عثرتُ على وثيقة تاريخية مثغورة. أكلت الأرضةُ حواشيَها ووسطها. تمكّنت من ملء ثغراتها بمعونة صديق متخصّص في التّاريخ. كتبها مؤرّخ مجهول، فقال: وردت على عامل حاضرة شرق المملكة الشّريفة؛ «وجدة» رسالة استفسار من السّلطان بالحضرة العليّة «فاس» العامرة:
«الحمد لله والصّلاة والسّلام على مولانا رسول الله. إلى خديمنا الأَرْضَى عاملِ «وجدة» المحروسةِ بعناية الله تعالى. سلام عليك ورحمته تعالى وبركاته. علمناك رجلا محنّكا عدلا عارفا بأمور السّياسة. تجمع بين الشّدّة والهوادة. علمناك حليما لا تضع سيفك حيث يكفيك سوطُك ولا تضع سوطَك حيث يكفيك لسانُك، فأنت تحافظ على «شعرة معاويةَ» ما استطعت في سياسة من ولّيناك أمرهَم من رعايانا بتلك التّخوم الشّرقية المحروسة بعناية الله. هذا بشهادة الجميع هنا وهناك، لكن قد ورد علينا كتاب من «عين» لنا عليك يذكر فيه حادثةَ وفاة الشّيخ الملقّب عندكم ب«البحر» بين يديك نتيجة ضربه ضربا مُبَرِّحًا. إنّ قتله كان منك خِطأً كبيرا وإنّه جرمٌ ستحاسب عليه ب«التّتريك»، حيث سنُعطّل العمالةَ من رياستك ونحطّ عنها ثقل سياستك ونَحْمِلُكَ على قيد الحديد كما تعلم.
ما ولّيناك أمر البلاد والعباد من تلك التّخوم الشّرقية لتقتلَ النّاس وتثيرَ الفتن.
اعلم يرحمك الله بأنّنا لن نتسرّع في معاقبتك بما سلف ذكره حتّى نسمع منك. ارفع لنا كتابا مفصّلا عن الواقعة وافيا. والسّلام».
جمع «العامل» مستشاريه من أهل الحلّ والعقد وقرأ عليهم الرّسالة السّلطانيّة. تناقشوا حول ما جاء فيها وتوافقوا على رأي موحّد تكفّل «العامل» برفعه إلى السّلطان. طلب من «صاحب القلم» كتابة ردّ جاء فيه: «الحمد لله والصّلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على مولانا رسول الله. مولاي السّلطان! ما جاء في كتاب «عينكم» علينا غيرَ تامّ. أمرنا نحن «عاملُ» «وجدةَ» وما والاها بمعاقبة الشّيخ الملقّبِ في حياته ب«البحر» بضربه ثلاثين سوطا ولم نزد، عقابا له على خمس زلّات؛ فأمّا الزّلة الأوّلى، تعدّيه على الإفتاء في نازلة نزلت بالقوم توزّعوا في الاختلاف حولها أوزاعا. وكنّا قد استفتينا فيها مفتي الحضرة العليّة، فأفتانا بفتوى شافية وبالغرض وافية. رفضها الهالك ممّا أجّج النّفور بين القوم وتصدّعت جماعتهم التي هي فرض عين. فأمّا الزّلة الثّانية، لم يأخذ تحذيرنا له عن زلّته الأوّلى وركب رأسه وتمادى في غيّه حين أسقط الدّعاء لجلالتكم دبر كلّ صلاة راتبة وأبقى عليها دبر خطبة الجمعة فقط. وهذا بشهادة الأشهاد الذين ستجدون أسماءهم مذيّلةً في هذا الكتاب. فأمّا الزّلة الثّالثة، ادّعاؤه النّسب الشّريف. ونحن نعلم بأنّه مدخول النّسبِ مشوب الحسبِ من «تربية القاضي». عاش صغره وشبابه رِطاؤه الغبراء وغطاؤه الخضراء. فأمّا الزّلة الرّابعة، إدّعاؤه «المشيخة» حيث بنى لنفسه مقرّا سمّاه ب«المُقام» يشبه مسجد «ضرار». التفّ حوله الرُّعاع والسّوقة والدّراويش والخرّاصون وأصحاب «خرق العادة» من الدّجالين. ضربوا له أكباد الدّوّاب زرافات وفردانا. أتوه من كلّ أَوْبِ وجاءوه من كلّ سهب. قصبوا أهل السنّة والجماعة ورجموهم بمراجمَ قبيحة وشتموهم بما فيه الفضيحة، فسادت البغضاء والإحنة بينهم وبين من خالفهم في معتقدهم، فتشاحنوا وتضاغنوا وتدابروا وتشاجروا. وقد ظهر من ذلك الفساد في جهتنا بما كسبت أيدي هؤلاء يا مولاي. ومخافةَ أن تذهب ريحنا، أمرنا بهدم المقرّ على رأس هذا الفتّان ورؤوس أصحابه. قمنا بذلك حين رأينا العجب العجاب فيما ابتدعوه بناديهم حيث صدق فيهم قوله تعالى (فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). نجا الشّيخ من الدّمار، فحبسناه بسجن القلعة.
