اتذكر انني في الخامسة او السادسة عشر من عمري قررت كتابة رواية ؛ كانت فكرتها تدور حول اعلان الشيطان اعتزاله لعمله في اغواء البشر ، وتجسده على الارض في شكل كهل زاهد ... قرر الشيطان ان يهرب من لا عقلانيته عندما تحدى الإله ليكون احد احجار رقعة الشطرنج في السردية الوجودية. بالفعل استقال الشيطان من وظيفته واعلن توبته امام العالم البشري ، ثم اختار منطقة نائية بنى فيها صومعته واعتزل الناس. الا ان تداعيات ذلك الحدث كانت كالصاعقة على البشر ؛ حيث بات من الصعب على البشر اقتراف الذنوب والجرائم ؛ فقد انتهت الشماعة التي كانوا يعلقون عليها موبقاتهم. ونتيجة لذلك فقد حاول البشر اغواء الشيطان للعودة الى عمله السابق ، وعندما خابت محاولاتهم المتكررة قاموا بقتله.
غير أنني لم اكمل كتابة هذه الرواية؛ فلقد واجهتني في ذلك العهد صعوبة كبيرة جدا عرقلت تقدمي في الكتابة وكانت هذه الصعوبة تتمثل في لغة الكتابة. وعلى العكس مما قد يتصوره الناس فإن الصعوبة انبثقت عن تمسكي الشديد بالمقدس اللغوي ؛ او ما يسميه بعض الفلاسفة بأيدولوجيا اللغة ؛ حيث الالتزام المطلق بقواعد اللغة النحوية بالاضافة الى البلاغة بشتى صورها. وهكذا لم تستمر كتابتي للرواية واكتفيت بالقصص القصيرة ؛ وذلك لسببين ، اولاهما انني كنت قد قرأت الكثير من القصص القصيرة الروسية وكنت معجبا بها ، ومن ناحية ثانية لم يكن اتباع قواعد اللغة مرهقا ؛ حيث لا تتجاوز القصة القصيرة بضع صفحات يمكن الصبر عليها. استمر تشددي في الاهتمام باتباع الضوابط اللغوية الى ان قرأ- بعد سنتين - مقالا يتحدث عن الرواية عند نجيب محفوظ ؛ ومن ضمن ما اشار اليه كاتب المقال ؛ اللغة السهلة التي استخدمها نجيب محفوظ في كتابة الرواية. صديق اتحفني به الحظ في ذلك العمر الصغير كان شابا مصريا سودانيا خريج فلسفة وكنت في السابعة عشر من عمري ؛ لقد قدم لي محمد عبد الفتاح -وهذا هو اسمه- باكورة معرفتي بالروائي صنع الله ابراهيم ؛ وكذلك نجيب محفوظ ؛ كان يسلفني الرواية ثم يعود ويناقشني حول فهمي لها ؛ وهنا عرفت كيف تتم قراءة الرواية بعين أخرى بحيث ينصب الاهتمام على الرمز في السرد وليس بضوابط اللغة بشكل متطرف. تتحول اللغة الى ايدولوجيا ؛ ووفقا لتعريفي الشرطي للآيدولوجيا ؛ فهي ليست أكثر من تبني مطلق لمفاهيم محددة. فالايدولوجيا في الواقع يجب ان يوصف بها الشخص (كآيدولوجي) وليس المفهوم . يمكننا ان نلاحظ بشكل عام ان آيدولوجيا اللغة كانت تتجه نحو التخفف بشكل مستمر ؛ منذ الأدب الجاهلي وحتى اليوم ؛ ان الانسان عموما يتخفف من ضوابط اللغة ويتخلى عن آيدولوجيا اللغة بشكل مضطرد لحساب المضمون. أي انه يتخلى عن الجمالي الترستندتالي الى الجمالي الظاهراتي ، درجة من العقلانية الجمالية التي لا اعرف كيف ابسط شرح وعيي بها... لكنها على العموم هكذا. ربما كان من عوامل الدفع بهذا التخفيف الى الأمام هو جنوح رغبات العديد من الكتاب الى ترجمة اعمالهم. تعاني الترجمة من أزمة كبيرة ؛ وهي انها تمثل نصا آخر . هكذا يقولون ؛ ولذلك قد يعمد الروائي الى استخدام اسلوب لغوي سهل او على الأقل اقل تعقيدا دون ان يفقد توجهه الجمالي والفلسفي الذي يتغياه. ومع العولمة الثقافية التي نشهدها ، سيكون اهتمام الأدباء بتبادل منتجهم الابداعي على نطاق عالمي ، واسع ؛ مما يجبرهم على التقليل من التجريب اللغوي. وربما يشهد الادب بعد عقود تشاركا عالميا في المفردة حينما تتوحد تجربتنا الحياتية بشكل كبير. نحن نلاحظ مقدمات ذلك الآن ؛ فالتكنولوجيا منحت العالم لغة يتشاركها الجميع... او على الأقل مفردات مشتركة. اللغة الأداتية هي التحول الذي اتوقعه في المستقبل ؛ واللغة الأداتية هذه ستعمل على تحلل الآيدولوجيا لتفني النمطية الكلاسيكية بشكل متسارع. وبالاضافة الى التكنولوجيا ؛ فهناك ايضا العوامل الاقتصادية التي ستزيح الايدولوجيا اللغوية لعالم ينمو اقتصاديا بشكل متسارع ويخلق ثقافة الاستهلاك والوجبات المعرفية السريعة ، ستحتاج اللغة لأن تعبر فقط عما يمكن ان تستوعبه الغالبية ، ومن ناحية سيحتاج الكاتب الى ضغط ادواته اللغوية لأقصى حد ممكن. ربما لن يتحمل الانسان في اقتصاد الرأسمالية رواية كرواية الكريات الزجاجية لهيرمان هيسة والتي تتجاوز الستمائة صفحة ؛ ولا رواية الحرب والسلام التولستوية ؛ ولا رواية وراء الرغيف لمكسيم غوركي ؛ هذا النوع من الأدب غالبا ما سينقرض لتحل محله الروايات الصغيرة novella ، بلغة تفاوضية تملأ الفراغ بين المؤلف والقارئ محققة رضى الطرفين.
