قرأ المذيع خبراً وأنا منهمك في عملي، لم أسمع منه سوى عبارة (شاحنة ليلية)!
دي جافو!
أحسستُ، من وقع العبارة، كأنني بددتُ نشوة، أو خُلسة كهروكيمائية تكاد لا يكون لها زُهاء.
توقفت عن عملي لأعرف أي الكلمتين كانت مصدر هذه اللمحة السرية العامودية المفاجئة، مستبعداً تماماً إسهام صوت المذيع في هذه الصَعدة الميمونة فهو لا يصلح لأن يقرأ عليك ولا حتى نصَ حلمٍ لا ذاكرة لك منه!
أعلم أن الأوهام كثيرة وكثيفة وهي بالضبط سبب وجودي على هذا النحو! أعني متوسلاً بسحر الكلمات في استحلاب كيمياء الخروج من المآزق التي تتسنم صحوي بغتةً وتسلبني هجودي.
لاشك عندي أن الكلمات تتفاعل فتقدح كلمةٌ ما شرارةً بجوار كلمة أخرى. ويقولون لك في البدء كان الكلمة. الخلق نفسه كلمة آمرة: كن فيكون!
كان والدي تُسكره مخافة الله فيعلو صوته، في جوف الليل، بالتسبيح وينخفض. أكتشف أحياناً، عندما يعلو صوته، أنه زاوج جملتين أو عبارتين من تسبيحتين مختلفتين زواجاً يمنحه ضحكاً كالثغاء! كنت أعرف من عمر صغير أن الفرح العظيم ما هو إلاّ ضجيج تنتجه كلمة هامسة!
بعد انتهاء العمل، عدت إلى البيت بلا هدف. تصوّر أن يحتاج المرء لهدف كي يعود لبيته!
ليس هناك ما ينتظرني أن أعمله!
في الحقيقة صرت أكره هذا البيت لأن العفاريت التي تساكنني إياه قد شلها تماماً تجاهلي لها.
تدري أن العفاريت تفقد قدراتها عندما تكون في حالة غيظ؟
فالبيت أصبح خلواً من البهلوانيات. اللوحة على جدار غرفتي لشاحنة ضخمة لا يمنعك من
الفرار من أمامها إلاّ تذكرك أنها صورة وبوقها ذلك الذي لا يماثله إلاّ بوق القيامة!
الأبجورات، الإرث البائس من عشيقة رومانسية راحلة، عندما تبدأ مصابيحها في غناء ماجن.
المكنسة الكهربائية التي تعترضني كل صباح وهي لم تعد تعرف الكهرباء، كل هؤلاء رجعوا
إلى سكونهم. إنكفأوا أدواتٍ ساكنات بفعل عدم فاعلية العفاريت.
قرأت في بعض كتب الأساطير أن غيظ العفاريت يستغرقها زمناً طويلاً. هذا إذا لم تخرج منه
أوهن من أن تقض مضجعك.
لاحظت وأنا أعبر الممر الضيق المؤدي لباب بيتي أن هناك شاحنة تقف في موقف جارتي.
تذكرت اتفاقها معي لتوسيع موقفها والذي مر عليه صيفان. فهي تريده أن يسع جميع أحجام
السيارات.
لوحة الشاحنة كانت تحمل العدد 13 يجاوره رسم لعلم أحمر تتوسطه جمجمة بيضاء بمحجرٍ واحد أسود!
أصحكني أن الجمجمة تبدو كأنها تغمز لك بمحجر واحد. توقفت واقتربت من اللوحة.
الفكرة لا بأس بها فهي تفترض أن جمجمة رجل أعوّر قد يكون فيها محجر واحد وليس إثنان.
ركلت اطار عجل الشاحنة الخلفي وأنا أضحك ثم خطر لي أن أدور حول الشاحنة لأتأكد أن المساحة
التي تشغلها لا تشمل من موقف سيارتي (ليس لي سيارة بعد) أكثر مما اتفقنا عليه أنا وجارتي. وقبل أن أمضي نحو بابي وافتحه، قبل أن أدخل عرين الملل، لفتني شيئ ما. الرجل في البيت البعيد عبر الطريق.
الرجل البائس الذي يخرج ليدخن وتتابعه زوجه العجوز من وراء ستارة نافذتها دون أن تراه.
لا أظنه ينظر لي.
لست موسوساً ولكن هو دائماً يعطيني احساساً بفداحة من نوع ما ولا يزال، برغم أنني عندما التقيت زوجه مسز هورفاس في آخر مرة بالمتجر القريب شرحت لي أنه في المرحلة الأخيرة من سرطان الرئة وأنها صارت لا تبالي بتدخينه ولكنها لم تشرح لي لماذا تطل هي من نافذتها كلما خرج هو للتدخين لأنني كنت متأكداً أن إطلالتها لا معنى لها لأنها لا تراه من النافذة. والسيدة هورفاس هذه تتمتع بعنصرية مراوغة بحيث لا يصلح ما تذكره من كلامها أن يكون مثالاً على عنصريتها لكنك تحسه في وجودها!
دخلت، خلعت، أكلت، رقدت، صحوت. نسيت أن أنصب الكاميرا لأصوّرني في الفعل مابين رقدت وصحوت لأن من الدجل أن أطلق عليه صفة النوم! أدرت جهاز الراديو. كان المذيع يحكي بوجل لا يحتاجه الأمر أن أحدهم قتل جندياً وانتزع قلبه وأكله على رؤوس الأشهاد. لأ! قال على مرأى من آخرين يهللون له!
استبشرت من الإثارة الصاعدة التي يسببها خبرٌ كهذا يُلقى على مسامع شخص أعزب. بدا لي كأن اوان فكاك العفاريت من غيظها قد حان!
بحثت عن علبة السجاير وقنينة النبيذ.
لا أتوقف عن نسيان أين وضعتهما آخر مرة.
قادني بحثي لما وراء ستارة النافذة الزجاجية التي تطل على مدخل جارتي كريستي.
كانت الشاحنة قد غادرت وكان باب الجارة موارباً. تمنيت لو أنني حضرتها وهي تخرج لوداع ضيفها فهي الحالة الوحيدة التي أحس بها فيها!
ألتقيها أحياناً في تحايا الصباح، في عجالات التدخين أو قطع الشواء الصيفية لكنها لا تبدو لي إلاّ عندما أراها تخرج في وداع شخص من شخوصها الكثر. حينها يبدو منظرها مدروساً ومعدّاً. فتخرج هكذا وملؤها حياة.
مرة خرجتْ وفي رأسها أذنا أرنب وكانت تودع شخصاً أذناه أذنا أرنب!
دعك من خروجها العاري!
مهما كان أحسها فقط في مشاهد الوداع. تبدو شهية وقاصدة. وربما كان هذا سبباً لتهربي من الاقتراب منها أكثر.
إذ لا يمكن أن ترتبط بشخص لا تحس به إلاّ في لحظة معينة مسيّجة بفرادتها! وقد تكون لحظة نادرة.
أتصوّر لو أن زوّارها انقطعوا نهائياً بحيث لا أحس بها فغالباً تكون قد ماتت. وهنالك عدة نقاط انطلاق لشرح هذه النظرة لها قائمة كلها على أنْ لا بد أن يتبنى المرء فكرةً ما كي يدافع عنها يوماً.
أولاً، هب أن زوارها لم ينقطعوا عنها لكنها، لسبب أو آخر، لم تعد قادرة على الخروج معهم فأين مشهدي الأثير هنا الذي شرحته آنفاً؟
ثانياً، هي لديها ما يكفي من الزوار لاشعال الحس بها ولكن كيف أضمن عدم إختفاء بعضهم جراء بروزي في المشهد؟
ثالثاً يمكنني احسان استقبال أصدقائها وحثهم على أن يصطحبوا معهم معارفهم في المرات القادمة ولكن كيف أضمن أن لا يشغلني أحد عن مشهد الوداع. رابعاً كيف سنتفق على أن يحتفظ كل منا ببيته لأن هناك زاويا رائعة أراها فيها من نوافذ بيتي!
أحضرت قدحاً فارغاً صببت فيه من قنينة النبيذ وأشعلت سيجارة. ثم أكملت طقسي بالتهالك على مقعدي الوثير أمام التلفاز المغلق منذ حين وجهاز الراديو المعلق على الجدار فوقي تأتيني منه أصوات البعض يتسامرون.
طعم النبيذ جَسّدَ لي معنى الغش الصدئ والسيجارة التي تحمل علبتها رسماً مقارباً لما رأيته على لوحة الشاحنة، وأفظع منه بالتأكيد لأن وزارة الصحة حريصة على تصوير دنو المدخنين من الموت كأنما هو دنو الموت من المدخنين (هنالك فرق) وبرسومات رخيصة طابعها الرعب فهم لا يضعون، مثلاً، صورة انسان سعيد يقول إنه ترك التدخين.
السيجارة لم يكن أثر دخانها أقل من طعنة غادرة من الخلف!
تذكرتُ ففكرتُ أن أبحث في الراديو عن محطة اف ام قال لي أحد زبائني في العمل أنها الأحسن في متابعة أحوال وأخبار الشياطين وعلى الأقل لأن المتحدثين في المحطة الحالية بدا لي، من ضجري، أنهم يهرفون بما لا يعرفون. فقمت وأدرت المؤشر مبتعداً عنهم لأكتشف أنني لم آخذ من زبوني رقم المحطة. عدت بعد قليل لمحطتي التي برحتها لأول مرة منذ ان اختفت ريتا من حياتي وكانت تقول
إنني لا أجيد حتى اختيار محطات الراديو!
ألفيت المذيع يتم قراءة خبرٍ بنبرة صارمة:.... عصر اليوم ونناشد المواطنين التبليغ عن شاحنة تحمل الرقم 13 وبجواره علم أحمر تتوسط..
هرعت بحذر إلى النافذة. ومن فرجة في الستارة رأيت رجال الشرطة في كل زاوية ممكنة. وبعضهم بدا كأنه يريد أن يلف المكان كله بأشرطة صفراء. ولم يمض زمن طويل كي أوقن أن هناك فعلاً زوايا لا يمكنك أن ترى منها رجال الشرطة لأنني سمعت طرقاً على بابي!
تقدمت نحو الباب وأنا أستذكر شيئاً من لغة الجسد فإعترضتني المكنسة الكهربائية حتى كدت أسقط. تخطيتها وشرعت في معالجة المزلاج الداخلي للباب وبعد جهد غير متوقع فتحت الباب.
كان ثلاثة من رجال الشرطة في وجهي تماماً.
انعقد لساني وهم لم يبادروا بتحيتي.
تعثرت فجأة كأن أحداً دفعني من الخلف ثم انصفع الباب خلفي وأشتعلت جميع المصابيح في بيتي:
سألني الشرطي:هل معك أحد في البيت؟
أجبته بلا مصحوبة بلغة جسد ركيكة وكان عليّ أن أختار موضوعاً لحيرتي.
عودة الشياطين أم مشهد السيد هورافس بين عدد من أفراد الشرطة ومعه زوجه المراوغة بسيجارة مشتعلة في يده وابتسامة غامضة في فمها وهما يشيران نحوي.
كان أحدهم قد قتل كريستي عصر ذلك اليوم!!.
دي جافو!
أحسستُ، من وقع العبارة، كأنني بددتُ نشوة، أو خُلسة كهروكيمائية تكاد لا يكون لها زُهاء.
توقفت عن عملي لأعرف أي الكلمتين كانت مصدر هذه اللمحة السرية العامودية المفاجئة، مستبعداً تماماً إسهام صوت المذيع في هذه الصَعدة الميمونة فهو لا يصلح لأن يقرأ عليك ولا حتى نصَ حلمٍ لا ذاكرة لك منه!
أعلم أن الأوهام كثيرة وكثيفة وهي بالضبط سبب وجودي على هذا النحو! أعني متوسلاً بسحر الكلمات في استحلاب كيمياء الخروج من المآزق التي تتسنم صحوي بغتةً وتسلبني هجودي.
لاشك عندي أن الكلمات تتفاعل فتقدح كلمةٌ ما شرارةً بجوار كلمة أخرى. ويقولون لك في البدء كان الكلمة. الخلق نفسه كلمة آمرة: كن فيكون!
كان والدي تُسكره مخافة الله فيعلو صوته، في جوف الليل، بالتسبيح وينخفض. أكتشف أحياناً، عندما يعلو صوته، أنه زاوج جملتين أو عبارتين من تسبيحتين مختلفتين زواجاً يمنحه ضحكاً كالثغاء! كنت أعرف من عمر صغير أن الفرح العظيم ما هو إلاّ ضجيج تنتجه كلمة هامسة!
بعد انتهاء العمل، عدت إلى البيت بلا هدف. تصوّر أن يحتاج المرء لهدف كي يعود لبيته!
ليس هناك ما ينتظرني أن أعمله!
في الحقيقة صرت أكره هذا البيت لأن العفاريت التي تساكنني إياه قد شلها تماماً تجاهلي لها.
تدري أن العفاريت تفقد قدراتها عندما تكون في حالة غيظ؟
فالبيت أصبح خلواً من البهلوانيات. اللوحة على جدار غرفتي لشاحنة ضخمة لا يمنعك من
الفرار من أمامها إلاّ تذكرك أنها صورة وبوقها ذلك الذي لا يماثله إلاّ بوق القيامة!
الأبجورات، الإرث البائس من عشيقة رومانسية راحلة، عندما تبدأ مصابيحها في غناء ماجن.
المكنسة الكهربائية التي تعترضني كل صباح وهي لم تعد تعرف الكهرباء، كل هؤلاء رجعوا
إلى سكونهم. إنكفأوا أدواتٍ ساكنات بفعل عدم فاعلية العفاريت.
قرأت في بعض كتب الأساطير أن غيظ العفاريت يستغرقها زمناً طويلاً. هذا إذا لم تخرج منه
أوهن من أن تقض مضجعك.
لاحظت وأنا أعبر الممر الضيق المؤدي لباب بيتي أن هناك شاحنة تقف في موقف جارتي.
تذكرت اتفاقها معي لتوسيع موقفها والذي مر عليه صيفان. فهي تريده أن يسع جميع أحجام
السيارات.
لوحة الشاحنة كانت تحمل العدد 13 يجاوره رسم لعلم أحمر تتوسطه جمجمة بيضاء بمحجرٍ واحد أسود!
أصحكني أن الجمجمة تبدو كأنها تغمز لك بمحجر واحد. توقفت واقتربت من اللوحة.
الفكرة لا بأس بها فهي تفترض أن جمجمة رجل أعوّر قد يكون فيها محجر واحد وليس إثنان.
ركلت اطار عجل الشاحنة الخلفي وأنا أضحك ثم خطر لي أن أدور حول الشاحنة لأتأكد أن المساحة
التي تشغلها لا تشمل من موقف سيارتي (ليس لي سيارة بعد) أكثر مما اتفقنا عليه أنا وجارتي. وقبل أن أمضي نحو بابي وافتحه، قبل أن أدخل عرين الملل، لفتني شيئ ما. الرجل في البيت البعيد عبر الطريق.
الرجل البائس الذي يخرج ليدخن وتتابعه زوجه العجوز من وراء ستارة نافذتها دون أن تراه.
لا أظنه ينظر لي.
لست موسوساً ولكن هو دائماً يعطيني احساساً بفداحة من نوع ما ولا يزال، برغم أنني عندما التقيت زوجه مسز هورفاس في آخر مرة بالمتجر القريب شرحت لي أنه في المرحلة الأخيرة من سرطان الرئة وأنها صارت لا تبالي بتدخينه ولكنها لم تشرح لي لماذا تطل هي من نافذتها كلما خرج هو للتدخين لأنني كنت متأكداً أن إطلالتها لا معنى لها لأنها لا تراه من النافذة. والسيدة هورفاس هذه تتمتع بعنصرية مراوغة بحيث لا يصلح ما تذكره من كلامها أن يكون مثالاً على عنصريتها لكنك تحسه في وجودها!
دخلت، خلعت، أكلت، رقدت، صحوت. نسيت أن أنصب الكاميرا لأصوّرني في الفعل مابين رقدت وصحوت لأن من الدجل أن أطلق عليه صفة النوم! أدرت جهاز الراديو. كان المذيع يحكي بوجل لا يحتاجه الأمر أن أحدهم قتل جندياً وانتزع قلبه وأكله على رؤوس الأشهاد. لأ! قال على مرأى من آخرين يهللون له!
استبشرت من الإثارة الصاعدة التي يسببها خبرٌ كهذا يُلقى على مسامع شخص أعزب. بدا لي كأن اوان فكاك العفاريت من غيظها قد حان!
بحثت عن علبة السجاير وقنينة النبيذ.
لا أتوقف عن نسيان أين وضعتهما آخر مرة.
قادني بحثي لما وراء ستارة النافذة الزجاجية التي تطل على مدخل جارتي كريستي.
كانت الشاحنة قد غادرت وكان باب الجارة موارباً. تمنيت لو أنني حضرتها وهي تخرج لوداع ضيفها فهي الحالة الوحيدة التي أحس بها فيها!
ألتقيها أحياناً في تحايا الصباح، في عجالات التدخين أو قطع الشواء الصيفية لكنها لا تبدو لي إلاّ عندما أراها تخرج في وداع شخص من شخوصها الكثر. حينها يبدو منظرها مدروساً ومعدّاً. فتخرج هكذا وملؤها حياة.
مرة خرجتْ وفي رأسها أذنا أرنب وكانت تودع شخصاً أذناه أذنا أرنب!
دعك من خروجها العاري!
مهما كان أحسها فقط في مشاهد الوداع. تبدو شهية وقاصدة. وربما كان هذا سبباً لتهربي من الاقتراب منها أكثر.
إذ لا يمكن أن ترتبط بشخص لا تحس به إلاّ في لحظة معينة مسيّجة بفرادتها! وقد تكون لحظة نادرة.
أتصوّر لو أن زوّارها انقطعوا نهائياً بحيث لا أحس بها فغالباً تكون قد ماتت. وهنالك عدة نقاط انطلاق لشرح هذه النظرة لها قائمة كلها على أنْ لا بد أن يتبنى المرء فكرةً ما كي يدافع عنها يوماً.
أولاً، هب أن زوارها لم ينقطعوا عنها لكنها، لسبب أو آخر، لم تعد قادرة على الخروج معهم فأين مشهدي الأثير هنا الذي شرحته آنفاً؟
ثانياً، هي لديها ما يكفي من الزوار لاشعال الحس بها ولكن كيف أضمن عدم إختفاء بعضهم جراء بروزي في المشهد؟
ثالثاً يمكنني احسان استقبال أصدقائها وحثهم على أن يصطحبوا معهم معارفهم في المرات القادمة ولكن كيف أضمن أن لا يشغلني أحد عن مشهد الوداع. رابعاً كيف سنتفق على أن يحتفظ كل منا ببيته لأن هناك زاويا رائعة أراها فيها من نوافذ بيتي!
أحضرت قدحاً فارغاً صببت فيه من قنينة النبيذ وأشعلت سيجارة. ثم أكملت طقسي بالتهالك على مقعدي الوثير أمام التلفاز المغلق منذ حين وجهاز الراديو المعلق على الجدار فوقي تأتيني منه أصوات البعض يتسامرون.
طعم النبيذ جَسّدَ لي معنى الغش الصدئ والسيجارة التي تحمل علبتها رسماً مقارباً لما رأيته على لوحة الشاحنة، وأفظع منه بالتأكيد لأن وزارة الصحة حريصة على تصوير دنو المدخنين من الموت كأنما هو دنو الموت من المدخنين (هنالك فرق) وبرسومات رخيصة طابعها الرعب فهم لا يضعون، مثلاً، صورة انسان سعيد يقول إنه ترك التدخين.
السيجارة لم يكن أثر دخانها أقل من طعنة غادرة من الخلف!
تذكرتُ ففكرتُ أن أبحث في الراديو عن محطة اف ام قال لي أحد زبائني في العمل أنها الأحسن في متابعة أحوال وأخبار الشياطين وعلى الأقل لأن المتحدثين في المحطة الحالية بدا لي، من ضجري، أنهم يهرفون بما لا يعرفون. فقمت وأدرت المؤشر مبتعداً عنهم لأكتشف أنني لم آخذ من زبوني رقم المحطة. عدت بعد قليل لمحطتي التي برحتها لأول مرة منذ ان اختفت ريتا من حياتي وكانت تقول
إنني لا أجيد حتى اختيار محطات الراديو!
ألفيت المذيع يتم قراءة خبرٍ بنبرة صارمة:.... عصر اليوم ونناشد المواطنين التبليغ عن شاحنة تحمل الرقم 13 وبجواره علم أحمر تتوسط..
هرعت بحذر إلى النافذة. ومن فرجة في الستارة رأيت رجال الشرطة في كل زاوية ممكنة. وبعضهم بدا كأنه يريد أن يلف المكان كله بأشرطة صفراء. ولم يمض زمن طويل كي أوقن أن هناك فعلاً زوايا لا يمكنك أن ترى منها رجال الشرطة لأنني سمعت طرقاً على بابي!
تقدمت نحو الباب وأنا أستذكر شيئاً من لغة الجسد فإعترضتني المكنسة الكهربائية حتى كدت أسقط. تخطيتها وشرعت في معالجة المزلاج الداخلي للباب وبعد جهد غير متوقع فتحت الباب.
كان ثلاثة من رجال الشرطة في وجهي تماماً.
انعقد لساني وهم لم يبادروا بتحيتي.
تعثرت فجأة كأن أحداً دفعني من الخلف ثم انصفع الباب خلفي وأشتعلت جميع المصابيح في بيتي:
سألني الشرطي:هل معك أحد في البيت؟
أجبته بلا مصحوبة بلغة جسد ركيكة وكان عليّ أن أختار موضوعاً لحيرتي.
عودة الشياطين أم مشهد السيد هورافس بين عدد من أفراد الشرطة ومعه زوجه المراوغة بسيجارة مشتعلة في يده وابتسامة غامضة في فمها وهما يشيران نحوي.
كان أحدهم قد قتل كريستي عصر ذلك اليوم!!.