حين يتغنى المحب بمحبوبه غالبا ما يلتجئ لصيغة المذكر لمخاطبته، فترد الصفات الأنثوية في خطابه بالتلميح لا بالتصريح ليستنتج منها المتلقي أن المقصود بها هي امرأة.
إن كان الأمر كذلك،فلا بد من طرح السؤال التالي: لم تخاطب المرأة بصيغة المذكّر من طرف الرجل في النص العاطفي الغنائي أو الشعري أحيانا، إذا ما اتخذت موقع " المحبوب" في العلاقة العاطفية ، أي إذا ما حظيت بمكانة مميزة في نظره على المستوى الوجداني؟
هل تتخطى بذلك موضع " الجسد المشتهى" ، لتصبح الذات المتكاملة الجديرة بأن تكون الوجه الآخر لذات الرجل ، فيخاطبها وجوبا بصيغة المذكّر ؟
هل تتجاوز المرأة موقع الإنسان " الناقص" الخاضع ، لتسترجع ذاتيتها إذا ما أحبها الرجل فتكتسب بذلك بعضا من صفاته، ومن ثمة تتحول أنوثتها صفة ثانويّة ، باعتبار الرجل النموذج الأمثل للإنسان وتفوقه على المرأة من وجهة نظر ثقافية على أساس اختلافهما البيولوجي الطبيعي.
لقد اخترنا قصيدة " الجندول" للشاعر المصري علي محمود طه التي غناها المطرب محمد عبد الوهاب لعدة أسباب ، هي الآتية :
أولها : يعتبر الشاعر علي محمود طه من أعلام مدرسة " أبولو" التي أدخلت أسس الاتجاه الرومانسي في العالم العربي في بداية القرن العشرين.
ثانيا : نجاح الأغنية وانتشارها واستمراريتها لمدة تفوق ثمانين سنة ، فقد غناها المطرب محمد عبد الوهاب سنة 1941 ، مما يؤكد قيمتها الجمالية والفنية واستجابتها للذوق العام، لا من حيث التلحين فحسب بل وكذلك من حيث الكلمات ومعانيها.
ثالثا : أن الإشكالية التي طرحناها في بداية هذا المقال من تذكير المرأة المحبوبة من طرف الرجل تبدو بينة بوضوح في القصيدة التي لحنت وغنيت .
لن نتطرق إذا إلى المستوى الجمالي والأدبي للقصيدة بل سنكتفي بالتعرض إلى الدواعي النفسية التي جعلت الشاعر يصف حبيبته في صيغة المذكر.
يوحي إلينا مطلع القصيدة بأن الشاعر منغمس في عالمه الداخلي ليسترجع ذكريات لقائه بحبيبته فيستهلها بهذه الأبيات:
أين من عيني هاتيك المجالي ۞ يا عروس البحر يا حلم الخيال .
لذلك سنتوقف في هذا البيت عند عبارة " عروس البحر" والتي ترمز إلى المرأة الفاتنة / القاتلة التي تجمع بين الجانب الأنثوي/ الحيواني ( بما أن نصفها العلوي امرأة) ونصفها السفلي ( سمكة أو طير حسب الأساطير) فهي المرأة المغرية دون أن يكون وصلها متاحا للرجل.
في هذا المنحى، ورد بالأوديسة l’odyssé للشاعر اليوناني هوميروس Homère في حكاية عرائس البحر les sirènes أن البطل أوليس Ulysse كان قد طلب من رفاقه البحارة في إحدى سفراته البحرية،أن يسدوا آذانهم لكي لا يسمعوا أغاني عرائس البحر وأن يشدوه إلى عمود المركب، لأنه سيغامر بمفرده بالاستماع إلى أغانيها ، فإن طلبت منه عرائس البحر إتباعها ، عليهم أن يحكموا شده إلى ذاك العمود ويرفضوا فكّ أسره حتى لا يستسلم لإغرائها فيتبعها ويلقى حتفه ، وما إن ظهرت عرائس البحر حتى أخذوا بوصيته فنجا من الموت.
عروس البحر إذا ، هي رمز المرأة الغاوية التي لم تكتمل جنسيا والقادرة على الإيقاع بالرجل ، مع ذلك ستحتل خيال الشاعر لتذكره بلقائه الغرامي مع حبيبته فيقول:
التقت عيني به أول مرة ۞ فعرفت الحب من أول نظرة
ثم يصف حبيبه كالآتي:
ذهبي الشعر ، شرقي السمات ۞ مرح الأعطاف ،حلو اللفتات
وهي أوصاف لا تختص بها المرأة دون الرجل لعموميتها ، فرغم تبادل العاشقين كؤوس الخمر، إلا أن الوصف رغم جرأته لم يشمل صفات الحبيب التي جاءت رغم رقتها و جمالها، مقتضبة، إلا أن الشاعر يضيف :
" وهو يستهدي على المفرق زهره" ۞ ويسوي بيد الفتنة شعره
بما معناه : ينتظر أن يهدى له الزهر بينما كان يسوي شعره، وهو ما يوحي للمتلقي بأن الوصف يتعلق بامرأة وبجوانب من سلوكها مثل الانتظار والميل للإغراء، لكنه اتخذ لغويا صيغة المذكر.
