بعد التوقف الذي عرفته الساحة وإغلاق محلاتها وتسريح حلقاتها وخلوها من ناسها وأهلها بفعل جائحة كورونا . أتمنى أبن يبعث هذا الوشم شيء من الحياة في ذاكرة هذه الساحة الجميلة التي تسكن وجداننا منذ أن كنا أطفالا.
طبيب الحشرات (رحمه الله) ممثل بارع ، جعل من الحلقة في ساحة جامع الفنا في بداية السبعينات مدرسة للسخرية . لم يكن في حاجة لأي لقب أو تلفزيون ليتربع على عرش الساحة . حلقته بدون توقيت رسمي . الحظ وحده قد يمنحك لحظة الاستمتاع بمشاهدته . يمر أحيانا من الساحة بشكل سريع ، يرصده الأطفال ويجرون خلفه ويستعطفونه . وبمجرد ما يقف لالتقاط أنفاسه ، أو لإشعال سيجارة تكون الحلقة قد اكتملت . ينظر حوله ، يبتسم بمكر ، ثم يبدأ العرض للتعويض عن حرمان هذا الجمهور من الحق في التمدرس ، وللتخفيف عنه من آلام التشرد والمبيت تحت أي عربة يدوية أو الانزواء في أي ركن مظلم من أركان الساحة . بعد ذلك ينضم إلى حلقته جمهور قادم من الأحياء العتيقة لمراكش للترويح عن نفسه من تعب يوم قائظ.
أطلق عليه المراكشيون لقب طبيب الحشرات منذ بداية مشواره الفني ، لأنه اشتغل على السخرية من الواقع بلعب دور الطبيب الذي يسخر من أمراض ذات طابع اجتماعي أكثر منها عضوية.
في السبعينات من القرن الماضي لا يمكن أن يمر أبناء المدينة القديمة في المساء من الساحة دون أن يلقوا نظرة على حلقة الطبيب.
يبدأ طبيب الحشرات عروضه وقبل أن ينهيها يجمع بعض النقود ما بين 05 و 10 دراهم ، ثم يهرب في اتجاه سوق الجديد.
حلت مرة عاصفة رعدية بالساحة كما حكى لي أحد الأصدقاء ، وشرع الجمهور في الانسحاب في الوقت الذي بدأ يمهد فيه لجمع النقود ، فتوجه إلى السماء شاكيا ، وخاطب كائنا خفيا بقوله : ألم تجد غير هذا الوقت يا صاحب (الباش)* الأزرق لتنزل فيه غضبك علي.
في بعض الأحيان عندما ينتهي من جمع النقود ، يتوجه إلى الأطفال الذين يجلسون في حلقته : وانتم ألا تقدمون لي بعض البقشيش ؟ ثم يسخر منهم ،ويشبههم بخوابي سيد أحمد بن الكامل (ضريح) ومقبرة كانت تقع بين رياض الزيتون القديم والملاح . وكانت توضع ببابه خوابي لمن أصابه العطش وأراد أن يشرب الماء بالمجان.
ينتقد أحيانا وبسخرية شابا بدويا قوي البنيان يلبس ساعة يدوية غليظة وكبيرة . مرة يتصور أنها جهاز تجسس ، ومرة أخرى يتخيل ما سيحدث لو انفجرت مثل قنبلة . وبعدها تتعالى الضحكات داخل الحلقة.
الوقوف في حلقات جامع الفنا يحتاج إلى قشابة واسعة* . إذا كنت سريع الانفعال فلا تدخل أصلا إلى هذه الساحة.
في آخر أيامه منعته جهة ما من إدارة الحلقة بمفرده . أصبح عليه أن يشتغل بشراكة مع حلايقي آخر ، وهو ما كان يتضايق منه ويحد من حريته .
عندما تلعب الخمر برأسه ، كان يرمي بجسده في المقابر والزوايا المظلمة في باب الجديد ، أو يجد نفسه في مخفر الشرطة . أمكنة ينعتها في حلقته بفنادق أمريكا الفخمة . أما عندما يعود إلى الساحة بعد غياب طويل ، فهو يبرر اختفاءه بسفره إلى هولندا ، ويقصد بها سجن بولمهارز.
* الباش : سقيفة مغطاة بنوع من الجلد يخني أبواب باب الدكاكين والمقاهي من المطر / *قشابة واسعة : القشابة نوع من اللباس ، والعبارة كناية عن سعة الصدر أواتساع الخاطر .
مراكش 29 أبريل 2019
طبيب الحشرات (رحمه الله) ممثل بارع ، جعل من الحلقة في ساحة جامع الفنا في بداية السبعينات مدرسة للسخرية . لم يكن في حاجة لأي لقب أو تلفزيون ليتربع على عرش الساحة . حلقته بدون توقيت رسمي . الحظ وحده قد يمنحك لحظة الاستمتاع بمشاهدته . يمر أحيانا من الساحة بشكل سريع ، يرصده الأطفال ويجرون خلفه ويستعطفونه . وبمجرد ما يقف لالتقاط أنفاسه ، أو لإشعال سيجارة تكون الحلقة قد اكتملت . ينظر حوله ، يبتسم بمكر ، ثم يبدأ العرض للتعويض عن حرمان هذا الجمهور من الحق في التمدرس ، وللتخفيف عنه من آلام التشرد والمبيت تحت أي عربة يدوية أو الانزواء في أي ركن مظلم من أركان الساحة . بعد ذلك ينضم إلى حلقته جمهور قادم من الأحياء العتيقة لمراكش للترويح عن نفسه من تعب يوم قائظ.
أطلق عليه المراكشيون لقب طبيب الحشرات منذ بداية مشواره الفني ، لأنه اشتغل على السخرية من الواقع بلعب دور الطبيب الذي يسخر من أمراض ذات طابع اجتماعي أكثر منها عضوية.
في السبعينات من القرن الماضي لا يمكن أن يمر أبناء المدينة القديمة في المساء من الساحة دون أن يلقوا نظرة على حلقة الطبيب.
يبدأ طبيب الحشرات عروضه وقبل أن ينهيها يجمع بعض النقود ما بين 05 و 10 دراهم ، ثم يهرب في اتجاه سوق الجديد.
حلت مرة عاصفة رعدية بالساحة كما حكى لي أحد الأصدقاء ، وشرع الجمهور في الانسحاب في الوقت الذي بدأ يمهد فيه لجمع النقود ، فتوجه إلى السماء شاكيا ، وخاطب كائنا خفيا بقوله : ألم تجد غير هذا الوقت يا صاحب (الباش)* الأزرق لتنزل فيه غضبك علي.
في بعض الأحيان عندما ينتهي من جمع النقود ، يتوجه إلى الأطفال الذين يجلسون في حلقته : وانتم ألا تقدمون لي بعض البقشيش ؟ ثم يسخر منهم ،ويشبههم بخوابي سيد أحمد بن الكامل (ضريح) ومقبرة كانت تقع بين رياض الزيتون القديم والملاح . وكانت توضع ببابه خوابي لمن أصابه العطش وأراد أن يشرب الماء بالمجان.
ينتقد أحيانا وبسخرية شابا بدويا قوي البنيان يلبس ساعة يدوية غليظة وكبيرة . مرة يتصور أنها جهاز تجسس ، ومرة أخرى يتخيل ما سيحدث لو انفجرت مثل قنبلة . وبعدها تتعالى الضحكات داخل الحلقة.
الوقوف في حلقات جامع الفنا يحتاج إلى قشابة واسعة* . إذا كنت سريع الانفعال فلا تدخل أصلا إلى هذه الساحة.
في آخر أيامه منعته جهة ما من إدارة الحلقة بمفرده . أصبح عليه أن يشتغل بشراكة مع حلايقي آخر ، وهو ما كان يتضايق منه ويحد من حريته .
عندما تلعب الخمر برأسه ، كان يرمي بجسده في المقابر والزوايا المظلمة في باب الجديد ، أو يجد نفسه في مخفر الشرطة . أمكنة ينعتها في حلقته بفنادق أمريكا الفخمة . أما عندما يعود إلى الساحة بعد غياب طويل ، فهو يبرر اختفاءه بسفره إلى هولندا ، ويقصد بها سجن بولمهارز.
* الباش : سقيفة مغطاة بنوع من الجلد يخني أبواب باب الدكاكين والمقاهي من المطر / *قشابة واسعة : القشابة نوع من اللباس ، والعبارة كناية عن سعة الصدر أواتساع الخاطر .
مراكش 29 أبريل 2019