , فمن هو البصري ؟ , ومن هو الكوفي ؟ .
وردت كلمة (البصري) في تفسيره (29) مرة , وكلمة الكوفي (18) مرة , وقد استعمل أبو حيان الأندلسي كلمة (البصري) إشارة إلى مذهب البصريين , واستعمل كلمة (الكوفي) إشارة إلى مذهب الكوفيين كما في قوله : ( أما البصري ، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة ، وأما الكوفي ، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد ) , وفي موضع آخر ( وهذا مذهب الكوفي ) , واستعمل المصطلحين لشخصيات ذكرها , ولكن عبارة ( فقدره البصري والمبرد ) فيها إشكال ؛ لأن المبرد بصري , وعبارة فقدره البصري كافية لأن يكون المبرد واحدا منهم , وقوله : البصري والمبرد , تشعر بأن المبرد ليس ببصري ؛ لأن واو العطف تقتضي المغايرة , وعند إنعام النظر : يمكن تصحيح النص على أن واو العطف في (والمبرد) هي واو جمع المذكر السالم في كلمة (البصري) وقد زحفت إلى الكلمة المجاورة , وأن نون الجمع قد سقطت في المخطوطة , وعلمية المحقق تقول إن العبارة المستقيمة هي : ( فقدّره البصريون المبرد وغيره) , وبهذا يكون المبرد بدل بعض من البصريين. أما العبارة الثانية : (وقرأ الكوفي والفراء والكسائي ) ففيها إشكالان: الأول : أنّ الفراء ليس من قراء القرآن الكريم , وثانيا : الفراء والكسائي من المدرسة الكوفية فكيف جاز عطفهما على (الكوفي) . ولما نظرت في كتب القراءات اتضح أن عبارة ( لئلا تضلوا ) ليست قراءة ؛ لذا فهي ليست (قرأ) كما جاء في النص , والأكثر قربا هي (قدّر) ؛ لأن ما قبلها (قدّره) , وعبارة ( لئلا تضلوا تقدير نحويّ وثبت أنه ليس بقراءة , ومن جانب آخر يجوز في ما قلناه في واو العطف أن تكون واو جمع المذكر السالم كما أسلفنا في هذا المكان , وعلمية المحقق تقول إنّ العبارة المستقيمة هي: ( وقدّره الكوفيون الفراء والكسائي) , فتكون العبارة برمتها : (فقدّره البصريون المبرد وغيره: كراهة أن تضلوا , وقدّره البصريون الفراء والكسائي وتبعهم الزجاج : لئلا تضلوا) , وبهذا نكون قد أنقذنا النص من الإشكالات التي ذكرت, وظهر لنا نص صحيح من الجانب العلمي.


د. محمد نوري جواد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى