شرحنا في المقال السابق فلسفة سبينوزا الميتافيزيقية التي تتلخص في أن في الكون حقيقة واحدة خالدة، هي عبارة عن قانون عام شامل لا ينقص ولا يزيد. هذه الحقيقة الخالدة، أو هذا القانون الشامل، لا يمكن أن يعبر عن نفسه ويفصح عن حقيقته إلا بواسطة الأجسام المادية، فاتخذ من تلك المادة التي تملأ جوانب الكون، قوالب وأشكالا لكي يبرز عن طريقها إلى عالم الواقع المحسوس، وهذه الصور والأشكال المادية التي تتخذ وسيلة للتعبير عن ذلك القانون الخالد، لا تظل على هيئة خاصة معينة، فهي متغيرة متبدلة أبدا، بل قد تزول وتفنى، ولكن تلك الحقيقة نفسها باقية خالدة لا تفنى ولا تزول، بل لا تنقص ولا تزيد، وهي لا تفتأ تلبس هذا الثوب المادي وتخلع ذاك إلى أبد الآبدين. وذكرنا أن ذلك القانون الأعلى وهذه الطبيعة شيء واحد لا يقبل التجزئة.
ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية والسياسية إتماما للبحث:
الذكاء والأخلاق
للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر بالحديد والدم.
وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية
ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى الكمال، والألم شعور بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك، وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة أدنى إلى الكمال
فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.
وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء
والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أي أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (إن الطبيب أو المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها، وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا)
بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا: (ان من يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن تحكم نفسك
هذه الحرية التي تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد
الرسالة السياسية
كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة في فرنسا يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هي الدولة
وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد
كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.
اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى
(فالغرض الأسمى من الدولة إذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)
وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .
وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية
مجلة الرسالة - العدد 15
بتاريخ: 15 - 08 - 1933
ونزيد في هذا المقال أن نتناول بالشرح الموجز فلسفته الأخلاقية والسياسية إتماما للبحث:
الذكاء والأخلاق
للأخلاق فلسفة متضاربة متناقضة، فهذا الفيلسوف يدعو إلى نظام أخلاقي معين، وذاك يروج لنقيضه، وثالث يقف بين بين، يأخذ من هذا وذاك بمقدار. فهذه المسيحية تبشر بفضائل الاستكانة والتواضع، وتدعو الناس إلى العطف والرحمة والإيثار، وتعلم الناس أنهم جميعا سواسية لا يمتاز رجل على رجل، ترد الشر بالخير، وتميل في السياسة إلى الديمقراطية المطلقة من كل القيود، وهي تعتبر المحبة أساس الفضيلة. . وذانكم مكيافلي ونيتشه يدعوان الناس إلى التخلق بأخلاق الرجولة القوية الصحيحة، وينكران المساواة بين الناس، فمنهم الضعيف ومنهم القوي، وفيهم العبقري الفيلسوف وفيهم الغبي الأبله، ويحفزان الناس إلى نبذ السلم والمغامرة في معمعان العراك والقتال ليحرز النصر من هو جدير بالنصر، وليتربع على الحكم من يستحق الحكم والسلطان، والفضيلة عندهما هي القوة، ويميلان في السياسة إلى الاستبداد والأرستقراطية الوراثية، فمكيافلي يصرح في كتابه (الأمير) بكل جرأة: (أن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لابد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين) كما يحبذ نيتشه سياسة بسمارك التي تنتصر بالحديد والدم.