حمدنا الله تعالى أن كشف لنا أمره وهتك لنا ستره. و(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يا مولاي.
فأمّا الزّلة الخامسة فهي الرّسالة التي كتبها لكم وأرسلها إلينا مع أحد أتباعه وطلب منّا إرسالها في بريدنا إليكم. قرأناها، فوجدنا فيها من الوقاحة التي ظنّها هو صراحة الشّيء الكثير. أخفينا أمرها عنكم؛ لأنّه لا يجوز أن تسمعوا ما جاء فيها من هذا الفتّان.
حبسناه بعد استشارة المستشارين من «القاضي» و«المحتسب» و«صاحب الشّرطة» وقائد الحامية العسكريّة مخافة الفتنة والفتّانين لعنهم الله من هذه الجهة من التّخوم المحروسة من العدوّ المتربّص بها من الشّرق والشّمال بعد وقعة «إسلي» التي قصمت ظهرنا وعرّت سوأتنا.
حللنا أصفاده ورفعنا أقياده بعد شهر. وامتحنّاه بحضور أهل الحلّ والعقد، لكنّه أصرّ على تماديه في غيّه، فأمرنا بضربه. ورمينا الإباض في يديه والقيد في رجليه والإسار في عنقه. وبعد أسبوع نعاه لنا كبير السّجّانين.
اضطررنا إلى معاقبة هذا الفتّان الذي اقتدحَ نارَ فتنةٍ صمّاءَ عمياءَ دهماءَ مظلمةَ الأحشاء. أثار نقعها بأفكاره، فانتشر شررها وكثر ضررها حيث رأينا أنّه لا سبيل لإطفائها إلاّ بضربه وحبسه. وبعقابه جعلنا منه مثالا حديثا للغابرين، ومثلا للسّائرين. ولم تكن لنا نية قتله يا مولاي، ف«ضربناه لذنبه ومَاتَ لِأَجَلِهِ». والسّلام على السُّدّة العالية بالله».
محمد مباركي
«الحمد لله والصّلاة والسّلام على مولانا رسول الله. إلى خديمنا الأَرْضَى عاملِ «وجدة» المحروسةِ بعناية الله تعالى. سلام عليك ورحمته تعالى وبركاته. علمناك رجلا محنّكا عدلا عارفا بأمور السّياسة. تجمع بين الشّدّة والهوادة. علمناك حليما لا تضع سيفك حيث يكفيك سوطُك ولا تضع سوطَك حيث يكفيك لسانُك، فأنت تحافظ على «شعرة معاويةَ» ما استطعت في سياسة من ولّيناك أمرهَم من رعايانا بتلك التّخوم الشّرقية المحروسة بعناية الله. هذا بشهادة الجميع هنا وهناك، لكن قد ورد علينا كتاب من «عين» لنا عليك يذكر فيه حادثةَ وفاة الشّيخ الملقّب عندكم ب«البحر» بين يديك نتيجة ضربه ضربا مُبَرِّحًا. إنّ قتله كان منك خِطأً كبيرا وإنّه جرمٌ ستحاسب عليه ب«التّتريك»، حيث سنُعطّل العمالةَ من رياستك ونحطّ عنها ثقل سياستك ونَحْمِلُكَ على قيد الحديد كما تعلم.
ما ولّيناك أمر البلاد والعباد من تلك التّخوم الشّرقية لتقتلَ النّاس وتثيرَ الفتن.
اعلم يرحمك الله بأنّنا لن نتسرّع في معاقبتك بما سلف ذكره حتّى نسمع منك. ارفع لنا كتابا مفصّلا عن الواقعة وافيا. والسّلام».