غير أنني لم اكمل كتابة هذه الرواية؛ فلقد واجهتني في ذلك العهد صعوبة كبيرة جدا عرقلت تقدمي في الكتابة وكانت هذه الصعوبة تتمثل في لغة الكتابة. وعلى العكس مما قد يتصوره الناس فإن الصعوبة انبثقت عن تمسكي الشديد بالمقدس اللغوي ؛ او ما يسميه بعض الفلاسفة بأيدولوجيا اللغة ؛ حيث الالتزام المطلق بقواعد اللغة النحوية بالاضافة الى البلاغة بشتى صورها. وهكذا لم تستمر كتابتي للرواية واكتفيت بالقصص القصيرة ؛ وذلك لسببين ، اولاهما انني كنت قد قرأت الكثير من القصص القصيرة الروسية وكنت معجبا بها ، ومن ناحية ثانية لم يكن اتباع قواعد اللغة مرهقا ؛ حيث لا تتجاوز القصة القصيرة بضع صفحات يمكن الصبر عليها. استمر تشددي في الاهتمام باتباع الضوابط اللغوية الى ان قرأ- بعد سنتين - مقالا يتحدث عن الرواية عند نجيب محفوظ ؛ ومن ضمن ما اشار اليه كاتب المقال ؛ اللغة السهلة التي استخدمها نجيب محفوظ في كتابة الرواية. صديق اتحفني به الحظ في ذلك العمر الصغير كان شابا مصريا سودانيا خريج فلسفة وكنت في السابعة عشر من عمري ؛ لقد قدم لي محمد عبد الفتاح -وهذا هو اسمه- باكورة معرفتي بالروائي صنع الله ابراهيم ؛ وكذلك نجيب محفوظ ؛ كان يسلفني الرواية ثم يعود ويناقشني حول فهمي لها ؛ وهنا عرفت كيف تتم قراءة الرواية بعين أخرى بحيث ينصب الاهتمام على الرمز في السرد وليس بضوابط اللغة بشكل متطرف. تتحول اللغة الى ايدولوجيا ؛ ووفقا لتعريفي الشرطي للآيدولوجيا ؛ فهي ليست أكثر من تبني مطلق لمفاهيم محددة. فالايدولوجيا في الواقع يجب ان يوصف بها الشخص (كآيدولوجي) وليس المفهوم . يمكننا ان نلاحظ بشكل عام ان آيدولوجيا اللغة كانت تتجه نحو التخفف بشكل مستمر ؛ منذ الأدب الجاهلي وحتى اليوم ؛ ان الانسان عموما يتخفف من ضوابط اللغة ويتخلى عن آيدولوجيا اللغة بشكل مضطرد لحساب المضمون. أي انه يتخلى عن الجمالي الترستندتالي الى الجمالي الظاهراتي ، درجة من العقلانية الجمالية التي لا اعرف كيف ابسط شرح وعيي بها... لكنها على العموم هكذا. ربما كان من عوامل الدفع بهذا التخفيف الى الأمام هو جنوح رغبات العديد من الكتاب الى ترجمة اعمالهم. تعاني الترجمة من أزمة كبيرة ؛ وهي انها تمثل نصا آخر . هكذا يقولون ؛ ولذلك قد يعمد الروائي الى استخدام اسلوب لغوي سهل او على الأقل اقل تعقيدا دون ان يفقد توجهه الجمالي والفلسفي الذي يتغياه. ومع العولمة الثقافية التي نشهدها ، سيكون اهتمام الأدباء بتبادل منتجهم الابداعي على نطاق عالمي ، واسع ؛ مما يجبرهم على التقليل من التجريب اللغوي. وربما يشهد الادب بعد عقود تشاركا عالميا في المفردة حينما تتوحد تجربتنا الحياتية بشكل كبير. نحن نلاحظ مقدمات ذلك الآن ؛ فالتكنولوجيا منحت العالم لغة يتشاركها الجميع... او على الأقل مفردات مشتركة. اللغة الأداتية هي التحول الذي اتوقعه في المستقبل ؛ واللغة الأداتية هذه ستعمل على تحلل الآيدولوجيا لتفني النمطية الكلاسيكية بشكل متسارع. وبالاضافة الى التكنولوجيا ؛ فهناك ايضا العوامل الاقتصادية التي ستزيح الايدولوجيا اللغوية لعالم ينمو اقتصاديا بشكل متسارع ويخلق ثقافة الاستهلاك والوجبات المعرفية السريعة ، ستحتاج اللغة لأن تعبر فقط عما يمكن ان تستوعبه الغالبية ، ومن ناحية سيحتاج الكاتب الى ضغط ادواته اللغوية لأقصى حد ممكن. ربما لن يتحمل الانسان في اقتصاد الرأسمالية رواية كرواية الكريات الزجاجية لهيرمان هيسة والتي تتجاوز الستمائة صفحة ؛ ولا رواية الحرب والسلام التولستوية ؛ ولا رواية وراء الرغيف لمكسيم غوركي ؛ هذا النوع من الأدب غالبا ما سينقرض لتحل محله الروايات الصغيرة novella ، بلغة تفاوضية تملأ الفراغ بين المؤلف والقارئ محققة رضى الطرفين.