الطيب صياد - العثمانية.. فصل من رواية

من ضمن الطبقة الفقيرة في تلك القرية كان سفيان الذي يدرس في الثانوية هذا العام لنيل شهادة البكالوريا، وكل القرية بالية الثياب ذات خروق لم ترقع منذ السبعينات، تشعر بالبرد و”غاز المدينة” تمرُّ أنابيبه على مقربة منهم لتصل الى روما عبر البحر الأبيض، وكان المسؤولون يؤكدون أن غاز المدينة أيسر مشروع يمكن توصيله وإنجازه ولكي حتى تكون هناك مدينة، فاقتنع الشعب بذلك، وقاموا باشتراء المكيفات عوضا عن ذلك، ولأنهم لا يسكنون مدينة.. وسفيان لا يعاني من هذه الحقوق المهضومة أكثر مما يعاني من الجوع الفكري الذي يتمتع به غالب المثقفين، فكان يخاطب نفسه “بالتأكيد لسنا الجيل الذي يقيم الحضارة العربية ويرجع بها الى المجد والعز؛ فنحن أحق ببطن الأرض، وأنا لا أرضى بهذه الصيغة التي نعيش وفقها، إنها حالة مرضية، بل قاتلة ….” وخلال ذلك قاطعه أبوه عامر قائلا: – وقت النوم طويل، وفي الحارة التحتانية يمكنك مشاركة الأصحاب في تنزيل الدقيق والفرينة لأجل مصروف الجيب، ولك أن تحضر ما تأمرك به أمك من حوائج البيت! – لست نائما أصلا يا أبي..
– إذن كان الأولى أن يغير شعرك مع الجماعة..
– سوف أفعل، وإنما آخذ نفسا عميقا.. كان سفيان به يدري أن اغبرار العقليات أشدُّ خطرا مما لو أصابه غبار في عينيه يمكث معه يوما أو يومين ….
5 -4 على متن الشاحنات (المان والشاكمان) كان رزق بعض العائلات، ليس في الكميات الهائلة من أكياس السميد، وإنما على ظهور الحمالين الذين تصلبت كواهلهم فأصبحت مكسوة بطبقة فولاذية شديدة، وتصلبت أيضا نفوسهم من أجل المعاناة وضيق الحال والتفقير الذي يمارسه عليهم أرباب المال الذين لم تفدهم رفاهيتهم إلا في التسلط والقهر الضعفاء، وكان حمال واحد يقدر على الإيقاع بالجماعة من المترفين لنعومة بشرتهم وطراوة تلك العظام الخشنة، ولا يمنع حصول ذلك إلا تأمين المصاريف اليومية، وسفيان يمكنه تحمل خشونة هذا العمل لأكثر من ساعتين في أربع أيام من الأسبوع، لأنه سيواجه ثقل الحمولة وغصة في حلقه وسذاجة المعاملة إلى خليط من النفسيات المنهكة والتناقضات المرسومة بخط غليظ..
– يا لك من نحيل، الا تأكل الخبز في حياتك؟!
– دعوه، إنه ما زال يدرس.. – إنه دكتور يجب أن نحترمه! مع ضحكة صفراء ساخرة …
هذا بعض ما يسمعه من تلك الجماعة، ولا شك أنه يعذرهم لانهم في حالة مزرية مثله تماما، لكنه لا يرد عليهم حتى لا يحبط، إنه في أشد الحاجة الى التوازن بين تفكيره البعيد والقريب. وقد كان يقرأ في صبيحة هذا اليوم قبل أن يذهب الى المدرسة، مجلة جزائرية تدعى (الإصلاح) واسترعى انتباهه مقالة يتكلم صاحبها عن الحقوق في الإسلام، وفيها مقالات أخرى متنوعة حسب العلوم الدينية الأخرى. لا يمكنه أن يخفي عن نفسه حين يقرأ هذه المجلة مدى إعجابه بالمنهجية العلمية التي تتسم بها مقالات الأستاذ محمد علي فركوس، وهو الذي يدرس في كلية العلوم الإسلامية :الخروبة بالعاصمة، فتختلط عليه العواطف: الدين، العلم، العاصمة، الشهرة …ثم تغيب جملة ويحل محلها “اشتغل بالكيس الذي تحمله، وغدا عندك فرض في مادة الاجتماعيات” مع أنه يكره الجغرافيا المقررة عليهم ويتساءل عن علاقته بالمحاصيل الزراعية في الصين وكم تنتج طن من الشاي الأخضر؟ ربما لأن اليد العاملة من دولة الصين في هذه السنوات الاخيرة قد توافدت على الجزائر بشكل متواتر مثير للاستغراب، وفوق كل ذلك تم مؤخرا عقد صفقة خطيرة وهي أن مسجد الجزائر الأعظم الذي توجد أرضيته بالمحمدية في العاصمة قد استحوذت6 عليه شركة صينية عملاقة، ونظرا لقلة اليد العاملة عندنا فيليق بنا استيراد كمية كبيرة من الصينين لتغطية العجز.. تكاد هذه الأفكار تدوخ سفيان، لأنه كان الأولى به الالتحاق بأفرقة العمل في المحمدية، والسبيل الى ذلك بالمعارف والوسائط الذين لهم أقدمية من (الزوفارة) وعشاق الميزيرية، أو كان الأحسن أن يواصل دراسته لنيل شهادة جامعية بعد 03 أو 04 سنوات وهي المدة التي برمجت فيها الشركة الصينية إتمام مشروع المسجد، ومن ثم سوف يتمكن من الحصول على وظيفة مناسبة في هذا الجامع الذي يضم مؤسسات علمية وثقافية ومكتبات وقاعات محاضرات وحتى موقف ضخم للسيارات بل مطاعم ومقاهي في صومعته التي يبلغ طولها المئتين متر قبالة وجه البحر…… ليس له من الأمر شيء، لأنه يعلم شبه اليقين أن والده لن يصبرا أربع سنوات ليتخرج سفيان من الجامعة ويبحث عن وظيفة وينفق عليه بعد ذلك، إضافة إلى الديون التي ترهق كاهله في الوقت الراهن، مع ما تتطلبه الدراسة الجامعية من نفقات عسيرة نوعا ما، كل ذلك يمنع التفكير في الجلوس على مقاعد نظيفة في المبنى الصيني أو حتى الصلاة فيه! بينما الحقيقة الوحيدة أن الانتهاء من تنزيل تلك الحمولة ونفض الأيدي ليس بالضرورة أن يرافقه أخذ الأجرة على وجه السرعة، فتماطل أصحاب الأموال والمحلات الكبيرة من شيماهم، ومَطْلُ الغنيِّ ظلم.7 -5 نزل سفيان من الشاحنة، وتوجه الى صاحب المحل حتى يستلم المبلغ، وهو يتراوح بين 400 دج حتى 600 دج، فوجد نفسه عند رجل نحيف أسمر، على عيونه هالة زرقاء يجب أن تكون من إدمان المشروبات الكحولية على الأقل أو من سرعة الغضب وانهيار الأعصاب الذي يسببه الشجار اليومي مع الحمالين ومع رب المال ومع سائر المستهلكين والزبائن، فهو يتعامل مع أصحاب الجملة ويبيع حتى بالتجزئة وهي ضرورة تمليها الحياة المتقشفة. كما أنه فَمَهُ يكتسي لونا رماديا مقززا، فشرب الدخان واستهلاك الشمة يعطيان ملامح مقرفة للشخص حتى أن فتاة شابة كانت جالسة في أحد مقاهي المحطة البرية بالخروبة، يظهر على وجهها الباهي آثار الزرقة لأن صاحبها قد أصرَّ على أن تكون مثله في كل شيء: في اللباس، هي تلبس كهيئة رعاة البقر (الكوبوي) وتسمع موسيقى الانجليزية، وكلما أنهت سيجارة الآل آم.. إلا وأحرقت أخرى تلوها، تستمع بذلك أم لا، فهذا حق الصداقة العصرية، وكذلك القهوة التي نشربها، فقط طلبت من النادل أن تكون ثقيلة، أي: بْيانْ سِيري… تماما مثل سروالها الضيق… اقترح سفيان على ما رأى من ذلك النحيف الذي دار به الحمالون، والتزموا السكوت بعد ما أحدثوا ضجة عارمة للمطالبة بالمال، فكان بعد ذلك ينتظرون ما سيقوله، لم يفهم سفيان شيئا… إلا انه يتوقع كل شيء، فمكان العمل ليس مؤسسة دولة، وإنما هو كساحة الموتادور الإسبانية، فنظر إلى نفسه “هل هو يلبس اللون الأحمر” أم أنه وقع في خطأ لا يمكن التغاضي عنه؟
– رقم هاتف النقال الخاص بوالدك..
– نعم سجل، قال سفيان – وقد تنفس قليلا
– صفر سبعة، اثنان وتسعون ….
– أتعرف أن على أبيك دينا لنا قصته 15000 دج؟(مليون وخمسمية).
– لا أدري أن والدي كان يصرف من عندكم، ولكن قد….
– ليست مشكلتي أن تشبع أنت ثم لا تدري من أين تأكل؟ سأتصل بأبيك وأخبرْه أنتَ حين أنت تصل الى المنزل… أضاف بلهجة غاضبة “اسمعْ، فلن تأخذ حقك اليوم حتى أستلم المبلغ الذي عليكم كاملا”
– ولكن ما دخلي أنا؟
– المهم، لا تكلمني أصلا حتى يتم سداد الدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى