مروة التجاني - الرواية الأفريقية .. الكنز المكتوب

تحقيق صحفي :

الرواية الأفريقية فتحت مسارات إنسانية كبيرة وأرسلت إشارات عديدة للمجتمعات المحلية والإقليمية والدولية عن التراث ، العادات والتقاليد ، الروح الوطنية والمفاهيم الأدبية الأفريقية ، كل هذا نجده في الروايات التي كتبت في مختلف الدول الأفريقية مما يممنحها التجديد وفق معايير ومفاهيم المتغيرات الأدبية الحديثة .
كثير من الأسئلة تطرح أمام خفوت المشهد الروائي الأفريقي عند المتلقي العربي وذلك رغم كثافة الإنتاج في الرواية الأفريقية وفي محاولة لتفكيك هذه الأسئلة جاءت إجابات المختصين والنقاد ، البعض منهم حلل قضية حاجز اللغة والهوية المتنازعة بين اللغات الأم ولغات المستعمر ، البعض الآخر تناول الأثر السياسي والصراع بين المثقف والسلطة الذي أفرز أدوات رقابة ومنع مما قلل من انتشار الرواية الأفريقية ، وفريق آخر يرى أن انتشار الرواية الأفريقية كان أسرع وأنجح في العالم الغربي لأنهم خاطبوهم بلغتهم وأوصلوا الرسالة الثقافية للموروث التراثي الأفريقي فيما عرف بالفرانكفونية والأنجلوساكسونية ورهنوا انتشار الرواية الأفريقية بثورة المعلومات .
الرواية الأفريقية تمكنت من سرد تاريخ القارة ، واحتلت مكانة عالية بين تيارات السرد العالمية خاصة مع انتشار حركة الترجمة ، هي روايات تحكي تاريخ المستعمر والنضال وأنماط العيش اليومية ، وتذخر بالعوالم الغرائبية والفلكلور المحلي والتراث القديم . استمرار السرد الأفريقي يعني الحديث عن الهوية الأفريقية ومنتوجها الثقافي المعاصر . في هذا التحقيق كثير من النماذج الروائية التي تجيب على سؤال أين تقف الرواية الأفريقية في المشهد الثقافي العالمي ؟ ونتتبع جذور نشأة الرواية الأفريقية ومراحل تطورها مثل كنز أدبي يحتاج من ينقب عنه ويسبر غور تفاصيله المدهشة ..

ما المقصود بالأدب الأفريقي ؟
هو أدب المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى وخارج مجال اللغة العربية ، هذا التعريف أجمع عليه عدد من الأدباء الأفارقة المهتمين بالقارة منذ عصر بعيد . يقول الكاتب الجنوب أفريقي ( إركيال مافاليلي ) أن الشمال العربي المسلم لا علاقة له من الناحية الثقافية بالإنسان الأفريقي . لكن لم يوافق الأديب ( مازيسي كونيني ) على هذا الرائ وقال أن الأدب الأفريقي هو الأدب الذي يصور واقعاً أفريقياً بجميع أبعاده وهذه الأبعاد لا تضم ألوان النزاع مع القوى صاحبة السيطرة السابقة مع القارة وحسب وإنما تضم أيضاً جميع الأشكال الأدبية داخل القارة الأفريقية . مع ذلك أختلف الشاعر النيجيري ( كريستوفر أوكيغبو ) مع هذا الرائ وقال أن الأدب الأفريقي هو - ببساطة - الأدب الموجود في أفريقيا ومن السخف أن نتصوره نمطاً خاصاً ذا سمات متينة لها طابعها الأفريقي الخاص أو ذا قيم خاصة مرتبطة بالحضارة الأفريقية ، وأضاف إنه لا يوجد أدب أفريقي وإنما يوجد أدب جيد و أدب ردئ . إذاً الأدب الأفريقي يقصد به الأدب المكتوب في أفريقيا بأي لغة وحتى الأدب المهاجر هجرة لسانية يندرج ضمن مصطلح أدب أفريقي ، وعليه يصبح هو الأدب الذي يعبرعن قضايا القارة وتنوع ثقافاتها.

الجذور والبدايات
إذا كان أدب أمريكا اللاتينية أتى إلينا من الواقعية السحرية فإن الأدب الأفريقي وتحديداً الرواية أتت إلينا من واقع الأساطير والحكايات المروية لذا فأن نشأتها وتطورها - الرواية الأفريقية - أخذت طابع الشكل الغربي في البناء الهرمي للبنية الشكلية ووظفت في مضمون قضايا اجتماعية . تقول الشاعرة و الكاتبة ( نهلة محكر ) " من المعلوم أن معظم ثقافتنا وأدبنا في أفريقيا بشقيها الشمالي والجنوبي هو شفاهي ولم يدون بعد ، وهو يعتبر الرافد الرئيس الذي يغذي الروائيين الأفارقة والملهم لكثير من كتاباتهم . أفريقيا تذخر بالقصص الخرافية والأساطير والحكايا الشعبية التي تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل ، ولم يتم تدوينها بعد . بدأ انتشار الرواية - بشكلها الحالي - في فترة الاستعمار وبداية حركات التحرر والاستقلال التي انطلقت في معظم دول القارة في الخمسينيات من القرن الماضي ، كانت اللغات المستخدمة في الكتابة هي لغات المستعمرين مثل الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية . المواضيع الغالبة على المنتوج الأدبي آنذاك تركزت على الاستعمار وهيمنته وتأثيره على حياة الناس ، إضافة إلى تأثير الثقافة الغربية أما على أبطال هذه القصص في أفريقيا نفسها أو في الغرب ، هذه القصص لا تخلو من سرد العادات والتقاليد المحلية الخاصة مع مزيج من الأساطير والحكاوي الخرافية التي يؤمن بها ويعيش عليها أغلب سكان أفريقيا . هذه المواضيع تم تناولها في الدراما والشعر والرواية والقصص القصيرة والسيرة الذاتية ، وهي ضروب الأدب الأكثر شيوعاً في أفريقيا . برزت أسماء عديدة تكتب بهذه الأنماط إضافة لترجمة بعض ما دون باللغات المحلية ، لفتت هذه الكتابات انتباه المهتمين في أوروبا وأمريكا وذلك ربما لغرابة وطرافة المواضيع المتناولة ، كما أنها تعتبر مساحة للتعرف على أفريقيا وثقافتها عن قرب واكتشاف هذه المنطقة المسكونة بالغموض والسحر والغرائبية . نالت تلك الأقلام استحسان النقاد ووصلت إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً ، كما أنها حصدت جوائز أدبية وثقافية رفيعة ومرموقة . يعتبر الأديب النيجيري الراحل ( تشينوا أتشيبي ) من أبرز هذه الأسماء ، إضافة إلى مواطنه ( وول سوينكا ) والذي حصل على جائزة نوبل للآداب في العام 1986م وكانت القائمة تضم أيضا ً الشاعر الرئيس والمفكر الأفريقي ( ليوبولد سنغور ) جنباً إلى جنب مع السينمائي والأديب السنغالي الراحل ( عثمان سمبين ) والكاتب الكيني ( نغوجي واثيونغو ) والأديب الصومالي المعاصر ( نور الدين فرح ) . لم تكن الرواية الأفريقية حكراً على الأقلام الرجالية فقط ، حيث برزت أسماء نسائية كان لها إسهامات كبيرة في ساحات الفعل الثقافي ، من أهم هذه الأقلام نجد الكاتبة السنغغالية ( مرياما با ) والكاتبة الجنوب أفريقية ( بيسي هيد ) ومواطنتها الحاصلة على جائزة نوبل للآداب ( نادين جورديمير ) .
تتابع ( نهلة محكر ) حديثها قائلة " صحيح أن جيل الرواد من الروائيين الأفارقة تصدروا المشهد الأدبي والثقافي الأفريقي لفترة طويلة إلا أنه ظهرت أقلام شابة جديدة جنباً إلى جنب مع من سبقوهم ومواصلين لإرثهم الأدبي والثقافي ومبتدعين كتابات جديدة تتناسب مع عصرهم وثقافتهم المتغيرة في القرن الحالي . أخذ هؤلاء الشباب على عاتقهم تغيير الصورة النمطية عن أفريقيا ومعظمهم أما ولدوا في الغرب لآباء من أصل أفريقي أو في بلدانهم الأصلية وتربوا في الغرب أو هاجروا لاحقاً . كثير منهم تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً وانتشاراً خاصة في أمريكا وسعت دور النشر لطباعة مؤلفاتهم أولاً بأول . من أهم هذه الأسماء نجد الكاتبة النيجيرية ( تشيماماندا نجوزي أديتشي ) والإثيوبي / الأمريكي ( ديناو منغستو ) والسيراليوني ( إشمائيل بيه ) وغيرهم . تنوعت مواضيع هؤلاء الروائيين بين الإرث الثقافي الأفريقي والدمج بين الثقافات ، فيها يفصحون عن آمالهم وأحلامهم دون خوف ومواربة ويعكسون ثقافتهم الأفريقية بطريقة عصرية ومتجددة " .

الرواية الأفريقية بلسان غربي أم محلي ؟
سؤال الهوية يظل حاضراً في الرواية الأفريقية ولغتها المكتوبة التي لا تزال متأثرة بلغة المستعمر في ظل وجود بعض الكتابات باللهجات المحلية ، فهل يجب التعامل مع اللغات الأوروبية على أنها لغات أمر واقع ؟ سؤال طرحته المحررة على الناقد والأديب ( حامد بخيت ) الذي قال مجيباً " لا سبيل لدراسة الرواية الأفريقية إلا عبر التعرف على التراث الشفهي والآداب المكتوبة بلغات بعض الشعوب كالسواحلية والفولاني والزولو والنيلو والبانتو وغيرها ، غير أن هذا لا يمثل إلا مساحة ضئيلة عند مقارنته مع ما هو مكتوب باللغات الأخرى والتي تحسب لصالح المستعمر فضلاً عن اللغة العربية والتي تشكل مساحة صغيرة على خارطة التعبير في الرواية الأفريقية ويتشكل حضورها في المنطقة العربية الواقعة إلى الشمال من الخارطة الأفريقية ، يجب كذلك الانتباه إلى أن ما يعرف بالأدب الشفاهي الأفريقي غير المكتوب يمثل المساحة الأكبر ويفوق في وجوده ما كتبه الأفارقة أنفسهم أو الباحثين من جهات أخرى ، هذا بدوره يشكل عائقاً في التعرف على الرواية الأفريقية بصورة كبيرة . في الوقت الحالي برزت اتجاهات لجمع هذا التراث ومحاولة تدوينه وضبطه وتصنيفه غير أن هذه الجهود غالباً ما تواجهها بعض التحديات مثل قلة الموارد المالية وعدم وجود خطط علمية منهجية تقوم بها دوائر بحث متخصصة ، تتم هذه الجهود بصورة فردية ومعزولة بحيث لا يمكنها أن تؤثر إلا في إطار ضيق ، هذا كله بجانب تعدد اللهجات المحلية في أفريقيا - في السودان على سبيل المثال يوجد أكثر من خمسمائة لسان - هذا يجعل من جمع هذا النوع من الأدب أمراً صعباً لذلك لم يكن من بد غير جمعه وتدوينه عبر اللغات الأوروبية " .
وواصل حديثه قائلاً " كثيرون من الروائيين الأفارقة منذ ( تشينوا أتشيبي ) وحتى ( تشيماماندا نجوزي أديتشي ) يرون أن اللغة الإنجليزية مثلاً وليست حصراً باتت بفعل ا الاستعمار أمراً واقعاً ومفروضاً على ألسن مجموعات كبيرة من الأفارقة ولا يمكن تفادي التعامل معها مما يجعل الكاتب الأفريقي مطالباً باستغلال اللغات الأوروبية لإيصال صوته إلى شعبه وإلى العالم بفرضية أنها لغات عالمية ذات انتشار واسع . ما يدعم هذا الاتجاه هو أن اللغات الأفريقية كثيرة جداً ومختلفة عن بعضها البعض ، مما يجعل مهمة أية كاتب شبه مستحيلة إذا ما حاول الوصول بأعماله المكتوبة بلغة محلية إلى كل الشعوب ، لذا لابد من وسيط لغوي عالمي ومعروف يمكن عبره الوصول إلى كل الشعوب ومن هنا يمكن القول بأن مسألة القبول بلغات المستعمر واستخدامها وسيطاً لكتابة الرواية ماهي إلا عملية تعامل مع واقع فرضته عدة ظروف موضوعية " .
يرى الروائي ( نغوجي واثيونغو ) أن اللغات الأوروبية سيما الإنجليزية ليست أفريقية وأنه لابد من بعث اللغات المحلية ومن ثم تجديدها وتطويرها ، في ذلك يحدثنا الأديب ( حامد بخيت ) قائلاً " ذلك أن اللغة سلاح قوي يمكن من خلاله للمستعمر السيطرة على الشعوب ، ففكرة ( واثيونغو ) حول بعث اللغات ليست حلماً كما يراها البعض ، بل هو مشروعاً ثورياً متقدماً إذا ما تمت عملية تطوير اللغات الأفريقية وأصبح من الممكن كتابتها بحيث يمكن بعد ذلك استخدامها في الكتابة الأدبية ومن ثم نقلها إلى الآخر غير الأفريقي . إذا ما نظرنا عميقاً في اللغات الأفريقية سنجد أن مواعين اللغات الأخرى لا تستطيع أن تحمل كل المفاهيم والدلالات التي توفرها لغات الشعوب المحلية " .

نصف شمس صفراء
يقول الأمين العام لاتحاد الكتاب السودانيين ( عثمان شنقر ) في إفادة عن الرواية وكيف كتبت المجتمع وأنماط العيش في أفريقيا " قبل دخول الكولونيالية كانت القارة تعيش في عزلة عن العالم الخارجي لكنها كانت منسجمة مع نفسها خصوصاً أن ما يسمى بالحدود السياسية لم تكن واضحة فكانت القبائل والمجموعات السكانية تتحرك بحرية في مجمل القارة . في هذه الفترة لا يمكن التحدث عن رواية أفريقية بالمعنى الغربي الحديث لكن يمكننا التحدث عن أشكال فنية ذات طبيعة وظيفية لأن الفن والممارسات الثقافية سواء ما قبل الاستعمار أو ما بعده كانت مرتبطة بالطقوس ، بعد الدولة الكولونيالية ظهر الأدب المكتوب في الرواية وارتبط بأسماء روائيين كبار مثل (إيمي سيزار ) و (وول سوينكا ) و الكاتب السنغالي ( شيخ حميدو كان ) وغيرهم . حاولت مختلف الروايات التي كتبها الأفارقة أن تعبر عن القارة في شكلها البدائي وعن المشاكل التي جلبها المستعمر وقضايا الدولة الوطنية الحديثة فيما بعد . يصعب الحديث عن رواية أفريقية واحدة فالأدب المكتوب في كينيا مثلاً يختلف عما هو مكتوب في دولة مالي لأن الأولى تمثل ثقافة شرق أفريقيا والثانية نموذج لإنجازات غرب أفريقيا . أما ظروف نشأة الروايات المعروفة فمرتبطة بتعليم المؤلفين الغربي واتجاههم للكتابة عما خلفه المستعمر من تركة خصوصاً في رواية ( الأشياء تتداعى – تشينوا أتشيبي ) وهي من عيون الأدب الأفريقي وناقشت القيم والموروثات الثقافية التي توارثها الأجيال جيل بعد جيل وعند ظهور المستعمر طمست هذه القيم واستبدلت بقيم غربية رفضها المجتمع الأفريقي ، والرواية في متون سردها حاولت عقلنة السلوك الأخلاقي وتجسيد المعتقد الشعبي . أيضاً رواية ( نصف شمس صفراء – تشيماماندا نجوزي أديتشي ) و تحكي عن الحرب الأهلية في نيجيريا . كذلك رواية (تويجات الدم – نغوجي واثيونغو ) التي تحكي عن احتجاج البروليتاريا ومطالبتهم بحقوقهم حتى ينظمون ثورة تبدأ من القرية وتنتهي في المدينة ".
يقول ( شنقر ) حول التحديات التي تواجه الكاتب الأفريقي " الدولة الوطنية التي تشكلت بعد الاستعمار كان يقودها في البدء قادة ثوار سواء في الكنغو أو كينيا أو نيجيريا لكن سرعان ما تحول هؤلاء إلى حكام مستبدين وهذا القمع فرض على أصحاب الفكر الحر واحد من خيارين أما الهجرة أو الصمت ، ففضل أغلبهم الهجرة إلى الغرب لمواصلة تعليمهم وصقل تجاربهم الإبداعية . كانت المواجهة بين الكاتب الحر الذي يعيش في المنفى والديكتاتور الذي يحكم بلد تقع في أرض افتراضية ساحتها الكتب ، لكن بالمقابل كان هناك كتاب يبدعون وينتجون داخل دولهم بصمت وحذر من يد الرقيب . الآن هناك ما يشبه الصحوة الديمقراطية وهذا يعني أن الرواية الأفريقية يمكن أن تنتج داخل القارة وفقاً لشروط ومعايير ديمقراطية وفكرية جديدة " .

