..ذات مساءٍ نسيت فيه اللغةُ كيف تُنطق،
انحنيتُ على ظلّي وقلتُ له:
اصنع لي كاميرا لا تشبه الأرض.
فانحنى الزمن من حولي
كأنّه عنكبوتٌ يعزف على أوتار الضوء،
وصنعتُ من علبة سردين صدئة
بوابةً إلى الغياب.
حفرتُ فيها ثقبًا
بإبرةٍ وجدتها داخل حلمٍ
كان يسير على أربع ويأكل أوراق التقويم.
لم أضع في الكاميرا...
ها أنت الآن تسير وحيدًا في مدينة لم تعد تعرف ملامحها. الركام يغطي كل شيء، والمباني التي كانت يومًا شاهدة على الحياة أصبحت الآن شواهد للموت. غزة تنهار تحت القصف، وأنت تبحث عن بقايا من الماضي الذي كان يجمعك بأهلك، بطلابك، وبأحلامك التي دفنت تحت الأنقاض.
كنت في المنزل مع عائلتك عندما بدأ القصف...
على حافة الضوء امشي ..
احمل اجنحتي المهشمة
..ارجوحة بين الحلم والخيبة
بين الامل الذي يشرق كالشمس ..
احيانا
.. واليأس الذي يطفئ النجوم
في عيني
افتح نوافذ القلب للصبر
واجد الرياح تعوي
.. تسألني
الى متى ستبقى تراهن على الغيم ؟
الى متى ستزرع في الصخر ..
بذور الرجاء ..
الخذلان صديق صامت
يجلس في...
في صحراء بلا نهايات
يجلس الوقت على كرسي من السراب
يعد أنفاس أمة
تتعثر بأذيال تاريخها المنخور
الأفق معطوب
وأعمدة السماء مصنوعة من بلاستيك
معاد تدويره
تحني رؤوسها لظل ضئيل
يرتعش فوق كف الحاضر
في مدينة بلا أبواب
الناس يحملون مفاتيح لأقفال غير موجودة
يتجادلون في الطابور
هل الوطن صندوق بريد صدئ
أم...
تصرخ الريح
كأنها شجن الكون المكتوم
تنسج أنينها في تجاويف الجبال ..
وتصفع الوديان بصوت مبحوح
مثل ناي مكسور في يد الغياب
الشجر يرقص عاريا ..
أغصانه ترتجف كأصابع طفل مفقود
وأوراقه تفر مثل أسراب طيور
ضاعت بوصلة الدفء لديها ..
الجذوع تنحني
كأنها تواسي الأرض عن موت ظل
كان يوما حضنا للعابرين.
والريح...
من أين تبدأ الحكاية؟
أمن شقوق الصخر
حين تنهض زهرة خجولة؟
أم من رعشة الضوء الأولى
حين يفك الليل أسر النجوم؟
أمن صرخة الوليد الأولى
أم من صمت القبور؟
أمن نزيف الغيم على صدر التراب
حين ينهض العشب كطفلٍ
يخطو للمرة الأولى؟
أم من وشوشة الريح
لأجنحة الطيور المهاجرة؟
هل هي همسةٌ سرّية
تختبئ في أعماق...
في زاوية عتيقة من مخيم اللاجئين، أسير في غرفتي في المنزل القديم المبني من الطوب .. اجلس بتثاقل على سريري الخشبي الذي يصدر صوتا يشبه الأنين كلما تحركت. الليل يطبق بثقله على المكان، والريح تتسلل عبر الثقوب الصغيرة في النافذة الخشبية المطلة على الزقاق.
المح صورة وجهي المنعكسة عن المرآة الطويلة...
كنعان جدي ..
منذ كان التاريخ شتلة زيتون
غرسها كنعان على
سفوح الجبال
كنعان جدي
ذاك الذي بذر النجوم في الآفاق
لتنير مدائن النور المقدس
في جبال الكرمل
والجليل
..
كنعان جدي .. ذلك العملاق
من زرع الموج في بحر يافا
ليردد البحارة اناشيدهم
وهم يعودون فجرا لبيوت عكا وحيفا ..
كنعان جدي ..
قبل ميلاد الزمان...
وصبرت حتى قيل دون كرامة
وحلمت حتى قيل ما اغباه !
وعفوت حتى قيل عني احمق
وحزنت حتى قيل ما اضناه ؟
حاذر مصارحة اللئيم فإنه
ان ظن خيرا .. قال ما اشقاه ؟
هيهات يشعر عاذل متشمت
بأنين روحك .. بالذي تلقاه
فاحفظ جبينك رغم حزنك عاليا
واصعد كفجر .. رافعا اياه ..
واصبر فكل الناس إما شامت
او عابث يلهو...
لو ان قلبي ميت لدفنته
لكنه يا للغرابة يخفق
ويطول نوم النائمين بليلهم
ويظل قلبي ساهرا لا يرفق
وتثيره اشجان ذكرى غادرت
فكأنما جمر يئن ويحرق
ويمر طيف الغائبين كنسمة
ان حاورت اصداء قلبك تشهق
يا قلب رفقا قد تعبت فاعطني
بعض السعادة قد عهدتك تشفق
فيجيبني والنبض يوجع خافقي
وتكاد روحي في الدجى...
بريء من صحاري الصمت
من عجز تغلغل في ملامحكم
بريء من هزال الذل
يرجف في مواقفكم
بريء من تهافتكم ..
بريء من تنافخكم
تقزمكم ..
بريء من تخاذلكم
فحتى النمل ان حاولت تقتله
يدافع عن ثقوب الأرض
ماذا عن مدائنكم ؟
وماذا عن ظلال القدس ؟
ماذا عن مساجدكم
كنائسكم ؟
حتى الحجارة تغضب ..
ان طرقت اديمها صرخت...
انه الطوفان يصعد
نحو افق الزلزلة
هو الطوفان يمحو ما تراكم
من غبار المهزلة
يمضي كموج البحر ..
يشعل للصباح شموسه
ويفتح ابواب السماوات التي
من الف دهر مقفلة ..
نهضت جباه الثائرين فأجفلت
قطعان ذل آفلة ..
وتساءل الجبناء .. ماذا ؟
كيف ؟ .. ما ؟
اين الحليف يغيثنا ؟
فركوعنا وخضوعنا والذل له ؟
نحن...
ما زلت حياً
غير ان الروح أضحت
بحر ثلج وشظايا
وانكسارات حزينة
.. طروادة العذراء يخنقها الحصار
وفي المدى غيوم الموت قادمة
ونحن نفتح لحصان الغدر
أبواب المدينة
* * *
أي بحر من جنون
أي طوفان مقيت ..؟
أي غيم أسود !
وأي ريح أسقطت قناع الزيف
يا وجه الحقيقة ؟!
* * *
سامحيني يا حبيبة
إذ أتيتك مرهقاً...
سارحل مثل كل الراحلين ..
يقول قلبي ..
سامضي مثل هذا الليل ..
كالغيم المسافر ..
مثل سرب من طيور ..
في اخاديد السحاب ..
سامضي حاملا ما فات .. امضي
مثل حلم قد تعمد بالغياب ..
ساغيب وحدي كالندى
كالامنيات ..
كالبحر حين تهزه في الموج
اشرعة الشتات
سيمر هذا الليل دوني ..
دون وقع خطاي ..
دون ظلالي...