سيكون لهذا التذكير نتائج تتجاوز الجانب الشكلي واللغوي ، لتصبح المرأة رفيقا للرجل تبادله الملذات والإعجاب والانجذاب بل وحتى الغربة دون أن يمثل إغراؤها خطورة بعد أن كاد الشاعر يمحي كل الفروق التي تميز كل منهما ونستنتج ذلك في قوله:
"كلما قلت له : خذ. قال : هات ۞ يا حبيب الروح يا حلم الحياة".
ثم وفي بيت آخر يقول :
قال : " من أين؟ وأصغى ورنا ۞ قلت : من مصر ، غريب ها هنا.
قال : إن كنت غريب فأنا ۞ لم تكن لي فينيسيا لي موطنا.
لا ننسى أن قصيدة " الجندول" نشرت في ديوان الشاعر علي محمود طه الصادر تحت عنوان " ليالي الملاح التائه" سنة 1940 في المجتمع المصري آنذاك الذي لم يكن يسمح لا بالاختلاط بين الرجال والنساء ولا بخروج المرأة إلى الفضاء العام ،مما يقلل فرص اللقاء بين الجنسين وما يفسر الأجواء "الفينيسية" التي تصفها القصيدة.
ويمثل التباعد بين المرأة والرجل بأسسه الإيديولوجية والثقافية حاجزا لنشأة الحب لما يتطلبه هذا الشعور من تضحية وتقارب وثقة بين الطرفين، لذلك يتنكر الرجل ولو بصفة لاشعورية للميزات الأنثوية بنفي الفوارق اللغوية لتصبح حبيبته "ذاته الأخرى".
لقد استحضر الشاعر في قصيدته الملكة الفرعونية " كليوبترا "مع ما تمثله من سلطة وثقافة وجمال وقوة، كما استحضر في أبيات أخرى عبارات دينية هي : الحور والولدان .
وخلاصة القول، أن افتتان الرجل بالمرأة وانخراطه في تجربة عاطفية ،تجعله يواجه نفسيا هواجس متعددة مردها خشية الرضوخ لسلطة المرأة وإغرائها و مواجهة المحرمات والمحظورات الاجتماعية والدينية ، تلك هي بعض الأسباب التي قد تدفعه لتذكيرها لتجاوز مثل تلك الأحاسيس .
كاهنة عباس .
* نشر بجريدة الشارع المغاربي بتونس بتاريخ 2020/04/15
إن كان الأمر كذلك،فلا بد من طرح السؤال التالي: لم تخاطب المرأة بصيغة المذكّر من طرف الرجل في النص العاطفي الغنائي أو الشعري أحيانا، إذا ما اتخذت موقع " المحبوب" في العلاقة العاطفية ، أي إذا ما حظيت بمكانة مميزة في نظره على المستوى الوجداني؟
هل تتخطى بذلك موضع " الجسد المشتهى" ، لتصبح الذات المتكاملة الجديرة بأن تكون الوجه الآخر لذات الرجل ، فيخاطبها وجوبا بصيغة المذكّر ؟
هل تتجاوز المرأة موقع الإنسان " الناقص" الخاضع ، لتسترجع ذاتيتها إذا ما أحبها الرجل فتكتسب بذلك بعضا من صفاته، ومن ثمة تتحول أنوثتها صفة ثانويّة ، باعتبار الرجل النموذج الأمثل للإنسان وتفوقه على المرأة من وجهة نظر ثقافية على أساس اختلافهما البيولوجي الطبيعي.
لقد اخترنا قصيدة " الجندول" للشاعر المصري علي محمود طه التي غناها المطرب محمد عبد الوهاب لعدة أسباب ، هي الآتية :
أولها : يعتبر الشاعر علي محمود طه من أعلام مدرسة " أبولو" التي أدخلت أسس الاتجاه الرومانسي في العالم العربي في بداية القرن العشرين.
ثانيا : نجاح الأغنية وانتشارها واستمراريتها لمدة تفوق ثمانين سنة ، فقد غناها المطرب محمد عبد الوهاب سنة 1941 ، مما يؤكد قيمتها الجمالية والفنية واستجابتها للذوق العام، لا من حيث التلحين فحسب بل وكذلك من حيث الكلمات ومعانيها.
ثالثا : أن الإشكالية التي طرحناها في بداية هذا المقال من تذكير المرأة المحبوبة من طرف الرجل تبدو بينة بوضوح في القصيدة التي لحنت وغنيت .
لن نتطرق إذا إلى المستوى الجمالي والأدبي للقصيدة بل سنكتفي بالتعرض إلى الدواعي النفسية التي جعلت الشاعر يصف حبيبته في صيغة المذكر.