سؤال الحداثة
حداثة الرواية الأفريقية في ديمومة مستمرة منذ تحولها من حكاية مروية إلى نص مكتوب استوعب تقنية الشكل الغربي في قوالب مواضيع أفريقية ، إذاً الحداثة رهان راهنت عليه الرواية منذ البدء وحتى الآن . يقول في هذا الشأن الشاعر السوداني ( عبدالله شابو ) أن أبسط تعريف للحداثة هو الخروج إلى العالم بمفهوم نقدي انطلاقاً من التراث . فهل استطاعت الرواية الأفريقية الإجابة عن سؤال الحداثة ؟ يجيب الصحفي والمهتم بالثقافة الأفريقية ( راشد عبد الوهاب ) قائلاً " نعم استطاعت الرواية أن تعبر عن الواقع الثقافي للقارة وشعوبها بمفاهيم نقدية منطلقة من التراث الحضاري . تغذت الرواية بالتراث الأفريقي والتجارب الخاصة وكانت غنية بالصور والمشاهد والدراما وتمكن الروائيين الأفارقة أن يتناولوا الواقع السياسي ، الاقتصادي و الاجتماعي وانتقدوه بل أنهم قدموا أفق حلول للأجيال القادمة ، ومثال ذلك الكاتبة الأمريكية من أصول إثيوبية ( معزة منقست ) في روايتها غير المترجمة إلى العربية ( ما وراء تحديق الأسد ) . في الآونة الأخيرة تمكنت الرواية الأفريقية الحديثة من الانتشار في المنطقة العربية وهناك نماذج لكتاب يكتبون باللغة العربية والفرنسية معاً مثل الكاتب المغربي ( الطاهر بن جلون ) ولاقت هذه الكتابات اصداء جيدة لأنها تصور هوية القارة الأفريقية " .
يشرح الناقد والمترجم ( عزالدين ميرغني ) سمات الرواية الأفريقية الحديثة بالقول " مر الأدب الأفريقي بمرحلتين ما قبل الاستعمار وما بعده وخاصة الرواية التي كانت قبل الاستقلال حذرة نظراً للرقابة الاستعمارية الصارمة . بعد الاستعمار انطلقت الرواية وكانت تعبر عن مشاكل جميع الطبقات وأشواق المجتمعات إلى تحقيق الأحلام التي ناضلوا من أجلها . تطورت الرواية في الأدب الأفريقي أكثر من الشعر لأن الرواية كتبت الثقافات الأفريقية القديمة والحكم والأساطير ، فوجدت فيها الثقافة الأفريقية في شرق القارة وغربها متنفسها ومكانها الصحيح ، ووجد فيها الغرب وثقافة الآخر ما لم يجده في ثقافته المختلفة والمغايرة ، لذا بدأت الرواية الأفريقية تأخذ طريقها للعالمية ولحصد الجوائز وللقبول من مختلف المجتمعات الكونية ، لأنها تكتب عن مكان ذا ثقافة غنية ومحفزة ومثيرة للمتلقي والذي كان يعتقد يوماً بأن القارة الأفريقية متخلفة وبلا ثقافة ولا فنون . الرواية الأفريقية الحديثة هي التي كتبت بصدق المجتمعات الأفريقية البعيدة والمنسية وكتبت الشخصية الأفريقية المتفردة بتاريخها وحضاراتها القديمة ، وما يجعلها مميزة هو أنها أخذت تقنيات الرواية الغربية وأضافت إليها محمول السرد الأفريقي القديم والذي هو غني بالحكايات والأحاجي التي توارثتها الأجيال . لذا تميزت الرواية الأفريقية الحديثة بالكثير من الحكم والأمثال التي تجري وتنساب بسهولة عند الحوار الذي يدور بين الشخصيات " .
يمضى الناقد ( عزالدين ميرغني ) في اتجاه آخر متحدثاً عن الرواية الأفريقية من موقع الكتابة النسوية الأفريقية الحديثة " نتجت الرواية النسائية عن تعليم المرأة وسفرها ودراستها خارج القارة ، ولأن المرأة الأفريقية تعتبر هي الحامل الأصلي للثقافة الأفريقية وهي الحافظة للتراث الشفهي القديم من حكم وأساطير تميزت كتابتها بهذا الغنى الثقافي القديم الموروث . بدأت المرأة في كتابة عواطفها وظلمها الناتج من الهيمنة الذكورية في المجتمعات الريفية ، فكتبت عن زواج القاصرات وعن مشكلة المرأة العقيم وكيف تعاني في المجتمعات التي تتباهى فيها القبائل بكثرة عددها . ما تميزت به الرواية الأفريقية النسائية هو التناول بجرأة لهذه المواضيع الحساسة التي تخص جنسها وتواجه فيها الرجل بسلاح الكلمة والحكاية الواقعية الحقيقية التي تجري في المجتمعات " .