وبين هذين النقيضين يقوم نظام أخلاقي وسط بين حب المسيح وقوة نيتشه، دعا إليه أرسطو، ومؤداه المزج بين أخلاق الضعف وأخلاق القوة، ويريد أن يلقى بزمام الأمر إلى العقل المثقف الحكيم، فهو وحده الذي يصح أن يؤتمن على اختيار الأخلاق الملائمة للمواقف المختلفة، فهو يعرف متى يلبس لبوس الحنان والعطف، ومتى يتنمر ليفترس، ومعنى ذلك أن الفضيلة عند أرسطو هي الذكاء، ويميل في السياسة إلى مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية
ثم جاء سبينوزا فأخذ ينسج من هذه الصور وحدة خلقية متناسقة. وهو في هذا يسير سيرا منطقيا دقيقا حتى ينتهي إلى نتائجه التي يقدمها، فهو يبدأ بتقريره أن السعادة هي الغرض المقصود من الأخلاق الفاضلة. ولكن ما هي هذه السعادة التي نتجه نحوها ونقصد إليها؟ هي عنده في بساطة لا لبس فيها ولا غموض، وجود السرور وارتفاع الألم. ولكنا نعود فنقول: وما السرور والألم؟ أهما حالتان معينتان؟ أم هما نسبيان يختلفان باختلاف الأشخاص؟ هنا يجيب سيبنوزا بأنهما ليسا حالتين، أي ليس ثمة حالة مستقرة يقف عندها المرء قائلا: هنا السعادة، وهناك الألم. إنما السعادة شعور بانتقال النفس إلى درجة أدنى إلى الكمال، والألم شعور بانتقالها إلى مرتبة أبعد عنه. ولما كان الكمال عنده هو القوة، لا قوة نيتشه الغاشمة العمياء التي تقوم على الغريزة الوحشية، ولكنها القوة العقلية المتزنة. فكلما درجت صاعدا في سبيل هذه القوة العقلية كنت أقرب إلى الكمال، وكنت بالتالي سعيدا مطمئن النفس. ومعنى هذا أن العواطف والمشاعر هي مسالك أو طرق تسير فيها النفس، مقبلة نحو القوة تارة، مدبرة عنها طورا. (لاحظ العلاقة بين كلمتي ووكذلك بين كلمتي ولتدرك العلاقة القوية في اللفظ بين ألفاظ الحركة وألفاظ العواطف والمشاعر. ومثل هذه العلاقة موجودة أيضا في اللغة الفرنسية) فالفضيلة والقوة عند سبينوزا شيء واحد، أي أن الفضيلة هي زيادة فاعلية النفس التي تعمل على حفظ البقاء. وكلما اتسعت مقدرة الإنسان على حفظ وجوده ازداد ما يتحلى به من فضيلة. وبعبارة أوضح يعتقد سبينوزا أن أساس الفضيلة هي الأنانية المعتدلة التي تعينك على الاحتفاظ بوجودك، وهو لا يرى في حب الشخص لنفسه ضررا يلحق بالأخرين، واذن فلا خير في أن تضحي بنفسك من أجل غيرك إلا إذا كان في ذلك قوة لك، وهكذا يجب أن يحب كل إنسان نفسه، وان يلتمس كل وسيلة ممكنة تأخذ بيده إلى مرتبة أدنى إلى الكمال
فأنت ترى من ذلك أن سبينوزا لا يبني الأخلاق على الإيثار والخير الطبيعي، ولا على الأنانية البشعة والشر الطبيعي، ولكن على أنانية معقولة لا يجد منها مفرا لحفظ البقاء وعنده أن هذه الأنانية المعتدلة التي يمليها منطق الحياة نفسها لا يمكن أن تباعد بين مصالح الأفراد، أو تبذر بذور البغضاء في النفوس، لذلك تراه لا يتمالك نفسه حيرة في هذا التحاسد والتنابذ والكراهية، وهو يائس من أن يبرأ المجتمع من علله وأمراضه قبل أن يهذب الناس من هذه العواطف ويصلحوها، وهو ينصح لنا أن نبادل أعدائنا حبا بكره، ذلك لأن الكراهية تنمو وتتغذى إذا وجدت لها صدى من كراهية مثلها في نفوس الآخرين. وهو بمحاربة هذا التباغض، ينشد فينا النخوة الحق والرجولة الصحيحة، فأنت حين تشعر بالكراهية نحو غيرك، فإنما يكون ذلك اعترافا صريحا منك بانحطاطك دونه وخوفك منه، لأنك لا تكره عدوا تثق بأنك تستطيع أن تتغلب عليه في سهولة وتدحره في غير عناء.
وإذا كانت عواطفنا الغريزية كما نرى حائرة السبيل يعوزها الدليل الأمين، فلا يجوز إذن أن نلقي بزمامنا اليها، إنما يجب أن يكون الفكر وحده رائدنا، ولكن سبينوزا لا يريد أن نكبح الغرائز جملة واحدة، لا بل نستغلها ونتخذ منها دافعا يسوقنا تحت سيطرة العقل وإشرافه، فتكون هي بمثابة قوة البخار الذي يدفع القطار، ويكون العقل بمثابة السائق الذي يتحكم في سيره ووقوفه، وحجته في عجز الغرائز وحدها عن القيادة، انها متضادة الأغراض متضاربة المقاصد، فإذا ما تركناها على سجيتها، انطلقت كل واحدة تسعى في إشباع رغبتها، دون أن تراعي صالح الكل، وإذن فلابد من رقابة رشيدة تعمل أولا وقبل كل شيء لما فيه خير الشخص كمجموعة متحدة، بأن نكبح بعض الغرائز حينا، ونطلق بعضها الآخر حينا، حسب ما يتطلبه الموقف، ومعنى ذلك كله أن الفضيلة مرهونة بالمعرفة أو الذكاء
والذكاء وحده هو الوسيلة التي نستطيع بها أن نحرر أنفسنا من سيطرة الغرائز التي تفرض عليها سلوكا معينا، وتعمل جهدها لقسرنا عليه، فنحن عبيد لها بقدر انسياقنا لما تمليه علينا، أي أن سلبية العاطفة عبودية للآنسان، وحريته في فاعلية العقل. فالحرية الشخصية متوقفة على المعرفة، وفي ذلك يقول ديوي أستاذ الفلسفة في جامعة كولمبيا بالولايات المتحدة: (إن الطبيب أو المهندس يكون حرا في فكره وعمله بمقدار ما تتسع معرفته في المهنة التي يباشرها، وقد تكون هذه المعرفة مفتاح الحريات جميعا)
بناء على ذلك يكون السوبرمان (الإنسان الأعلى) الذي ينشده سبينوزا هو الذي يستطيع أن يحرر نفسه من سلطان الغرائز، وليس هو الذي يتخلص من القيود الاجتماعية العادلة كما صوره نبتشه. يقول سبينوزا: (ان من يعملون الخير بناء على إرادة العقل، ويلتمسون النفع الذي يدل عليه المنطق الصحيح، هؤلاء في الواقع ينشدون مع خير أنفسهم صالحا للإنسانية عامة) فلأن تكون عظيما لا يعني أن تضع نفسك فوق مستوى البشر لتنشب أظفارك في أعناقهم كما يريد نيتشه، ولكن العظمة هي أن تترفع عن سخف الرغبات الغريزية، التي لا يشرف عليها عقل متزن حكيم، ليست العظمة في أن تحكم الآخرين، وإنما هي في أن تحكم نفسك
هذه الحرية التي تستطيع أن تنعم بها من السيطرة على نفسك هي أشرف مما يسمونه حرية الإرادة، لأن الإرادة مجبرة مسيرة، أو قل ليس ثمة إرادة ما، لأن الإرادة والفكر وجهان لحقيقة واحدة. وهنا يلاحظ سبينوزا أن ليس في جبر الإرادة نقيصة يؤسف عليها، بل هو يهذب الأخلاق ويسمو بها إلى مستوى رفيع، فهو يعلمنا ألا نحتقر انسانا، كائنا ما كان موضعه من المجتمع، لأنه غير مسئول عن ذلك الموضع، إنما كتبت له الإرادة العليا أن يكون حيث هو. والجبر كذلك يوحي إلينا الرضى عما قد يبديه الدهر من قسوة وغلظة، لأننا نعلم أنه إن ظلم وجار في ناحية معينة، فلابد أن يكون ذلك لصالح الكل، ما دامت الأفراد جزءا من جسم الوجود المتحد
الرسالة السياسية
كان صوت سبينوزا واحدا من تلك الأصوات التي انطلقت تصيح بحرية الإنسان. ففي نفس الوقت الذي كان فيه (هوبز) يدافع عن الملكية في إنجلترا، ويقاوم بنظريته قوة الشعب الإنجليزي التي أخذت تناهض استبداد الملك، كتب سبينوزا فلسفته السياسية، وهي تعبر تعبيرا صادقا عن الديمقراطية التي بدأ يختلج حلمها الجميل في نفوس الناس عندئذ، والتي أخذت تنمو وتنمو حتى بلغت ذروتها عند روسو، ثم تدفقت ثورة عنيفة في فرنسا يقدم سبينوزا بادئ الأمر هذه البديهية التي لا تحتمل الشك، وهي إن الإنسان في أول نشأته كان يعيش منفردا غير مجتمع، فلا يرتبط مع غيره بقانون ولا نظام، لا يفهم