يوحي إلينا مطلع القصيدة بأن الشاعر منغمس في عالمه الداخلي ليسترجع ذكريات لقائه بحبيبته فيستهلها بهذه الأبيات:
أين من عيني هاتيك المجالي ۞ يا عروس البحر يا حلم الخيال .
لذلك سنتوقف في هذا البيت عند عبارة " عروس البحر" والتي ترمز إلى المرأة الفاتنة / القاتلة التي تجمع بين الجانب الأنثوي/ الحيواني ( بما أن نصفها العلوي امرأة) ونصفها السفلي ( سمكة أو طير حسب الأساطير) فهي المرأة المغرية دون أن يكون وصلها متاحا للرجل.
في هذا المنحى، ورد بالأوديسة l’odyssé للشاعر اليوناني هوميروس Homère في حكاية عرائس البحر les sirènes أن البطل أوليس Ulysse كان قد طلب من رفاقه البحارة في إحدى سفراته البحرية،أن يسدوا آذانهم لكي لا يسمعوا أغاني عرائس البحر وأن يشدوه إلى عمود المركب، لأنه سيغامر بمفرده بالاستماع إلى أغانيها ، فإن طلبت منه عرائس البحر إتباعها ، عليهم أن يحكموا شده إلى ذاك العمود ويرفضوا فكّ أسره حتى لا يستسلم لإغرائها فيتبعها ويلقى حتفه ، وما إن ظهرت عرائس البحر حتى أخذوا بوصيته فنجا من الموت.
عروس البحر إذا ، هي رمز المرأة الغاوية التي لم تكتمل جنسيا والقادرة على الإيقاع بالرجل ، مع ذلك ستحتل خيال الشاعر لتذكره بلقائه الغرامي مع حبيبته فيقول:
التقت عيني به أول مرة ۞ فعرفت الحب من أول نظرة
ثم يصف حبيبه كالآتي:
ذهبي الشعر ، شرقي السمات ۞ مرح الأعطاف ،حلو اللفتات
وهي أوصاف لا تختص بها المرأة دون الرجل لعموميتها ، فرغم تبادل العاشقين كؤوس الخمر، إلا أن الوصف رغم جرأته لم يشمل صفات الحبيب التي جاءت رغم رقتها و جمالها، مقتضبة، إلا أن الشاعر يضيف :
" وهو يستهدي على المفرق زهره" ۞ ويسوي بيد الفتنة شعره
بما معناه : ينتظر أن يهدى له الزهر بينما كان يسوي شعره، وهو ما يوحي للمتلقي بأن الوصف يتعلق بامرأة وبجوانب من سلوكها مثل الانتظار والميل للإغراء، لكنه اتخذ لغويا صيغة المذكر.
سيكون لهذا التذكير نتائج تتجاوز الجانب الشكلي واللغوي ، لتصبح المرأة رفيقا للرجل تبادله الملذات والإعجاب والانجذاب بل وحتى الغربة دون أن يمثل إغراؤها خطورة بعد أن كاد الشاعر يمحي كل الفروق التي تميز كل منهما ونستنتج ذلك في قوله:
"كلما قلت له : خذ. قال : هات ۞ يا حبيب الروح يا حلم الحياة".
ثم وفي بيت آخر يقول :
قال : " من أين؟ وأصغى ورنا ۞ قلت : من مصر ، غريب ها هنا.
قال : إن كنت غريب فأنا ۞ لم تكن لي فينيسيا لي موطنا.
لا ننسى أن قصيدة " الجندول" نشرت في ديوان الشاعر علي محمود طه الصادر تحت عنوان " ليالي الملاح التائه" سنة 1940 في المجتمع المصري آنذاك الذي لم يكن يسمح لا بالاختلاط بين الرجال والنساء ولا بخروج المرأة إلى الفضاء العام ،مما يقلل فرص اللقاء بين الجنسين وما يفسر الأجواء "الفينيسية" التي تصفها القصيدة.
ويمثل التباعد بين المرأة والرجل بأسسه الإيديولوجية والثقافية حاجزا لنشأة الحب لما يتطلبه هذا الشعور من تضحية وتقارب وثقة بين الطرفين، لذلك يتنكر الرجل ولو بصفة لاشعورية للميزات الأنثوية بنفي الفوارق اللغوية لتصبح حبيبته "ذاته الأخرى".
لقد استحضر الشاعر في قصيدته الملكة الفرعونية " كليوبترا "مع ما تمثله من سلطة وثقافة وجمال وقوة، كما استحضر في أبيات أخرى عبارات دينية هي : الحور والولدان .
وخلاصة القول، أن افتتان الرجل بالمرأة وانخراطه في تجربة عاطفية ،تجعله يواجه نفسيا هواجس متعددة مردها خشية الرضوخ لسلطة المرأة وإغرائها و مواجهة المحرمات والمحظورات الاجتماعية والدينية ، تلك هي بعض الأسباب التي قد تدفعه لتذكيرها لتجاوز مثل تلك الأحاسيس .
كاهنة عباس .
* نشر بجريدة الشارع المغاربي بتونس بتاريخ 2020/04/15