سوسيولوجيا الحياة
اعتمدت الرواية الأفريقية في منجز نصوصها على سوسيولوجيا الحياة وحراك المجتمع في شتى مناحي حياته وفيه تصوغ تراكم إبداعاتها ومراحل تطورها وترتبط به وتدرس الحراك الناجم عن ممارسات إنسانه والقضايا التي يثيرها واقعه أياً كان دوره في الحياة . في إفادة يقول الناقد ( أبو طالب محمد ) " المنظومة الاجتماعية بالنسبة للروائي الأفريقي هي مجموعة من الظروف والملابسات والوقائع والأحداث المرتبطة بحركة المجتمع وديناميته وتحركه في شتى الاتجاهات اقتصادية ، ثقافية وميتافيزيقية . نوضح ذلك من خلال نماذج روائية ففي رواية ( رحلة العلم ) للكاتب الجابوني الجنسية ( جان ديفا سابياما ) تجسدت أعماق المجتمع الأفريقي بأساطيره وموروث خرافاته ، والصراع الدائر دائماً بين القديم والحديث ، بين الأسود والأبيض ، وبين المدينة الحديثة والانثربولوجي الأفريقي المتوارث عن الأجداد في القرى الموغلة في أحراش الغابات والجهات العشوائية البعيدة عن العمران ، تبدأ أحداث الرواية أثناء رحلة قام بها العم ( ما ) إلى المدينة بناءً على دعوة للعلاج وفي الطريق تحدث مشاهد مدهشة لم يعهدها من قبل وتحدثه هواجسه عما إذا كان مكتوب له العودة إلى بلده مرة أخرى ، تتوالى أحداث الرواية إلى أن يعود إلى منزله ويهرول إليه جميع سكان القرية ويحكي لهم تفاصيل ما حدث . إذن الرواية طلت علينا من محيط اجتماعي لشخصية العم ( ما ) الرامزة للشخصيات الأفريقية المهمشة ، قصد الكاتب خروج الشخصيات المهمشة من محيطها المحلي إلى نمط الحياة الغربية في المدن الأفريقية . رواية أخرى هي ( ميمونة ) للسنغالي ( عبد الله ساجي ) تروي قصة فتاة سنغالية جميلة نشأت في بيئة ريفية وفقيرة ، تنضج الفتاة ويحدوها الأمل في ترك بيئة القرية التي لا ترى فيها سوى كوخ أمها المتهدم لتفكر في السفر إلى المدينة . هذه الرواية ناقشت موضوع المهمشين الطامحين في مغادرة بيئتهم المحلية إلى المدينة الحديثة . هذه النماذج وغيرها تروي مظاهر سوسيولوجيا الحياة في صور مختلفة وتبرز ملامح ومظاهر الهوية الأفريقية الحقيقية من واقع سرد عالج حدود قضايا المهمشين " .