معنى الحق ألا ما يستطيع أن يستولي عليه بالقوة، وإذن لم يكن ذلك الإنسان الأول يدرك معنى الخير والشر، لأنهما عبارتان اصطلح عليهما بعد تكوين المجتمع، إذ أطلقتا على بعض الأعمال التي تواضع عليها الأفراد، أما قبل ذلك فكان الفرد يتصرف حسب ما تملي عليه شهوته، وبالطبع لم يكن مسئولا عن تصرفاته إلا أمام نفسه، ومعنى هذا أن الجريمة لم يكن لها وجود في الحياة الطبيعية الأولى، لأنها لا تدرك إلا في حالة المدنية، حيث يتفق الجميع على تحديد الخير والشر، ويصبح كل إنسان مسئولا عن ذلك أمام هيئة معترف بها هي الدولة
وأنت تستطيع أن تتمثل الحياة الطبيعية الأولى التي لم تكن تفرق بين الخير والشر، أو بعبارة أخرى بين ما يجوز عمله وما لا يجوز، في علاقة الدول بعضها مع بعض، إذ لا يربطها نظام خلقي معترف به في قوة النظام الذي يربط الأفراد، ولا تشرف عليها سلطة عامة نافذة الإرادة كما هي الحال بين الأفراد، لذلك كان الحق في العلاقات الدولية هو القوة (يلاحظ أن اسم الدولة العظمى بالإنجليزية هو وفي هذا إشارة صريحة تؤيد هذا المعنى) إذ لا تفهم الدول على وجه الدقة معنى الخير والشر كما يفهمها الأفراد
كان الناس إذن يعيشون بادئ الأمر كما تعيش الدول الآن، ليس لأحدهم عند الآخر حقوق، ولكن لم يلبث الإنسان أن شعر بحاجته إلى التعاون لدرء ما يتعرض له من الخطر، فاتفق الأفراد فيما بينهم على أن يتآزروا إذا دهمهم داهم من سوء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس مدنياً بالطبع، ولكنه اجتمع لدفع أخطار الحياة. وحسبك دليلا أن تلقى نظرة عجلى على الغرائز الإنسانية، لترى كيف أن الغرائز الاجتماعية أضعف جدا من الغرائز الفردية، فالإنسان يسعى لخيره أولا ثم يسعى لخير الدولة، بل هي الأنانية أيضا التي تدفعه للسعي وراء خير الدولة، لأنها دولته هو، ويريد أن يسعد بسعادتها.
اضطر الإنسان إذن إلى الاجتماع بعد تلك الحياة الفردية، فتواضع الجميع على حدود خاصة لا يجوز لواحد أن يشذ عنها، بحيث يصبح لكل إنسان الحق في أن يتصرف كيف شاء، دون أن يخرج على تلك الحدود المرسومة، أي أن له أن يستمتع بكل ما له من قوة شخصية دون أن يغير على حرية الآخرين، وبعبارة أخرى اتفق الأفراد على أن ينزل كل منهم عن بعض حقوقه الطبيعية لهذه الجماعة المنظمة، في مقابل أن يأمن ويطمئن على حقوقه الباقية، أي أن قانون الجماعة يجب ألا تزيد وظيفته على الأشراف العام، بحيث يسعى كل فرد حرا، في غير تضارب ولا تنافر بين الأفراد، أي أن القانون الكامل يجب أن يكون للأفراد بمثابة العقل للعواطف: يحسن تصريفها بحيث يزيد نشاطها من قوة الكل، دون أن تتعرض واحدة منها لنشاط الأخرى
(فالغرض الأسمى من الدولة إذن، لا أن تحكم الناس، ولا أن تحد من مجهودهم، بل يجب أن تؤمن الإنسان من كل المخاوف، حتى يعيش ويعمل في طمأنينة تامة. . . الغرض من الدولة أن تدع الناس يعيش بعضهم بجانب بعض، كل يستغل قوته العقلية في صالح المجموعة، حتى لا تتبدد قواهم في التنابذ والتنافر، إذن فالغرض الأسمى من الدولة هو الحرية)
وظيفة الدولة العليا أن تكفل للأفراد حريتهم، ومعنى ذلك أن الديمقراطية هي المثل الأعلى لنظام الحكم، ثم يستدرك سبينوزا بقوله أن ضرر الديمقراطية الوحيد هو ميلها إلى وضع غير الأكفاء في مناصب الحكم، ولذلك ينصح علاجا لذلك أن يتسلم إدارة الدولة جماعة من ذوي العقول الجبارة، كي يسيروا بها بعيدا عن مواطن الزلل. . . .
وفاضت روح سبينوزا وهو يكتب للناس رسالة الحرية
مجلة الرسالة - العدد 15
بتاريخ: 15 - 08 - 1933