جمع «العامل» مستشاريه من أهل الحلّ والعقد وقرأ عليهم الرّسالة السّلطانيّة. تناقشوا حول ما جاء فيها وتوافقوا على رأي موحّد تكفّل «العامل» برفعه إلى السّلطان. طلب من «صاحب القلم» كتابة ردّ جاء فيه: «الحمد لله والصّلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على مولانا رسول الله. مولاي السّلطان! ما جاء في كتاب «عينكم» علينا غيرَ تامّ. أمرنا نحن «عاملُ» «وجدةَ» وما والاها بمعاقبة الشّيخ الملقّبِ في حياته ب«البحر» بضربه ثلاثين سوطا ولم نزد، عقابا له على خمس زلّات؛ فأمّا الزّلة الأوّلى، تعدّيه على الإفتاء في نازلة نزلت بالقوم توزّعوا في الاختلاف حولها أوزاعا. وكنّا قد استفتينا فيها مفتي الحضرة العليّة، فأفتانا بفتوى شافية وبالغرض وافية. رفضها الهالك ممّا أجّج النّفور بين القوم وتصدّعت جماعتهم التي هي فرض عين. فأمّا الزّلة الثّانية، لم يأخذ تحذيرنا له عن زلّته الأوّلى وركب رأسه وتمادى في غيّه حين أسقط الدّعاء لجلالتكم دبر كلّ صلاة راتبة وأبقى عليها دبر خطبة الجمعة فقط. وهذا بشهادة الأشهاد الذين ستجدون أسماءهم مذيّلةً في هذا الكتاب. فأمّا الزّلة الثّالثة، ادّعاؤه النّسب الشّريف. ونحن نعلم بأنّه مدخول النّسبِ مشوب الحسبِ من «تربية القاضي». عاش صغره وشبابه رِطاؤه الغبراء وغطاؤه الخضراء. فأمّا الزّلة الرّابعة، إدّعاؤه «المشيخة» حيث بنى لنفسه مقرّا سمّاه ب«المُقام» يشبه مسجد «ضرار». التفّ حوله الرُّعاع والسّوقة والدّراويش والخرّاصون وأصحاب «خرق العادة» من الدّجالين. ضربوا له أكباد الدّوّاب زرافات وفردانا. أتوه من كلّ أَوْبِ وجاءوه من كلّ سهب. قصبوا أهل السنّة والجماعة ورجموهم بمراجمَ قبيحة وشتموهم بما فيه الفضيحة، فسادت البغضاء والإحنة بينهم وبين من خالفهم في معتقدهم، فتشاحنوا وتضاغنوا وتدابروا وتشاجروا. وقد ظهر من ذلك الفساد في جهتنا بما كسبت أيدي هؤلاء يا مولاي. ومخافةَ أن تذهب ريحنا، أمرنا بهدم المقرّ على رأس هذا الفتّان ورؤوس أصحابه. قمنا بذلك حين رأينا العجب العجاب فيما ابتدعوه بناديهم حيث صدق فيهم قوله تعالى (فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). نجا الشّيخ من الدّمار، فحبسناه بسجن القلعة.
حمدنا الله تعالى أن كشف لنا أمره وهتك لنا ستره. و(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) يا مولاي.
فأمّا الزّلة الخامسة فهي الرّسالة التي كتبها لكم وأرسلها إلينا مع أحد أتباعه وطلب منّا إرسالها في بريدنا إليكم. قرأناها، فوجدنا فيها من الوقاحة التي ظنّها هو صراحة الشّيء الكثير. أخفينا أمرها عنكم؛ لأنّه لا يجوز أن تسمعوا ما جاء فيها من هذا الفتّان.
حبسناه بعد استشارة المستشارين من «القاضي» و«المحتسب» و«صاحب الشّرطة» وقائد الحامية العسكريّة مخافة الفتنة والفتّانين لعنهم الله من هذه الجهة من التّخوم المحروسة من العدوّ المتربّص بها من الشّرق والشّمال بعد وقعة «إسلي» التي قصمت ظهرنا وعرّت سوأتنا.
حللنا أصفاده ورفعنا أقياده بعد شهر. وامتحنّاه بحضور أهل الحلّ والعقد، لكنّه أصرّ على تماديه في غيّه، فأمرنا بضربه. ورمينا الإباض في يديه والقيد في رجليه والإسار في عنقه. وبعد أسبوع نعاه لنا كبير السّجّانين.
اضطررنا إلى معاقبة هذا الفتّان الذي اقتدحَ نارَ فتنةٍ صمّاءَ عمياءَ دهماءَ مظلمةَ الأحشاء. أثار نقعها بأفكاره، فانتشر شررها وكثر ضررها حيث رأينا أنّه لا سبيل لإطفائها إلاّ بضربه وحبسه. وبعقابه جعلنا منه مثالا حديثا للغابرين، ومثلا للسّائرين. ولم تكن لنا نية قتله يا مولاي، ف«ضربناه لذنبه ومَاتَ لِأَجَلِهِ». والسّلام على السُّدّة العالية بالله».
محمد مباركي
مَاتَ لِأَجَلِهِ..قصة: محمد امباركي
عثرتُ على وثيقة تاريخية مثغورة. أكلت الأرضةُ حواشيَها ووسطها. تمكّنت من ملء ثغراتها بمعونة صديق متخصّص في التّاريخ. كتبها مؤرّخ مجهول، فقال: وردت على عامل حاضرة شرق المملكة الشّريفة؛ «وجدة» رسالة…
sadazakera.wordpress.com