موسم الهجرة إلى العالم
ترجمت الرواية الأفريقية من لغاتها المحلية إلى لغات أخرى مما شكل حلقة تواصل داخل القارة وخارجها ، واتسعت دائرتها ودخلت مجال المنافسات الإبداعية والمنابر الفكرية وحصد كتابها جوائز قيمة تضاف لمراتب الأدب الروائي الأفريقي وخلفت أثراً بين أجيالها ومازالت القارة تنتج أدباً روائياً له الريادة في مواكبته لقضايا المجتمعات الأفريقية ، قبل وأثناء وبعد الاستعمار.
يقول الكاتب الصحفي والباحث في الثقافة الأفريقية ( عيسى جديد ) " عدم انتشار الكتابات الأفريقية حتى فيما بينها جاء نتيجة آثار القمع الاستعماري للغات الأم ، تمت إتاحة الفرصة لمن يكتبون بلغة المستعمر سواء فرنسية أو إنجليزية أو برتغالية وبالتالي انحصرت كتابات المثقفين في لغة المستعمر ، إضافة لذلك ضعف وغياب دور النشر التي تربط الشمال والشرق الأفريقي مع بعضهما والعكس . يمكن القول أن كتابات غرب أفريقيا الإنجليزية كانت تعبر عن جدلية الاستعمار ، و يحكي أدب الغرب الأفريقي عن المعاناة وينادي بالمساواة والحقوق . أما الشمال فكان ذا صبغة فرانكفونية و يشمل دول مالي - الجزائر - المغرب - تونس . في كينيا نجد الكاتب ( نغوجي واثيونغو ) هو الوحيد الذي نجا من الكتابة بلغة المستعمر حيث كتب بلغة الكيكويو ونجح في الكتابة باللغة الأم ووصل إلى ملايين القراء ومن ثم تمت ترجمة أعماله إلى لغات متعددة . نذكر أيضاً الكاتب السوداني ( الطيب صالح ) كاتب رواية ( موسم الهجرة إلى الشمال ) الذي نال العالمية . شرق أفريقيا المتمثل في إثيوبيا - إريتريا - الصومال - جيبوتي - جزر القمر - تنزانيا - لم يكن بعيد عن الحراك الثقافي رغم ضعف منتوج بعض الدول ، هناك مثلاً الشاعرة الإريترية / الأسترالية ( منال يونس ) و ( شريفة عثمان ) ومن جيبوتي ( شريفة العلوي ) . الآن هناك جيل شاب يكتب على الوسائط المجتمعية وفي المهاجر عبر المدونات والدوريات الثقافية ، هو جيل متمرد لا يخضع للقواعد المألوفة ويعبر عن أفكار وتطلعات الشباب ويحكي عن الثورية ضد الديكتاتورية ويخاطب العالم في سؤال المعتقد والوجود والحريات والحروب والهجرة وهي القاسم المشترك في الكتابة الجديدة لأنها أفرزت واقع يومي مؤلم ومادة خصبة للكتابة الروائية . ( حجي جابر) هو مثال للجيل الجديد وتميزت كتاباته بالحديث عن الهوية وقصص البطولة والكفاح والحنين للوطن لأنه من الكتاب المهاجرين وتحدث عن آمال وطموحات جيل ما بعد الحرب وناقش تأسيس الدولة الوطنية ، معبراً عن أدب المنفى وحالة الحرب والسلم مع الدول المجاورة وتناول السياسة كجزء من الحياة اليومية خاصة في روايته ( سمراويت ) . في العصر الحالي يمكن أن تصل الرواية الأفريقية إلى العالمية وحتماً ستصل كتابات الشباب إلى جميع أنحاء العالم مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي والمسابقات الأدبية والدوريات الثقافية " .

تظل الرواية الأفريقية حاضرة في مساحات السرد الإنساني والأدبي ومتجددة عبر الروائيين المعاصرين الذين غيروا مفاهيم الكتابة التقليدية وتخلصوا من إرث الماضي والمستعمر ، كانت الرواية المساحة التي عبروا من خلالها عن ألم الإنسان وقضاياه اليومية مثل فقر المجتمعات والبحث عن العدالة الاجتماعية كما في رواية ( أبكي يا وطني الحبيب – للكاتب الجنوب أفريقي الآن باتون ) ، وناقشوا فيها قضايا الديمقراطية والحروب الأهلية مثل رواية ( مسيح دارفور – للكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن ) ، وكانت مشاكل الهجرة حاضرة في المشهد الروائي الأفريقي الحديث مثل رواية ( كامراد – للكاتب الجزائري الصديق أحمد ) .
يبقى التحدي أمام الرواية الأفريقية متمثلاً في ضرورة الانتشار والصعود إلى كل المنصات الإعلامية المتاحة لأن الرواية الأفريقية لاتزال تعاني من ضعف مدخلات الإنتاج في الطباعة والنشر والإحتفاء بالمنتوج الثقافي .
الآمال الكبيرة والأحلام المؤجلة هي تلك التي يحمل رايتها الجيل الجديد من الروائيين الشباب الأفارقة ، هم امتداد للأجيال السابقة ولكن بمفاهيم اليوم والحاضر ، بلغتهم الخاصة والمميزة ستصل الرواية الأفريقية إلى مختلف شعوب العالم وتحتل المكان العالي في الأدب العالمي .



تعليقات

هو ليس تحقيق صحفي فحسب بل هي "دراسة أكاديمية" تستحق أن يتوسع فيها و تطبع في كتاب، قلة قليلة من لها اطلاع على الأدب الإفريقي ، شكرا على هذا الجهد الجبار، ملاحظة فقط الأولى هي أنك لم تذكري المراجع و المصادر التي اعتمدت عليها، و هذا من باب التوثيق ليس إلا.. الملاحظة الثانية لم تقدمي نفسكِ للقراء..أنت صحافية نعم لكن ما تزال اشياء اخرى (كاتبة روائية؟ شكرا مرة أخرى
 
تحية طيبة وتقدير استاذة علجية عيش
شكرا على تعليقك الطيب ، وسننقل رسالتك الى الاستاذة والمناضلة والحقوقية السودانية الاستاذة مروة التيجاني .. على امل تسليط الضوء على هذا اللون من الادب الذي نكاد لا نعرف عنه الشيء الكثير ..
وقد حاولنا في الانطولوجيا فتح نافذة للتعرف عليه مع ندرة النصوص ، خاصة انه يتميز بتناوله لمسألة الزنوجة التي خاض فيها بشكل مستفيض حسب علمي المتواضع الشاعر السينغالي ليوبولد سيدار سنغور ومحمد مفتاح الفيتوري اللذان يمجدانها بوافر من الفخار والاعتداد والشجاعة.. عطا مسألة الاستعمار والابارتايد ، واستنزاف مواردها

محبات
 
سنعيد نشره بإذن الله و بصيغة أخرى مع الحفاظ على الأمانة الإعلامية، شكرا على تعريفك بها استاذ نقوس المهدي و رمضان كريم للجميع
 

هذا النص

ملف
في الأدب الإفريقي - ملف
المشاهدات
1,573
التعليقات
3
آخر تحديث
أعلى